ذَكَّرَني مقال أستاذنا الكبير الدكتور أحمد جلال “وشهِد شاهدٌ من أهلها”، الذي نُشِرَ بجريدة المصري اليوم بتاريخ 21 ديسمبر 2023 عن كتاب المؤرخ إيلان بابيه “عشر خرافات عن إسرائيل”، بكتابٍ آخر، كان يحمل عنوان “من النَكبة إلى غزة، هو لا يزال احتلالًا”، من إعداد وترجمة الأديب والمترجم نائل الطوخي. عُدتُ بعد قراءةِ مقال الدكتور أحمد جلال إلى مكتبتي باحِثُا عن الكتاب الذي كنت قد قرأته، منذ أربعة عشر عامًا، حين صدرت طبعته الأولى في عام 2009 عن دار العين؛ لأسترجع قراءته مرة أخرى، حيث الليلةُ التي مازالت تشبه البارحة.

كان الكتاب الذي تناول ترجمةً عن العبرية لثلاثة مقالات، نُشِرَت في دورية ميتاعيم ذات التوجه اليساري الراديكالي، قد خرج للنور، بعدما وضعت واحدة من حروب الدولة الصهيونية المتكررة على غزة أوزارها. كانت حرب غزة 2008-2009، حربًا “خاطفة”، إن قُورِنَت بالهولوكوست الفلسطيني الحالي الذي اقترب من التسعين يومًا، فقد استمرت تلك الحرب التي أطلق الصهاينة عليها اسم “الرصاص المصبوب” نحو ثلاث وعشرين يومًا فقط. كانت الحرب قد بدأت، بعدما خرقت الدولة الصهيونية اتفاق التهدئة مع فلسطيني غزة، فلم تكتفِ باستمرار حصارها للقطاع على خلاف، ما تقرر بالاتفاق، بل قامت أيضًا بِشَنِ غارةٍ، راح ضحيتها ستة من كوادر حماس التي اضطرت للرد بإطلاق صواريخ على جنوب إسرائيل بمشاركةٍ من الجهاد الإسلامي، لتبدأ حينئذ حرب الرصاص المصبوب “الخاطفة”.

في ذلك الوقت، وكما جرت العادة الصهيونية التاريخية، أعلن إيهود أولمرت رئيس الوزراء، وإيهود باراك وزير دفاعه، أن العملية قد تستغرق وقتًا، وأنها لن تتوقف إلا بتحقيق هدفها، وهو إنهاء إطلاق الصواريخ من غزة على جنوب إسرائيل. أثبت الواقع أن “الإيهودَين”، أولمرت وباراك كانا صادقَين وعلى حق، إذ أن الدولة الصهيونية لم تتوقف عن هجماتها بِحَق سكان غزة، منذ ذلك الوقت، حيث لم تتمكن طيلة أربعة عشر عامًا كاملة من تحقيق هدفها. لم يتغير شيء- إذن- في الواقع اليومي الغزاوي، استمرت الهجمات، بل اتسع نطاقها، واستمرت أعمال الإبادة الجماعية، بل ازدادت وحشيتها، واستمر الهدف عَصيًا على التحقق. ما تغير فقط، هو اسم العملية البربرية من “الرصاص المصبوب” إلى “السيوف الحديدية”، في تعبيرٍ ركيكٍ عن طبيعة ثقافية دموية، تُحَرِكها الأساطير والخرافات العنصرية.

نعود لكتاب نائل الطوخي، الذي تناول فيه يوميات نكبة 1948، بأبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية، حسبما روى أصحاب المقالات الثلاث في تناسقٍ جَمَع بين صرامة الحق الذي نطقت به الوثائق التي استندوا إليها، ومرونة التحليل الذي أعملوا فيه عقولهم، وإنسانية الرؤية التى خَبِروا تجاربها بأنفسهم. كان المقال الأول بعنوان “عن تخريب المدن الفلسطينية في ربيع 1948، قبل إعلان الاستقلال بشهر”، لإيلان بابيه الذي فَنَد فيه أكذوبة، أن ما فعلته العصابات الصهيونية بفلسطين قد جاء ردًا على هجمات الجيوش العربية السبعة في الحرب، حسب الزعم الصهيوني، وكان المقال الثاني بعنوان، “قيام وانهيار الكتاب الفلسطيني”، للباحث جيش عاميت، وكان المقال الثالث بعنوان، “العسل الذي سرقناه”، للكاتب المسرحي حاييم هانجبي. وعلى الرغم، من أن ذِكر اسم إيلان بابيه بمقال أستاذنا الكبير الدكتور أحمد جلال، هو ما ذَكَّرَني بكتاب “من النَكبة إلى غزة، هو لا يزال احتلالًا”، فأعدتُ قراءته كاملًا، إلا أنني سأقتصر في عرضي، وتعليقي اليوم فقط على مقال جيش عاميت، لأسباب تتعلق، بما طَرَحَهُ من بُعدٍ مُختلفٍ، غَاب عَرضُه طويلًا كأحد أهم جوانب الصراع في المنطقة.

كشف جيش عاميت الباحث في مجال المكتبات اليهودية، وصاحب كتاب “الصوت الأخرس- نظرة أخرى على الأطفال بالمدرسة” الصادر في 2005، وكذا كتاب “بطاقة ملكية- تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية”، الصادر في 2015، والذي ترجمه للعربية علاء حليحل، للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، كيف أولَى قادة العصابات الصهيونية في أيام النكبة، وعلى رأسهم ديفيد بن جوريون، اهتمامًا نوعيًا بمحو الذاكرة الثقافية للشعب الفلسطيني، من خلال إخضاع الكتاب العربي للرقابة المنظمة شديدة الصرامة لواحدٍ من أهم أجهزة الدولة، جهاز الشاباك، المُختص بالأمن العام الداخلي. فبعدما تمت السرقة الكبرى للأرض، وكما تم السطو على الأثاث والأموال من منازل العائلات الفلسطينية العريقة التي تم تهجيرها قسرًا من يافا، وحيفا والناصرة والقدس، فقد تم أيضًا نهب عشرات الآلاف من الكتب والأسطوانات الموسيقية، واللوحات والتحف الفنية من منازل تلك العائلات التي كان أبناؤها يتمتعون بثقافة رفيعة، لا تقل في درجة رُقِيّهَا عن ثقافةِ نُخبٍ مُعاصرة بمجتمعاتِ مصر ولبنان وسورية والعراق.

كان النهب يتم عشوائيًا، فيما أعادَ لذاكِرَتي الستينية المُرهَقَة مشاهد نهب القصور العراقية بعد الغزو الأمريكي في 2003، والتي كانت تُذاع على الهواء مباشرة لجنود أمريكيين يهرعون صوب ثكناتهم حاملين كنوز العراق المجيد من تحف، ولوحات ووثائق وتماثيل تاريخية. كان نهب المنازل الفلسطينية يتم بنفس النهج، وبهذا، فربما نَجِدُ بعضًا من تلك الكتب التاريخية الفلسطينية معروضًا على أرفف المكتبة الرسمية بالدولة الصهيونية، وربما نَجِدُ بعضها الآخر يُعرض للبيع الآن مقابل ثروات هائلة في مزادات الكتب بلندنن وباريس ونيويورك، لكن من المؤكد أن أغلب تلك الكتب، قد تمت إبادته عمدًا بالحَرق، أو إهمالًا بسوء الحِفظ. يقول جيش عامير: “كتبت ربيكا نوث* قائلة: ما نسميه Libricide يقع على الحدود بين الـ Genocide والEthnocide. إنه يتصل بهذين المفهومين ويكملهما، داخل السياق الواسع للعنف المتطرف في القرن العشرين”.

إنها ثقافةُ المَحْو ومَحْو الثقافة، حيث الارتباطُ وثيقٌ بين إبادة الكتاب والإبادتين الجماعية والعِرقية.

* Rebecca Knouthأستاذ علوم المكتبات والمعلومات بجامعة هاواي، وصاحبة كتاب “إبادة الكتب – تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين” الذي صدرت طبعته الأولى عن دار بريجير- سانتا باربرا- الولايات المتحدة الأمريكية في 2003، ثم صدر في نسخته العربية في 2018 بترجمة الأستاذ/ عاطف سيد عثمان ضمن سلسلة كتب عالم المعرفة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت. لاحظ كاتب هذه السطور، خُلُو كتاب ريبيكا نوث من أي إشارة، لما قامت به الدولة الصهيونية من إبادة للكتاب الفلسطيني، حيث تناولت في فصوله التسعة جرائم إبادة الكتب- فقط- في ألمانيا النازية وصربيا والعراق والصين والتيبت.