ثمة تباينات عديدة في المواقف الإقليمية تجاه أحداث غزة التي اندلعت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تحديداً بين قوى الخليج، وهي قوى غير متجانسة في مواقفها، وتنبعث تناقضاتها من حسابات ورهانات عديدة، بعضها سياسي وأمني والبعض الآخر جيوسياسي. فيما يبدو الموقف بإيران، الخصم والمنافس الإقليمي للعديد من دول الخليج، أكثر وضوحاً ودقة في مساحة الملء السياسي التي يراكمها، وحجم الدور الميداني الذي يشكل أجسامه، ويصنع موازينه الاستراتيجية.

الهجمات المباغتة التي شنتها حركة حماس في غزة ضد إسرائيل، تماثل ما يجري في الحرب الأوكرانية، فالأولى تعيد ترتيب سياسات وتحالفات الإقليم بالشرق الأوسط، بينما الأخيرة تعيد ترتيب قمة العالم في إطار التنافس المحتدم بين روسيا والولايات المتحدة. وقد وضعت وثيقة الأمن القومي الأمريكية موسكو في قمة أولوياتها بعد الصين. لكن هذه الهجمات التي جاءت في غضون أسابيع قليلة من لقاءات مكثفة، أعلن فيها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، “الاقتراب يوماً بعد يوم” من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بما يؤدي إلى تحالفات أمنية برعاية الولايات المتحدة، تهدد طهران التي تقاربت في الوقت ذاته مع الرياض برعاية بكين، بينما يبدو الاتفاق محدوداً وهشاً، تؤشر إلى سياق سياسي وزمني لهما دلالة مباشرة بخصوص التوازنات المطلوبة بالمنطقة.

وهنا، كانت القضية الفلسطينية التي انفجرت وسيلة تصعيد قصوى ومبررة، لاستدعاء الأطراف الإقليمية أمام هدف مركزي، قادر على التعبئة والاستقطاب بعيداً عن الدوائر الثنائية التقليدية، منذ عشرية الربيع العربي (إسلام سياسي/ قوى مدنية).

تعاود قوى الخليج، لا سيما التي دشنت “اتفاقات إبراهام” أو التي تنتظر في الأفق، مراجعة حساباتها المرتبكة؛ بشأن القضية الفلسطينية كورقة سياسية إقليمية رابحة، تمكنها من دور وساطة مهم بدعم واشنطن، ويجعلها ترتقي درجات (!). كما تراجع الحسابات ذاتها مع علاقتها بإسرائيل، باعتباره شريكاً أمنياً محتملاً، يعوضها عن الأحمال المفقودة في مسار صراعها، وتنافسها مع طهران. فالقضية الفلسطينية تمنح حمولة أيديولوجية، لا يمكن بحال التخلي عنها طوعاً.

لذا، عندما التقى القادة العرب والمسلمين ومنهم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، (أول رئيس إيراني يزور السعودية، منذ أكثر من عقد) في القمة العربية الإسلامية الطارئة بشأن غزة، طالبت السعودية بـ “وقف شامل لإطلاق النار” في غزة، واعتبرت الحرب “تطور خطير” و”كارثة إنسانية”. وهذا موقف، يكاد يكون متماثل بين الحضور كافة مع اختلاف في تفاصيل، وتراجع وتوضيح للمواقف لاحقاً.

ففي النصف الثاني من الشهر الماضي، تشرين الثاني/ نوفمبر، بحوار المنامة الذي عقده المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في البحرين، شن الأمير السعودي تركي الفيصل، السفير السابق لدى واشنطن ورئيس الاستخبارات السابق، هجوماً على حماس، ووصف ما حدث في 7 تشرين الأول/ أكتوبر بالهجمات “البربرية”.

صحيح أن وصف تركي الفيصل طاول إسرائيل التي تستهدف المدنيين في غزة، والضفة الغربية، إلا أن حديثه ارتكز على دور مركزي للسعودية؛ بشأن حل القضية الفلسطينية من وجهة نظر المملكة، في إشارة إلى مبادرة السلام العربية التي طرحتها عام 2002. وهي المبادرة التي عاود التذكير بها، وحملت أو بالأحرى، ألمح ضمناً من خلالها إلى أفق سياسي؛ للحل والهدوء بالمعنى الذي يترتب عليه تسهيل وضع إسرائيل بالمنطقة في ظل صعود التوجهات نحو اتفاقات “إبراهام”. وقال الأمير السعودي، إن “هذه المبادرة تمنح إسرائيل الاعتراف الذي ترغب به من الدول العربية والإسلامية، وتجعل تطبيع العلاقات بين الدول أمرًا طبيعيًا، وتجعل إسرائيل دولة مندمجة بشكل طبيعي في المنطقة، والأهم من كل شيء، أنها تحقق العدالة للفلسطينيين بدولتهم الخاصة”.

لكن الإمارات والبحرين باشرت كل منهما في الدفاع أو تبرير علاقاتهما بتل أبيب. وكان أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، قد قال إن بلاده تتمتع بنفوذ مؤثر على إسرائيل، لم يكن ليوجد إلا على خلفية عملية التطبيع، مشيراً إلى جدوى هذا التقارب في الضغط؛ من أجل تمرير الدور “الإغاثي” والإنساني” للإمارات. وعندما سُئل، عما إذا كان هناك أي شيء قد يضطر الإمارات لقطع العلاقات مع إسرائيل، رد بتردد وحذر شديدين: “ما اكتشفناه من خلال جهودنا ونشاطنا الدبلوماسي، أن عملية التفاوض هي الحل في السياسة”.

ليس هناك أي موقف موحد تام ونهائي بين دول مجلس التعاون الخليجي؛ بشأن إسرائيل وحماس بطبيعة الحال. فمثلاً: تعلن الكويت موقفاً متشدداً، ترفض التطبيع والتعاطي مع تل أبيب. في حين تتبدى مرونة وبراغماتية في السعودية وعمان وقطر، ثم التطبيع الكامل لدى البحرين والإمارات العربية المتحدة. وقد كان تركيز المجموعة المطبعة على حماس، وانتقاد ممارساتها بحق المدنيين، بينما باقي المجموعات تدين التصعيد الإسرائيلي، وتسعى إلى طرح مبدأ “حل الدولتين”، والسعي لدور الوساطة؛ لإنهاء الأزمة والبدء في المفاوضات. فيما أخذ الموقف الخليجي يأخذ انعطافات أخرى مع توسع الصراع، وتكثيف إسرائيل وحماس عملياتهما، فاشتدت اللهجة القطرية، بينما ظلت الإمارات على موقفها ضد حماس.

اللافت أن السعودية التي تسعى لتقارب مع إسرائيل، باغتت الجميع بمواقف متشددة ضد إسرائيل، من دون أن يعني ذلك تراجعاً في عملية التطبيع التي أكدها مؤخراً الأمير محمد بن سلمان، وكذا الرئيس الأمريكي جو بايدن. لكن المسألة الفلسطينية بالنسبة للرياض تقع في بؤرة مفاعيلها الاستراتيجية إقليمياً، بينما لا تقل أهمية عن شراكتها مع الآخرين؛ حيث إنها لن تترك فراغاً، تقوم طهران بملئه.

الثابت في الموقف الخليجي هو الدور القطري الذي يتعين في مواقع محددة، ويراكم فيها نفوذه ورأسماله السياسي، وذلك من خلال تأمين قنوات اتصال دبلوماسية مع حماس وانفتاحه على إسرائيل. وذلك بما يمكنها من أداء دور وساطة مهم، كما برز مع الدور المصري في عملية وقف إطلاق النار، وتسليم الرهائن برعاية الولايات المتحدة. وتبقى المواقف الإماراتية هي الأكثر ارتباكاً في خارج الدوائر الرسمية، الأمر الذي برز مع نهاية تشرين الأول (أكتوبر) وقد غرد الأكاديني والسياسي الإماراتي عبد الخالق عبد الله، على حسابه الرسمي في موقع (تويتر/ إكس)، بأن “الشعب يريد طرد السفير الإسرائيلي في الإمارات”، ثم عاد وحذفها. وفي الرياض، حذف نادي الهلال لكرة القدم صورة أحد لاعبيه مرتديا كوفية فلسطينية بعد أقل من ساعة على نشرها على المنصة ذاتها. وفي عبارة موجزة، الحرب في غزة، تبدو للسعودية منحة سياسية، ومعضلة إقليمية، يتعين التعاطي معها في إطارين متوازيين، دون أن يخف وزن أحدهما، أو تسقط بينهما، قبل أن تتمكن من الثبات والتوازن.

والمعضلة التي تواجهها بعض بلدان الخليج، هي محاولة إبعاد حماس عن تسيد القضية الفلسطينية على حساب السلطة في الضفة الغربية. وهذا ما برز في موقف تركي الفيصل الحاد الذي هاجم حماس ووصف هجومها على إسرائيل، بأنه “ليس بطولة”، إنما يخلف “ضحايا” و”تورطت في ممارسات، لا تمثل الإسلام”.

كما تتخوف الرياض من توسع الحرب أبعد من غزة، أو بالأحرى تفاقم “عسكرة” البحر الأحمر وممرات الملاحة الدولية، وزيادة السيطرة على الموانئ البحرية بواسطة ميلشيات الحوثي المدعومة من إيران، والتي تباشر منذ بدء الحرب في غزة تنفيذ هجمات، ضد السفن النفطية الإسرائيلية. كما أن هذا التصعيد يضيف أعباء أمنية على السعودية والإمارات تحديداً مع كثافة النيران الحوثية، ناهيك عن القواعد الأمريكية المتواجدة في دول الخليج، والتي تقع في متن تهديدات وكلاء إيران بالمنطقة.

ومن هنا، يمكن القول إن الموقف الإيراني المتشدد تجاه إسرائيل يكشف عن دعم حركة حماس، أو بالأحرى التحالف معها، كما هو واضح من ضلوع الحرس الثوري الإيراني؛ بشأن تنسيق الهجمات مع الجناح العسكري للحركة الفلسطينية كتائب “عز الدين القسام”، خاصة مع وجود معلومات حول “غرفة عمليات مشتركة” في جنوب لبنان (وتدريبات سبقت الهجوم في 7 أكتوبر بمنطقة عرمتي بجنوب لبنان، والتي تماثل جغرافيا إسرائيل، حيث توفرت فيها كافة الإمكانيات؛ لمحاكاة الوضع الميداني باستخدام الموتوسيكلات، وعمليات التسلل السري، ومقاومة الحواجز الأمنية الإسرائيلية). وهي غرفة أمنية يديرها قادة من “الحرس”، ويتواجد بها ممثلون عن الفصائل الولائية العراقية والسورية منها كتائب حزب الله العراقي، وفيلق “فاطميون” بسوريا إلى جانب القادة الفلسطينيين من ممثلي حماس بلبنان.

وغرفة العمليات المشتركة في لبنان، هي تعبير سياسي عملي؛ لمبدأ “وحدة الساحات” الذي يتبناه الحزب المدعوم من إيران، بينما يروج له “آيات الله”. ونجحت إيران في لبنان تمتين العلاقات بين النسخة السنية للإسلام السياسي، وهي الجماعة الإسلامية (الإخوان المسلمون في لبنان) وحزب الله. مع الأخذ في الاعتبار، أن “قوات فجر” قد نفذت بتنسيق مع الأخيرة، للمرة الأولى، منذ الحرب الأهلية اللبنانية عبر جناحها العسكري “قوات فجر” هجمات ضد إسرائيل. بل إن طهران نجحت في تصعيد القوى المؤيدة لها في التنظيم السني، وتهميش الأطراف الأخرى والتي كان لها موقف متشدد من إيران، والنظام في سوريا، وذلك في الانتخابات الداخلية للجماعة الإسلامية قبل عام تقريباً.

وتعد غرفة العمليات المشتركة في لبنان مسؤولة بشكل دقيق عن عدة مهام رئيسية، تتصل بالتنسيق بين الفصائل التابعة لإيران، ومتابعة مسار الصراع والتحكم به. فضلاً عن إدارة الهجمات الالكترونية الخاصة بتعطيل وإضعاف الأنظمة الدفاعية الاسرائيلية البرية والجوية، كما حدث لحظة الهجوم في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

لكن، ورغم ذلك، لا تهدف طهران إلى التورط في الحرب بشكل مباشرة وخشن، من خلال فتح جبهة في لبنان، ثم وضع حزب الله في مواجهة مع إسرائيل. حيث إنها تتجه نحو توتير الأوضاع وفقط، من دون أن تنفلت الأمور. وهو ما يظهر من خلال حساب الضربات المحددة بدقة، سواء من جانب الحزب الولائي أو حتى القوات الإسرائيلية. فيما تسعى إيران إلى تحقيق كافة الشروط الميدانية التي تمكنها من لحظة اليوم التالي بعد الحرب، وإنهاء بعض التسويات الضرورية والملحة، ومنها عملية الترسيم البحري والبري في لبنان وحصة النفط في شرق المتوسط، حل أزمة الضغوط الاقتصادية والعقوبات على إيران تحديدا المرتبطة بالقطاع النفطي، ثم الملف النووي.

كما أن إيران باتت تعي، أن صعود حماس على تخوم القضية الفلسطينية، يكاد أن يكون قاب قوسين أو أدنى، بل أمر واقع يعكس تسيدها على حساب السلطة في الضفة، خاصة مع صورة محمود عباس التي يتم إظهار ضعفها ومحدوديتها. مع الأخذ في الاعتبار، أن نتائج قياس اتجاهات الرأي العام بفلسطين وفق تقرير صادر مؤخراً، عن المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، يقول إن 60 % يؤيدون حل السلطة الفلسطينية. وقال 16% فقط أنهم سيصوتون لعباس في الانتخابات الرئاسية و60 % دعوا لتولي حماس المسؤولية.

إقليمياً، من المطلوب تحقيق تغييرات جذرية، تتصل بوقف وتعطيل عمليات التطبيع، والتأكيد على أن إيران لها هيمنة عسكرية وسياسية، لا يمكن بحالها تقويضها. بل أي خطوة في ملفات تتصل بالقضية الفلسطينية أو التطبيع، لن تكون بمعزل عن مصالح إيران، ولا يمكن تجاهلها. والنتيجة المطلوبة هي رسم خارطة نفوذ جديدة بالمنطقة، وفي فلسطين.