نحن- العرب والمسلمين- في سباق مع الغرب من ألف وخمسمائة عام على وجه التقريب، الخمسمائة الأولى، بدأت بالفتوحات الإسلامية، وانتهت بالحروب الصليبية، الخمسمائة الثانية، بدأت بالحروب الصليبية، وختمت بالكشوف الجغرافية، الخمسمائة الثالثة، بدأت بالكشوف الجغرافية، وانتهت بالاستعمار الأوروبي، ثم تأسيس الدولة الصهيونية. الخمسمائة الأولى، كان لنا فيها التفوق والسبق العلمي والثقافي والعمراني والحضاري في كل المجالات، كنا نحن العالم الأول، كنا نحن العالم المتقدم، وكانت أوروبا في القرون الأربعة لنهضتنا الباهرة، تعيش عصورها المظلمة المتخلفة. الخمسمائة الثانية، منطقة لقاء وسيطة بيننا وبينهم، بدأنا نحن الرحلة الطويلة في النزول التدريجي عن القمة، وبدأت أوروبا رحلتها الطويلة في الصعود التدريجي من القاع. الخمسمائة الثالثة، تأكد خروجنا من سياق الحضارة المهيمنة، كما تأكد اعتلاء أوروبا منصة الريادة الحضارة. الخلاصة: الآن حضارتنا جزء من الماضي البعيد، بينما حضارة أوروبا- بقيادة أمريكا- هي الحضارة القائدة والرائدة والسائدة في الحاضر، وفي المستقبل المنظور.

التفوق المحض كان لنا- فقط – في القرون الأربعة الأولى، من هجرة حضرة سيدنا النبي من مكة إلى المدينة عند مطلع القرن السابع الميلادي، ولم يكد ينتهي القرن العاشر الميلادي، ويبدأ القرن الحادي عشر، حتى كان تفوقنا قد بدأ يتراجع، والتفوق الأوروبي الوليد، قد بدأ يتنفس وسط الظلمات، ويشق طريقه الطويل نحو النور. في القرنين الثاني عشر، والثالث عشر، بدأت أوروبا تباشير نهضتها من نقطة مهمة هي: البدء مما انتهينا إليه، ذهبت أوروبا، تقتبس وتستوعب، وتهضم كل منجزاتنا في كل العلوم، وبدأت تبني عليها، بالقطع استلهمت أوروبا تراثها اليوناني، والروماني والمسيحي، ولكنها لم تستغرق في إعادة استنساخه كما كان، أو إعادة انتاجه كما كان، لكن أوروبا جمعت- بدأب وهمة وعبقرية- بين دروس ماضيها، ومنجزات العلوم العربية الإسلامية.

ألف عام من السباق، كنا فيه بين ثلاثة مواقف: موقف الدفاع وقد استنزف طاقات الأجناس غير العربية التي تصدت للقيادة مثل، الأتراك السلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك، ثم موقف بعضه دفاعي، وبعضه هجومي تحت القيادة العثمانية، حيث قرنان من دك العثمانيين وسط وشرق أوروبا، ثم قرنان من الدفاع، ثم موقف الهزيمة التاريخية، والانكسار النهائي مع السقوط التدريجي للدولة العثمانية على مدار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولم يهل هلال القرن العشرين، حتى كانت قد دخلت متاحف التاريخ. ثم على جثة الدولة العثمانية، تأسست الدول القومية بعد صراع بعضه، كان ضدها، وبعضه كان ضد الاستعمار الأوروبي.

هذه الدول القومية لم تتخلص من تراث الضعف والفساد، والتخلف الذي ساد القرنين الأخيرين من اضمحلال الدولة العثمانية، فهي مقيدة بهذا الإرث، محكومة بهذا الماضي، وعت ذلك أم غاب عن وعيها. كذلك فإن هذه الدول القومية انشغلت بمسائل الهوية، أكثر من انشغالها باكتساب عناصر السبق والتفوق والقوة. ورغم أن أكثر هذه الدول القومية سعت للتميز عن الغرب والاستقلال عنه، إلا أنها- وعت ذلك أو غاب عن وعيها- خضعت خضوعاً بنيويا لا فكاك منه لقوة الغرب وهيمنته. وكانت الخلاصة أنه كلما تقدمت هذه الدول خطوة، كان الغرب في اللحظة ذاتها قد تقدم ألف خطوة. ومن ثم، فإنه رغم كل ما بذله العرب والمسلمون من تحديث، ظلت الفجوة تتسع كل يوم بينهم وبين قوة الغرب وسبقه وتفوقه. التحديث لم يضيق الفجوة، بل حافظ عليها وزاد منها. فالغرب يتقدم كل يوم، ونحن نواصل التخلف كل يوم. التحديث- عندنا- يؤدي إلى نتائج عكس المقصود منه.

………………………………………………………………………..

في الخمسمائة عام  الوسطى- من الحروب الصليبية إلى الكشوف الجغرافية- أنجبت حضارتنا العربية الإسلامية مفكرين وفلاسفة وعلماء وقادة أفذاذ في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، يكفي أن تعرف أن أعظم قائد مسلم نال إعجاب الغرب، وهو الكردي صلاح الدين، قد عاش، ومات في القرن الثاني عشر، مثله في ذلك مثل أعظم فيلسوف مسلم نال إعجاب الغرب، وهو القاضي والفقيه والطبيب والفيلسوف الأندلسي ابن رشد، صلاح الدين مات 1193م، ابن رشد مات 1198م. لكن وجود أمثال هؤلاء كان فقط مجرد إشارة على إمكانات الحضارة الإسلامية، ولم يكن مؤشراً، على أن لها مستقبل.

كذلك أنجبت الفترتان المملوكية والعثمانية قادة عظماء، ونهضة عمرانية وحضارية، كان الظاهر بيبرس 1223- 1277م من أكابر قادة العالم في القرن الثالث عشر الميلادي، كان يفوق في عبقريته في الحكم والسياسة والتنظيم، والإدارة أكبر معاصرين له في أوروبا مثل، لويس التاسع في فرنسا وإدوارد الأول في بريطانيا. ثم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أنجبت القيادة العثمانية مثل، محمد الفاتح 1432م – 1482م، وسليمان القانوني 1494م- 1566م، وكلاهما هز العالم في عصره، وفي مطلع القرن الخامس عشر، مات ابن خلدون 1332- 1406م الذي رغم مرور أكثر من ستمائة عام على وفاته، سوف يظل مقروءاً لآجال في المستقبل، لا يعلمها إلا الله، وسوف يظل ابن خلدون جزءاً من كل حداثة، ومن كل معاصرة الآن وفي المستقبل، ما دام بقيت رؤاه، تكشف عن عبقرية، لا تفنى بمرور الزمن، بل يزيدها الزمن وضوحاً وجلاءً.

لكن رغم كل ذلك، كانت أوروبا تخطو- بروح جبارة- نحو غزو العالم كله، وتطويق العالم كله ونهب العالم كله، واستعباد العالم كله، فانطلقت عند بداية الخمسمائة الثالثة، تطوق كل الحضارات، وتحاصر كل الشعوب في كل البحار والمحيطات والقارات، وتجبي خيرات الأرض، وتستحوذ عليها، وتنقلها إلى شعوب غرب أوروبا. هذه الخمسمائة عام من غزو العالم، وسلبه ونهبه، جعلت من أوروبا جنة حقيقية على الأرض، واحة من الرفاهية غير المسبوقة في التاريخ، جنة أرضية، فاقت تصورات أشد المؤمنين إيماناُ عن الجنات السماوية. وحتى تحافظ أوروبا- تحت قيادة أمريكا- على هذه الواحة من الرفاهية غير المسبوقة، وربما غير الملحوقة في التاريخ الإنساني، عمدت إلى عدة سياسات: الاحتفاظ بعلاقات الهيمنة والسيطرة على ما دونها من حضارات، حتى مع زوال الاستعمار التقليدي، ثم الاحتفاظ بفجوة واسعة في العلوم بينها وبين العالم كله، ثم تحصين نفسها- أوروبا وأمريكا- بأقوى ترسانة سلاح، عرفها التاريخ، ثم تطويق العالم بقواعد عسكرية مع هيمنة دبلوماسية مع تفوق اقتصادي مع غزو ثقافي، بحيث تشغل كل من سواها بها، ولا تمنح خصومها، ولا منافسيها أدنى فرصة للتفكير.

هذا الحصار الغربي المتجدد للعالم، تسعى للإفلات منه- بدرجات مختلفة من النجاح- روسيا والصين والهند وأمريكا اللاتينية. هؤلاء يفهمون أن الغرب لا يعنيه إلا تأمين واحة رفاهيته، وهذا يلزمه أمرين: تفوق الغرب على الجميع. لكن عندنا الأمر مختلف: الدولة القومية ولدت بين يدي الغرب، ثم منطقتنا هي المجال الحيوي الأقرب للغرب، ثم استجد البترول كمصدر للطاقة، ثم استجدت إسرائيل. ولحماية منابع البترول، وضعت بلادنا تحت أعين الغرب، ولضمان أمن إسرائيل، فإن الغرب يتكفل لها بمصادر تسليح ودعم اقتصادي ودبلوماسي، يضمن لها التفوق على كل جوارها من العرب ومعهم إيران مجتمعين، تركيا لها وضع خاص، إذ هي عضو في حلف الناتو وهو القلعة العسكرية الحصينة للغرب في مواجهة الشرق، بما فيه روسيا. روسيا تحاول الفكاك من هيمنة الغرب، الهند تحاول، الصين تحاول، أمريكا اللاتينية تحاول، جنوب إفريقيا تحاول. نحن فقدنا- من بعد حرب أكتوبر 1973م- شرف المحاولة من جذوره، اكتفينا بهذا النصر، ثم ذهبنا- بالتدريج- ننساق تحت هيمنة الغرب.
…………………………………………………………………………………………….

حتى ينطلق الغرب، ويقلب تخلفه تقدماً، ويقلب تقدما تخلفاً، مشى في طريقين متوازيين: الأمر الأول، أنه بدأ من ذروة، ما انتهينا إليه، انطلق منه، لكن لم يقف عنده، وأطلق قواه الفكرية الحرة، فزاد عليه، ثم ذهب بكافة العلوم أبعد مذهب، كان يمكن للخيال الإنساني، أن يتصوره سواء في اليقظة أو في المنام. الأمر الثاني، أنه لم ينسلخ من جذوره، فبنى على أصوله اليونانية، ثم الرومانية ثم المسيحية وصولاً إلى عصر النهضة، ثم الإصلاح ثم التنوير ثم الثورة الصناعية ثم الحداثة ثم ما بعد الحداثة ثم الذكاء الاصطناعي إلى آخره، تاريخ موصول دون انقطاع بين مراحله وهوية محفوظة، دون تشوه ودون انسلاخ ودون انبتات عن جذورها. وهكذا تتجدد قوة الغرب كل يوم، وتزداد الفجوة بينه وبين غيره من الحضارات.

نحن نقلنا جامعات الغرب، لكن دون استقلال البحث العلمي، ونقلنا مدارس الغرب، لكن للحفظ والتلقين مثل الكتاتيب، ونقلنا صحافة الغرب، لكن بدون حرية كتابة ولا تعبير ولا تفكير، ونقلنا منظومات القوانين الغربية، لكن دون عدالة، ونقلنا انتخابات الغرب، لكن دون حرية، ونقلنا دساتير الغرب، لكن مجرد حبر على ورق، والأخطر من كل ذلك، أننا نقلنا عن الغرب “نموذج الدولة الوطنية أو القومية أو القطرية”، وبدل أن تكون مثلما كانت في الغرب مرتكزاً لصناعة التقدم، تحولت عندنا إلى قلعة حصينة لحراسة التخلف. الدولة عندنا مؤتمنة على التخلف، ترعاه وتكفله وتجدد العهد معه، ولا يعنيها في قليل أو كثير مسائل التقدم، أو النهوض أو تقليل الفجوة مع الغرب.

السؤال: لماذا تُعنى الدولة- في منطقتنا- بحراسة التخلف؟

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.