اتخذت الحكومة المصرية منذ عام خطوات؛ لترويض التضخم الذي يتصاعد، كان بينها رفع البنك المركزي سعر الفائدة، في ديسمبر 2022 بمعدل 3 بالمائة، تلى ذلك طرح البنوك العامة شهادات استثمارات بفائدة كبيرة، وصلت 25 بالمائة؛ لكي تجذب الأموال من السوق، وتجنب ارتفاع التضخم بدرجة أكبر.
خلال يناير الجاري، يحين موعد صرف الشهادات مرتفعة العائد، فاتحًا معه تساؤلات حول سياسة البنك المركزي في التعامل مع السيولة الضخمة التي ستتحرك، من خزائن البنوك الحكومية المُصدرة لها لأيدي الجمهور، وتأثير ذلك الانتقال على معدل التضخم.
سيولة ضخمة
كان بنكا الأهلي، ومصر قد أصدرا في الرابع من يناير 2023 شهادات ادخار بفائدة 25 % تصرف سنويًا، و22.5 % تصرف شهريًا، وتبعهما بنك القاهرة بإصدار الشهادات ذاتها في 17 من الشهر نفسه؛ لاستهداف التضخم حينها، وجذبت سيولة 460 مليار جنيه من الأفراد، قبل أن يتم إيقافها بدعوى تحقيق الهدف منها.
في أول فبراير المقبل، ستجتمع لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي؛ لحسم معدل الفائدة، بينما ثبت اجتماعها الاخير، في 21 ديسمبر الماضي، سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة، وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي عند مستوي 19.25 %، 20.25 % و19.75 % على الترتيب.
وتدرس لجان الأصول والخصوم بالبنوك حاليًا، سيناريوهات التعامل مع تلك المبالغ الضخمة، ومنها إمكانية طرح شهادات ادخار جديدة بفائدة مرتفعة؛ لامتصاص السيولة من الشهادات المستحقة، في ضوء دور تلك اللجان بمراجعة أوضاع السيولة الحالية، والمستقبلية والتدفقات النقدية قصيرة الأجل، وتوقعات أسعار الفائدة.
ويقول طارق حلمي، العضو المنتدب لبنك المصرف المتحد سابقًا، إن البنوك لن تستطيع في الوقت الحاضر، أن ترفع الفائدة، خاصًة بعد تثبيت البنك المركزي لمعدلات الفائدة في الاجتماع الأخير الذي كان قبل فترة قصيرة، وحلول الموعد القادم في فبراير.
عن جانب من الأزمة، يقول حلمي، إن موعد صرف الشهادات جاء مع ظرف، يشهد السوق الموازي مضاربة كبيرة على الدولار في ظل نقص العرض، وزيادة الطلب من قبل الشركات، والحديث عن إمكانية تخفيض الجنيه الذي سيرفع معه الأسعار، ويزيد معدل التضخم مرة أخرى.
هل تصدر البنوك شهادات جديدة؟
دار جدال بين الخبراء، فيما يتعلق بضرورة طرح شهادات جديدة؛ لامتصاص السيولة، ففي حين يرى فريق، أنها تفتقر للأهمية في استهداف التضخم الذي يرتبط بالعرض، يرى فريق آخر، أن السيولة الضخمة التي تتولد لدى الأفراد قد تزيد بقوة من الطلب؛ فتعطي الأسعار مزيد من الارتفاع.
الخبير المصرفي محمد عبد العال من أنصار الفريق الأول، ففي اعتقاده، أن رفع الفائدة يضر بالمنتجين الراغبين في الاقتراض، أو المدينين، مما يدفعهم لترحيل تكلفة الزيادة إلى السلع التي ينتجونها، فيتحملها المستهلك، ما يعني ارتفاع الأسعار، وتوليد مزيد من الضغوط التضخمية، وزيادة فارق الفائدة السلبي، وخفض الدخل الحقيقي للمستهلكين.
تشير الفائدة الحقيقية إلى الفرق بين الفائدة البنكية التي تبلغ 19.25 % ومعدل التضخم، وحال حساب الفرق بين الفائدة والتضخم الأساسي الذي يعده البنك المركزي، تتكون الفائدة الحقيقة سالب 16.65 %، أما حال قياسه على التضخم العام الذي يعده الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، يكون الفرق 17.15 %.
يقول عبد العال، إن البنوك حال رفعها العائد سيحدث تراجعًا نسبيًا في الاستثمار المباشر الأجنبي والمحلي؛ فزيادة تكلفة التمويل عن العائد المتوقع للمشروع، أو الاستثمار من شأنها خلق انكماش الإنتاج والاستثمار، وخفض معدل النمو الاقتصادي، وكذلك معدل التشغيل.
مخاطر انكماش القطاع الخاص
وكشف مسح لستاندرد آند بورز جلوبال لمديري المشتريات بمصر استمرار انكماش القطاع الخاص غير النفطي، في مصر للشهر السادس والثلاثين على التوالي إلى 48.4 في نوفمبر مقابل 47.9 في أكتوبر، ورغم التحسن الطفيف ظل أقل من مستوى 50 الذي يفصل بين النمو والانكماش.
يضيف عبد العال، أن رفع العائد للقطاع العائلي ربما يُغري بعض المستثمرين، ورجال الأعمال إلى تصفية أعمالهم، وتفضيل توجيهها مرحليًا؛ للاستثمار في الشهادات ذات العائد المرتفع الخالي من الضرائب والمخاطر.
بجانب ذلك، يثقل كاهل ميزانيات البنوك التجارية، خاصة مع انخفاض التصنيف الائتماني السيادي لمصر، والذي تتأثر به البنوك فورًا.
وخفضت وكالة ستاندرد آند بورز، في أكتوبر الماضي، تصنيفات بنوك الاهلي ومصر والتجاري الدولي إلى «-B» من «B» بعد إجراء مماثل للتصنيف السيادي لمصر، مع توقعات مستقبلية مستقرة بدعوى وجود تأثيرات، قد تحدثها الضغوط السيادية على عمليات البنوك والجدارة الائتمانية.
يرى الخبراء، أن رفع سعر الفائدة فقد تأثيره على احتواء معدل التضخم المصري، فرغم رفع الفائدة 11 % على 6 مرات منها 3 % في اجتماعي مارس، وأغسطس الماضيين، و8 % في العام السابق عليها؛ لتصل إلى مستوى 19.25 % للإيداع، و20.25 % للإقراض، لا يزال معدل التضخم مرتفعاً، وبعيدا عن مستهدفاته الموضوعة.
ويستهدف البنك المركزي النزول بمستوى التضخم إلى (7 + 2 أو – 2)، لكنه يقول، إن السبب في مخالفة التضخم لتلك المستهدفات بعض الصدمات الخارجية التي تقع خارج نطاق السياسة النقدية، كما التغير في أسعار الطاقة، والمواد الخام وتغيرات ظروف الإنتاج وسلاسل التوريد.
استئثار بنوك بفائدة مرتفعة يخلق تشوهات
يضيف عبد العال، أن منح أسعار فائدة مميزة من قبل بنوك بعينها يؤدى؛ لظهور تشويه في توزيع هيكل ودائع الجهاز المصرفي؛ نتيجة هجرة الودائع من البنوك ذات العائد الأقل إلى البنوك ذات العائد المتميز.
كما يؤثر أيضُا على شريحة المستفيدين من القروض الشخصية أو الاستهلاكية، أو منتجات خدمات التجزئة بكل أنواعها؛ بسبب ارتفاع كلفة الإقراض، أو انخفاض نسبة الإقراض إلى الدخل، ويضر أنشطة التمويل المتوسط والصغير ومتناهي الصغر.
ارتفعت ودائع عملاء الجهاز المصرفي بنهاية أغسطس الماضي إلى 9.72 تريليونات جنيه، مقابل 9.62 تريليونات جنيه في يوليو من نفس العام، ومقارنة بنحو 9.5 تريليونات جنيه في يونيو 2023، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.
للخبير المصرفي محمد بدرة، رأي آخر، إذ يؤكد ضرورة طرح البنوك شهادة ادخار بسعر فائدة يصل إلى 27 %؛ لتقليل فجوة الفائدة السالبة التي يحصل عليها العملاء، من وضع أموالهم بالبنوك أمام مستويات التضخم.
توقع بدرة رفع الفائدة في العام المقبل مع استحقاق الشهادات؛ لتبلغ نحو 25 %، جنبا إلى جنب إلى تحريك أسعار الصرف في 2024؛ للوصول لمستويات وسط بين الدولار في السوق الموازي التي تشهد مضاربات، والسوق الرسمية، قد تكون الأسعار المقترحة للدولار بين 35 و37 %.
كيف يمكن الخروج من المأزق؟
يرى الخبراء، أن الحل في يد الأفراد بضرورة توعيتهم إلى ضرورة التحول نحو الأصول والاستثمار، وفي مقدمة تلك الاستثمارات دخول البورصة في ظل وجود من كبير من الشركات الحكومية الضخمة التي من المقرر طرحها بسوق المال، وكذلك استهداف قطاعات بعينها بشهادات ذات عائد مرتفع.
بينما يرى محمد بدرة، أن الفرصة في طرح الشركات الحكومية أمام المستثمرين بالبورصة، وهو أمر من شأنه تحسين أداء الاستثمار، والوضع الاقتصادي بشكل عام، يطالب محمد عبد العال بأسعار فائدة فائقة التميز لشهادات وودائع الدولار، قد تصل لمستوى غير قابل للمنافسة حول 10 % على الأقل لشهادات دولارية لمدة عام واحد، وبحد أدنى 10 آلاف دولار للشهادة.