يتساءل الجميع الآن، لماذا تم إنهاء المسارات التفاوضية بين مصر وإثيوبيا؛ بشأن سد النهضة، وماذا يعني ذلك بالنسبة للعلاقات الثنائية بين الدولتين، ثم ما هو مستقبل الأمن المائي المصري، وما هي الخيارات المصرية المتاحة لحمايته في هذا التوقيت، ثم هل من فرص لدعم إقليمي ودولي لمصر في هذه الآونة، أم أن العالم مشغول بقضايا الحروب المتعددة، وبات غافلا عن الأمن الإنساني للشعوب، وما يترتب على انعدامه من تصاعد التهديدات الأمنية، خصوصا لدول الاتحاد الأوروبي؟
في تقديرنا، قد يكون إنهاء المسارات التفاوضية بشكل نهائي طبقا لمنطوق بيان وزارة الري، وتصريحات وزير الري من الجانب المصري، ضرورة قد تأخرت عدة سنوات، خصوصا بعد التوصل إلى مسودة اتفاق، لم يكن ينقصها إلا ٢ ٪ من حجم الفجوة مع إثيوبيا؛ للتوقيع عليها في واشنطن في فبراير ٢٠٢٠. لكن على أي حال تتأخر خير من ألا تصل أبدا، ويبدو أن هذا التأخير كان له عدة فوائد من بينها، اكتشاف موقف كل من الخارجية الأمريكية والخارجية الإثيوبية اللتين كانتا متوافقتان على عدم توقيع إثيوبيا على الاتفاق، ليس فقط بسبب الخلافات بين الرئيس ترامب والإدارة الأمريكية في هذا التوقيت، ولكن ربما لأسباب استراتيجية أمريكية وإثيوبية، نرى أنها مهتمة بامتلاك أدوات ضغط قاتلة على مصر أكثر من تحقيق شروط الأمن، والسلم الإقليمي في منطقتي الشرق الأوسط وشرق إفريقيا، وذلك خلافا لموقف قطاع كبير من الفنيين الإثيوبيين الذين حضروا مباحثات واشنطن، وأفصحوا في الجلسات الجانبية أو الكواليس، أن ما تطرحه مصر للاتفاق مع إثيوبيا منطقي على الصعيد الفني.
الأمر الثاني المفيد، اكتشاف حجم ونوع المساندة والدعم الاستراتيجي الذي تقدمه دولة الإمارات المتحدة خلال العقد الماضي للشعب المصري، قبل حكومته أو نظامه السياسي، ذلك أن أبو ظبي تتعامل مع هذا الإسناد في الإطار المالي فقط، وتتجاهل عوامل لا تقل أهمية، إن لم تتفوق على الدعم المالي، وهو أن مصالح دول المنطقة العربية لا تتوقف فقط على إرادة أطرافها، أو النظم السياسية فيها، ولكنها معطى جيوسياسي، بمعني أن الأضرار بمصر سوف يضر غيرها في المنطقة بالضرورة، وربما التغول الإيراني على المصالح الخليجية خير شاهد على ما نذهب إليه.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الإمارات قد استضافت مسارا غير معلن للمفاوضات في أبو ظبي على مدى ما يقرب من عامين، تبنت فيه مسودة اتفاق جديدة؛ بشأن سد النهضة، تقل فيه أرقام تصرفات الموارد المائية من سد النهضة في سنوات الجفاف عن الأرقام التي تم التوافق عليها في مسودة واشنطن، كما أتاحت هذه المظلة التفاوضية لإثيوبيا، أن تقوم بملء بحيرة السد مرتين، في إجراء أحادي تحت مظلة هذه المفاوضات التي نتساءل لماذا سمحت الإدارة المصرية، أن تمتد هذه الجولة التفاوضية لهذه المدة الطويلة؟.
أما الفائدة الثانية، فهي انتهاء مرحلة النوايا الحسنة المصرية، إزاء إثيوبيا أي ما كانت الأطراف التي تتبنى هذا المنهج على الصعيد المصري الرسمي (جناح الحمائم )، والذي كان قد دفع وراء عقد اتفاق المبادئ مع إثيوبيا عام ٢٠١٥، وذلك لصالح جناح الصقور الذي لم تتضح مناهجه بعد، خصوصا بعد أن ثبت بالتجربة والخبرة العملية، أن الاستراتيجيات الإثيوبية مؤسسة على السعي لوجود المظلة التفاوضية؛ تجنبا لحالة صراعية معلنة، تتيح لمصر الرد على الأداء الإثيوبي، واكتساب تعاطف إقليمي ودولي بهذا الشأن، وذلك لتنفيذ الخطوات الإجرائية من جانب إثيوبيا، سواء على صعيد بناء السد أو الملء الأحادي، أو حتى التصرفات المائية في مناطق أعالي النيل، كما ظهر أيضا موقف أديس أبابا من مسألتي حالة التصرفات المائية في حالتي الجفاف، والجفاف الممتد، وكذلك تصميم آلية فض المنازعات في حالة الخلاف من حيث، أنها بلا آلية إلزامية ، وتم تصميمها؛ لتكون دائرية وغير قادرة على الوصول لقرار فعلي؛ لحسم أي خلاف. أما على المستوى الاستراتيجي، فإن الأداء الإثيوبي يسعى إلى الربط بين الاتفاق بشأن سد النهضة، وتأسيس اتفاقية جديدة؛ بشأن مياه النيل، تأخذ فيها نصيبا مقننا من مياه النيل، رغم أنه يتساقط عليها ما يزيد عن ١٠٠٠ مليار متر مكعب من المياه سنويا، في مفارقة لا تقرها المواثيق الدولية، فيما يتعلق باستخدام المجاري المائية لغير الأغراض الملاحية.
في هذا السياق، يكون السؤال الأكثر إلحاحا، ماذا تملك مصر لتغيير الواقع الراهن؟ في ظني إنهاء المسارات التفاوضية هو الخطوة الأولى، وهو الموقف الصحيح، خصوصا بعد أن اتضح، أن دوافع الجولة الأخيرة الممتدة لأكثر من أربعة أشهر بناء على رغبة إثيوبية، لم تكن إلا لضمان مظلة المسار التفاوضي، والمأمول منه، إثيوبيا في هذه المرحلة توفر غطاء لسد النهضة الذي أصبح واقعا، ولكن لسدود مستقبلية موجودة في المخططات الإثيوبية، تم الإشارة إليها في بيان الخارجية الإثيوبية، إذ أن المطروح مع هذه النية، ليس ضمان تدفقات مائية من نهر النيل لمصر والسودان من سد النهضة، ولكن تجفيف نهر النيل نهائيا في مساره السوداني المصري.
وبطبيعة الحال، فإن تصميم مناهج الردع على المستوى السياسي لا بد، وأن يأخذ بعين الاعتبار أن مصر منفردة في هذا التوقيت، ذلك أن السودان يبدو منشغلا بحربه الداخلية، وأي تفاعل في إطار سد النهضة، سيكون خاضعا لهذه العوامل التنافسية الداخلية.
وإن كان على النخب السودانية المستقلة راهنا التنوير على الصعيد السوداني، أن خطر سد النهضة على السودان لا يقل عن الحرب الدائرة فيها.
أما على الصعيد العربي، فيبدو أن شواغل نظمه السياسية تتمحور حول من يقود المنطقة، أكثر مما يشغله كيف يقود المنطقة، ويحقق استقرارها، وهي حالة ترتفع فيها روح التنافس على نحو غير مفيد، لا لمصر ولا للمنطقة.
وطبقا لهذه البيئة أمام مصر عدد من المسارات: الأول في تقديرنا، هو خلق حالة من الضغط على المصالح الإقليمية الإثيوبية، خصوصا في البحر الأحمر الذي تتطلع فيه إثيوبيا، أن يكون لها فيه قوات بحرية عسكرية.
أما المسار الثاني، فهو خلق حالة نقاشية عالمية في المنتديات العلمية، تعتمد فيها مصر على قدراتها الرسمية، وغير الرسمية، بشأن أمرين: الأول ضرورة تطوير المواثيق الدولية المتعلقة بالمجاري المائية المشتركة في إطار تقليل النزاعات، والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، أما الأمر الثاني، فهو مدى الجدارة الفنية لسد النهضة، ومدى تهديده للأمن الإنساني لملايين البشر، وذلك مع انعدام الدراسات الفنية المستقلة بهذا الشأن، خصوصا وأن السد على فالق الأخدود الإفريقي العظيم، وحالة إزاحة التربة التي تم رصدها من جانب الدكتور هشام العسكري في دراسة مهمة، غير معروف أبعادها على وجه الدقة حتى الآن من حيث الحجم، وحالة الإضرار من عدمه لجسم السد، وهو ما يعني ضرورة استكمال هذه الدراسة، ورصد حجم النشاط الزلازلي في المنطقة، وتأثيره على الجسم الخرساني لسد النهضة.
ومن المطلوب أيضا، فضح حالة العشوائية التي تمارسها إثيوبيا في بناء سد النهضة من حيث، فتح أماكن لتوربينات وإغلاقها، ممارسة تخزين مائي سياسي، بمعنى أنها لا تحتاج في هذه المرحلة، إلا تخزين ١٨ مليار متر مكعب فقط في بحيرة السد، بينما هي خزنت ٤٠ مليار متر مكعب من المياه بلا ضرورة لها، وفي حرمان لمصر والسودان من هذه الموارد.
استحداث آليات لمخاطبة الشعب الإثيوبي على منصات التواصل الاجتماعي باللغة الأمهرية؛ بشأن أضرار عدم التعاون الإقليمي على حالة الاقتصاد الإثيوبي، وقدرة الدولة الإثيوبية على تحقيق تنمية واقعية لشعبها.
أما على المستوى الداخلي المصري، فإنه من المطلوب إعلان إنهاء اتفاقية المبادئ الموقعة في مارس ٢٠١٥، على اعتبار أنها إطار غير مفيد، وكذلك سحب السفير المصري، وذلك لتهدئة الرأي العام المصري، وإرسال رسائل للخارج، أن عليه أن يضطلع بأدوار في هذا الصراع المصري الإثيوبي الذي قد يأخذ أبعادا، لا أحد يحتاج إليها، خصوصا في أوروبا خلال العقد القادم، ذلك أنه إذا كانت الفيضانات القياسية قد لعبت دورا في عدم الجفاف المؤثر على حياة المصريين، وسمحت بملء غير مهدد، فإن هذا الجفاف قادم طبقا لهيدرولجية النيل، وهو ما يخلق هجرات غير مرغوبة من الأراضي المصرية إلى المحيط الأقرب وهو أوروبا.