لم يكن اتفاق التهدئة بين إيران والسعودية، برعاية الصين الذي كرس انفتاح طهران مع الخليج، سوى محاولة مرنة وبرجماتية؛ لاجتراح اختراق تكتيكي في الوضع الإقليمي المتأزم. وهذا الاختراق بدأ يتشكل على مهل، منذ بدء المفاوضات في دول الوساطة بين عامي 2021 و2022، مرة في العراق ومرة بعُمان.
خمس جولات من المحادثات، شهدت خلافات جمّة في ظل وساطة رئيس الحكومة العراقي السابق، مصطفى الكاظمي؛ نتيجة ميول طهران إلى وضع المصلحة الاقتصادية أولوية؛ لتخفيف العقوبات عليها. فيما تصر الرياض على المحادثات الأمنية، وإنهاء مخاوفها وهواجسها، تحديداً فيما يخص الملف اليمني.
نجاح وساطة الصين في تدشين الاتفاق، وقبلها نجاح الكاظمي في تهدئة التوترات بين الطرفين بعد تجميد المحادثات في جولتها السادسة المفترضة، ثم قبول إيران بالهدنة في اليمن، نيسان/ إبريل 2022 (اقترحتها الأمم المتحدة)، لا يعكس وضعاً مثالياً بين الخصمين الإقليميين. فالاتفاق حتى الآن، لا يعدو كونه أكثر من عملية تهدئة، وليس عملية مكتملة، تنتهي على إثره الخلافات والتناقضات القائمة. ومع تنحية مسارات الصراع الضيقة، والانفتاح على مجالات ليس فيها احتكاكات، أو صدامات خشنة، تكون هناك فرصة للملمة شتات الرهانات الخاسرة للطرفين، وترميم الفرص الضائعة، وتحديد المصالح الممكنة في قطاعات التجارة والاستثمار، والطاقة لتعزيز النشاط الاقتصادي الذي يستنزف البلدين، ويكبدهما خسائر مدوية تحديداً على خلفية حرب اليمن.
الحد من الصراع
ويمكن القول، إن الاتفاق الذي تم برعاية الصين قد ينجح في الحد من الصراع. ثم الانتقال من المواجهة الميدانية إلى مربع آمن؛ لإدارة التنافس بين اللاعبين الإقليميين. وبطبيعة الحال، الرهان على إيجاد تفاهمات مرنة، ومؤقتة لحلحلة الأزمات الإقليمية، خاصة التي يتولى تنفيذها الوكلاء بالمنطقة. لذا، وصفت إيران الاتفاق، بأنه قد ينذر بـ “تحولات جيوسياسية”.
ولا يمكن تجاهل أن الاتفاق جاء في نهاية المطاف مع وصول بعض الملفات الإقليمية المأزومة لدرجة ثبات، وهدوء على خطوط وقواعد اشتباك محددة. ولم تعد فيها فرص الصراع والحرب ممكنة؛ لتعديل وتغيير الأفق السياسي القائم. فالانسحاب التكتيكي من الميدان، للسياسي، والتفاوض، ليس شيئاً مباغتاً، بل متوقعاً. هذا تحديداً ينطبق على الملف السوري. وقد جاء الاتفاق بعد ثلاث سنوات من وقف إطلاق النار هناك، بوساطة روسية تركية.
وتبع ذلك عام 2020، تعيين خطوط الجبهات بين أطراف الصراع، وتراجع قصف النظام السوري لمناطق خصومه في الجغرافيا السورية. فبقايا ما تسمى “المعارضة المسلحة”، تتعزز سيطرتها بالشمال الغربي برعاية أنقرة، كهيئة تحرير الشام في محافظة إدلب (جبهة النصرة سابقاً) بقيادة أبو محمد الجولاني، والذي فك ارتباطه مرة بداعش، ومرة أخرى بتنظيم القاعدة، ومصنف على قوائم الإرهاب. بينما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا برعاية التحالف الدولي. وفي الجزء الثاني من شمال غرب سوريا الذي يبدأ من عفرين مروراً بجرابلس والباب شرقاً، تسيطر القوات التركية وفصائل إسلاموية تابعة لها، تعرف بـ”الجيش الوطني السوري”.
الورطة اليمنية
الرياض تقع تحت وطأة أزمات عنيفة، منذ تورطها في الحرب اليمنية. ومن ثم تسعى؛ لإنهاء الحرب، بل والتفاوض مع الحوثي لجملة اعتبارات، أبرزها أن الحسم العسكري مع الجماعات المدعومة من إيران، بات مستحيلاً. كما تتفاقم التوترات مع الحليف الإماراتي في “تحالف دعم الشرعية” الذي تقوده السعودية منذ عام 2015، على خلفية تناقض المشروعين.
بل إن الحوثي بعيدا عن السلاح الموجه، ضد “التحالف”، يكاد يكون أقرب، إذا ما شرع في الجلوس الدائم على طاولة المفاوضات، للسعودية، من الحليف الخليجي “الإمارات” الذي يتبنى مشروعاً، تقف له الرياض على أطرافها، ويزلزل الأرض تحت أقدامها منذ الستينات. وهو تقسيم اليمن لشطرين شمالي وجنوبي (دعم المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات لدولة مستقلة بالجنوب). ناهيك عن سعي أبو ظبي؛ لملء قبضتها حتى النهاية على المواني البحرية.
وتغلب على السعودية، كما إيران، خاصة مع نهاية فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ووصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، الاستجابة لوساطة الصين. وارتفعت درجة الاستجابة بشكل ملح مع تخفيض بايدن المساعدات العسكرية للسعودية، والإمارات، المستخدمة في حرب اليمن. ثم شطب تصنيف الحوثيين من على قوائم الإرهاب.
حسابات الاقتصاد
كما أن إيران تكبدت خسائر نفطية، تبلغ قيمتها 150 مليار دولار على خلفية العقوبات الأمريكية، وفق تصريح رسمي من الرئيس السابق حسن روحاني. وهنا كان الاتفاق لحظة انفراجة اقتصادية، بل وسياسية؛ لإنهاء العزلة الدبلوماسية.
فيما لا تختلف الأمور كثيراً في السعودية التي تتضاعف خسائرها للدرجة التي عطلت تنفيذ خطط ولي العهد السعودي “رؤية 2030″، وفق تقرير مجلة “الإيكونومست” البريطانية، أواخر العام قبل الماضي. وقالت إن “خطة تحديث الاقتصاد السعودي تسير بشكل أبطأ، مما كان مخططاً لها”. فاضطرت الرياض إلى تخفيض الانفاق العسكري العام الماضي بواقع أكثر من 10 بالمئة مقارنة بعام 2021. وعليه، فإن الاتفاق بين الرياض وطهران، إنما يؤَمن “رؤية ولي العهد، محمد بن سلمان، والتي تقدر بمليارات الدولارات”، وفق تقرير لـ “بلومبيرج“.
يضاف لذلك، شكوك المملكة المستمرة بشأن مدى التزام الإدارة الأمريكية بأمنها. ليس فقط مع سحب بايدن الأنظمة المضادة للصواريخ “باتريوت”، إنما تردد أو بالأحرى رفض واشنطن المتكرر للطلب السعودي الملح بدعم برنامج نووي “سلمي”. وذلك في مقابل القبول بإعلان تطبيعها مع تل أبيب.
إذاً، الاتفاق السعودي الإيراني، الذي جاء بالتزامن مع الذكرى الثامنة للحرب في اليمن التي شنها “تحالف دعم الشرعية”، ضد الحوثي، يدخل ضمن إطار التهدئة المؤقتة التي تسعى لها دول المنطقة؛ لجهة تفادي تداعيات التصعيد، والتعاون في الحدود الممكنة.
صعوبة الحل التام
وبقدر ما تبدو في الأفق هناك عملية تهدئة، و”تغييرات جيوسياسية” ممكنة، وفق وجهة النظر الإيرانية، فإن الملفات الإقليمية تبرز مثل كتل ملغمة، تؤدي لتصعيد محتمل بأي لحظة. وتكاد لا تختلف هذه التفاهمات، والتقاربات التكتيكية عن مثيلاتها في السياسة الإقليمية، مؤخراً، كما حدث في قمة العلا، بمبادرة من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والتي كان عنوانها العريض المصالحة الخليجية مع قطر. لكن التعاطي مع هذه المبادرة، لم يكن بحجم الظاهر، وما هو معلن بين أي من الأطراف المجتمعة. والشاهد في الحالتين، هو تعليق أو تخفيف حدة الخلافات بدلاً من التوتير الزائد، وفي ظل صعوبة الحل التام.
بالتالي، فإن مستقبل هذا الاتفاق سيظل مرتبطاً بعدة عوامل، منها الملف اليمني، (أولوية قصوى للسعودية)، ثم اللبناني والسوري بدرجة أقل. ومدى قدرة الجانب الاقتصادي، والتبادل التجاري على إطالة أمد الهدوء المطلوب. حيث إن الاتفاق يسمح بوجود قدرة على التفاوض الدبلوماسي، والسياسي في النقاط الحادة بالملفات الإقليمية، والتي رغم صعوبة وضعها الميداني المعقد، إلا أنها تقف عند حدود اشتباكات مرسومة، منذ سنوات كما هو الحال في سوريا.
وقد عبر عن ذلك المعنى، صحيفة “آفتاب يزد” المحسوبة على التيار الإصلاحي بإيران. وقالت إن الاتفاق هو إيجاد “بيئة هادئة”؛ للتعاون وحل المشاكل. ولمحت إلى أولوية الجانب الاقتصادي في هذا الاتفاق. ونقلت عن خبير في العلاقات الدولية عبد الرضا فرجي، قوله إن: “المسار السليم للمصالح الاقتصادية يمكن، أن يقود إلى تخفيف مستوى التوتر بين إيران والعديد من الدول”.
وبغض النظر عن كون الاتفاق قد جرى في عهد الرئيس الإيراني المحسوب على التيار الأصولي، إبراهيم رئيسي، بما يؤشر إلى ميل هذا التيار؛ لتنفيذ خططه السياسية والإقليمية. وهي خطط تتبنى الانفتاح على المحيط الإقليمي العربي، والخليجي عوضاً عن الانفتاح على الغرب والولايات المتحدة كحال التيار الإصلاحي والمعتدل، فاللافت أن صحيفة كيهان، التي يعين رئيس تحريرها مكتب المرشد الإيراني، ذكرت أن قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” الذي قتل بمسيرة أمريكية في مطار بغداد، مطلع عام 2020، هو الذي وضع بنود اتفاق مصالحة، أو تهدئة بين طهران والرياض لمدة عقد كامل.
وإلى جانب الملفات الإقليمية التي لم تشهد تغييرات كبيرة، أو محورية في ظل الاتفاق الثلاثي “إيران السعودية الصين”، فإن الشق الاقتصادي هو المؤثر، والذي يحقق نتائج مرضية للطرفين الإيراني والسعودي حتى اللحظة. ولضافة لذلك ووفق الزميل غير المقيم لبرامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي في واشنطن جوناثان فولتون، فإن “الصين تريد الاستقرار في المنطقة، لأنها تحصل على أكثر من 40 % من طاقتها من الخليج، والتوتر بين البلدين يهدد مصالحها”.
ويقول الباحث المصري المختص بالعلوم السياسية، الدكتور عبد السلام القصاص، إن إيران سعت من خلال الاتفاق الثلاثي إلى تأمين “سياستها ونظامها من التشكلات التي تجري بالمنطقة، وتبعث بتهديدات ضد مصالحها، بداية من الناتو العربي مروراً بعمليات التطبيع، وحتى التحالفات العسكرية التي تتولى دعمها إسرائيل”.
ويوضح القصاص لـ “مصر 360” أن إيران بدأت بالتزامن مع توجهها نحو التهدئة الإقليمية مع السعودية، وقبلها الإمارات بإجراء محادثات مع مصر والأردن. ويردف: “ما تزال إيران، وبخاصة مع تصاعد الأحداث في غزة تواصل البحث عن توافق مع القاهرة، واستعادة العلاقات بين البلدين بشكل كامل وطبيعي”.
لكن الباحث المختص في الشأن الإيراني يرى، أن وضع الاتفاق “قلق، وذلك نابع من تباينات عديدة تحتاج الحذر من التفاؤل وبنفس الدرجة التشاؤم. والرهان ليس على حل أو تصفية الصراعات. فمكتسبات السنوات العشر الأخيرة، لن يتنازل عنها طرف في سوريا واليمن ولبنان”.
طهران كوسيط تفاوضي
وفي المحصلة، طهران التي توسِع “محور المقاومة”، وبخاصة بعد حرب غزة قد تكون وسيطا تفاوضيا جيدا في العالم الإسلامي تجاه عدد من القضايا مع وكلائها في هذا المحور. على سبيل المثال، تنجح في إنهاء الفراغ الرئاسي بلبنان. ثم تعمل على تجسير الصلات بين السلطة الفلسطينية وحماس. وتقلل من درجة التوترات والأرصدة المفقودة من حسابات الضفة لحساب ممثلي قطاع غزة. وذلك بما لا يتعارض مع الأطراف الإقليمية كالرياض.