الدولة الحديثة منذ مطلع القرن الثامن عشر، حتى يومنا هذا، تعتبر الحرية خطراً، يهدد أمن الدولة، خطر يسبق، ويتفوق على الخطر الأجنبي، حرية الشعب خطر، يهدد سلامة الدولة بأكثر مما يهددها العدوان الخارجي، وبهذا ظلت حرية الشعب على رأس قائمة المحظورات التي تحتشد ضدها الدولة، بكل ما أوتيت من قوة مادية وأدبية، حرية الشعب إما فتنة، يختلط فيها الحق في الباطل، ويندس فيه الطالح في الصالح، وإما معصية تشق عصا الطاعة، و تستوجب العقاب العاجل، وإما مؤامرة تستهدف استقرار البلاد، وأمان العباد، وتخدم خطط الأعداء؛ فوجب الاستعداد الدائم؛ لاكتشاف منابتها، ثم سد الطرق عليها، ثم سحقها في مهدها.

وقد أوجز الدكتور جمال حمدان في ص 611 من المجلد الرابع من كتاب “شخصية مصر” فقال: “الحكومة جهاز ساحق، والمجتمع شعب مسحوق، والمواطن مسحوق شعب” ، ويقول: ” الحكومة في مصر هي كل شيء، تحكم كل شيء، ووحدها تملك كل شيء، بما في ذلك الحكمة والرأي والصواب وفصل الخطاب، الوطن ملك الحكومة، والحكومة ملك الحاكم، مصر ليست شعباً له حكومة، بل حكومة لها شعب، مصر حتى بعد الدساتير والمجالس النيابية هي حاكمها أو تكاد، فما أشبه الليلة بالبارحة” . ثم يقول: ” الديمقراطية الجديدة في مصر، ديمقراطية الإذعان والموافقة، إنما هي من الشعب، وباختيار الشعب، أي ديكتاتورية باسم الشعب، أو هي الديكتاتورية بيد الديمقراطية، وتحت قفازها، أو بصيغة مباشرة أكثر، هي وأد وقتل الديمقراطية بيد الديمقراطية ذاتها، باختصار، هي مسخ للديمقراطية بقدر ما هي سخرية منها، فكم ذا بمصر من الديكتاتورية، تُرتكب باسم الديمقراطية”.

ومن وجهة نظر الدكتور جمال حمدان، فإن الدولة الحديثة والمعاصرة تغيرت وتطورت، لكن في الشكل فقط، أما جوهر هذه الدولة، فلم يتغير في الزمن الحديث، عما كانت عليه في الزمن القديم، وهذا الجوهر هو الطغيان الشرقي، الطغيان الفرعوني، بكل أعمدته التقليدية، فهو- أي الطغيان- فهو الخط المستمر، والقاسم المشترك من مينا 3200 قبل الميلاد حتى اليوم، المتغير هو الشكل فقط، ملكية أو جمهورية، وراثية أو انتخابية، مدنية أو عسكرية، ذلك بحسب الظرف أو العصر”.

لكن ما يغفله، الدكتور جمال حمدان في هذه النقطة، هو ما استجد من كفاح المصريين من أجل الحرية في القرنين الأخيرين، فإذا كانت الدولة الحديثة حافظت على تراث الطغيان العملي، وإذا كانت قد اعتبرت حرية الشعب معصية، وفتنة وشقاً لعهد الطاعة، وخطراً يتهدد أمن البلاد، فإن المصريين في القرنين الأخيرين واصلوا كفاحهم المشروع؛ من أجل الحرية، جاهروا بالحرية في تاريخ متواصل من الاحتجاجات والثورات، وقدموا التضحيات، سواء في المنافي والسجون، وتاريخ السجون السياسية في مصر، هو الوثيقة الشاهدة على كفاح المصريين من أجل الحرية، مناف وسجون في عهود الاحتلال، ثم مناف وسجون في عهود الاستقلال، مناف وسجون في عهود المملكة، مناف وسجون في عهود الجمهورية.

طغيان الدولة الحديثة هو- فقط- نصف القصة، نصف السردية، نصف تاريخنا الحديث. أما النصف الآخر، والجديد، والمهم، والمفيد، فهو مقاومة المصريين لذاك الطغيان. غير صحيح، أن المصريين المعاصرين قد استسلموا للطغيان، وغير صحيح، أن الطغيان نزع أظافرهم، أو خلع ضروسهم أو انتصر عليهم بصفة نهائية حاسمة. الصواب أن الشعب المصري- من اليمين حتى اليسار- متوافق على الخطوط العامة للديمقراطية، متوافق على أصول الحكم الدستوري، متوافق على الحريات العامة، متوافق على التوازن بين السلطات، متوافق على استقلال القضاء، متوافق على أولويات الأمن القومي. هذا التوافق- رغم الاختلافات الفكرية بين كافة التيارات- هو مؤشر نضج عملي تجريبي، نضج مكسوب من كفاح ميداني عبر قرنين من الزمن، نضج لم يولد بين يوم وليلة، نضج بعضه ظاهر وبعضه كامن، وكله متجذر في تراب السياسة المصرية، تجتهد حكومات الطغيان في تشويه حقيقته، وإضعاف صوته واقتلاعه من جذوره، لكنه باق حتى في أشد عهود الطغيان ظلاماً.

أي مقاربة نظرية لواقع الطغيان، والديكتاتورية في مصر الحديثة، تغفل نضال الشعب وتضحياته، هي نصف مقاربة، ونصف سردية، ونصف قصة، ونصف حقيقة، ونصف تاريخ.

…………………………………………………………………

إذا كان الطغيان- في وجهة نظر الدكتور جمال حمدان- لم يتغير جوهره على مدى خمسة آلاف عام من عهد مينا 3200 قبل الميلاد حتى يومنا هذا، فإن الدنيا قد تغيرت، والشعب قد تغير عدة مرات، والدين قد تغير عدة مرات، واللغة قد تغيرت عدة مرات، وتكنولوجيا التواصل تغيرت عدة مرات، وأدوات الإنتاج تغيرت عدة مرات، وأساليب الحياة تغيرت عدة مرات، وإزاء ذلك كله، يستحيل أن يكون الشعب، لم يتغير، يستحيل أن يكون الشعب باقيا على طبائع الاستعباد والخضوع والخنوع، الشعب في الربع الأول من هذا القرن الحادي والعشرين، أي الشعب الحالي، يعيش في سياق كامل مختلف عن الشعب ذاته الذي عاش في الربع الأخير من القرن العشرين، وهذا بدوره يختلف عن الشعب ذاته الذي عاش في الربع الأول من القرن العشرين.

التغير يشمل السلطة، كما يشمل الشعب، كما يشمل العلاقة بينهما، وعلاقة التسلط الحالية، ليس منشؤها، أن الاستبداد طبع أصيل في جينات المصريين، لا الحاكمين منهم ولا المحكومين، كذلك ليس منشأ هذا التسلط موروث، من عهد مينا قبل خمسة آلاف عام، كذلك ليس منشأ هذا التسلط يعود إلى توظيف الدين في خدمة الحكام. الطغيان الحديث له أسباب حديثة كامنة في بنية النظام الدولي ذاته، قبل أن تكون نابعة من إرث محلي أو من اختلال ذاتي، الفرنسيون الذين ساعدوا في تمكين محمد علي باشا من تأسيس دولة حديثة في مصر، كانوا- ومعهم الأوروبيين- يعتبرونه نموذجاً، يقبل التعميم في غير مصر من بلاد الإسلام، فقد أراحهم الباشا من مناكفة المماليك الذين كانت شرعيتهم السياسية في أهم جوانبها، تقوم على العداوة مع أوروبا، وكانوا يتبنون سياسات تجارية مستقلة، وكانوا غير قابلين للتطويع، ومثلهم كانت الولايات الإسلامية في شمال إفريقيا من برقة إلى طرابلس إلى تونس إلى الجزائر، حيث الروح الإسلامية المعادية للغرب مع القرصنة، مع المناكفات التجارية مع الغرب.

نموذج محمد علي باشا كنموذج إسلامي متوجه نحو أوروبا، ومتعلم منها ومقتد بها، ومستمد شرعيته من التحديث القادم منها، كان أول نموذج رعته وكفلته وضمنته أوروبا، وما زال هذا النموذج يتكرر حتى تأسيس الأمريكان لنموذج أردوغان في تركيا، في مطلع القرن الحادي والعشرين، بالطبع الباشا كانت له طموحاته الفردية، كما لأردوغان طموحاته كذلك، والباشا وأردوغان، ليسا تابعين أبلهين خاضعين، لكن مهما يكون دهاء الأول، ومكر الثاني، فحركة كل منهما في المحيطين الإقليمي والدولي محدودة، ومقيدة بحدود وقيود الكفلاء والرعاة والضامنين، ومن خرج منهما عن حدود الهامش المسموح له بالحركة فيه، يتم رده أو ردعه، دون هوادة.

عند مطلع القرن التاسع عشر، صنعت أوروبا نموذج محمد علي باشا، وأرادت تعميمه كنموذج وسطي معتدل في العالم الإسلامي، كذلك عند مطلع القرن الحادي والعشرين، أسس الغرب نموذج أردوغان في تركيا، ورغبوا كنموذج حداثي إسلامي ديمقراطي وسطي معتدل، ورغبوا أن يجري الاقتداء به في العالم الإسلامي، وقد تكررت المحاولة مع قوى دينية مختلفة في عدد من الدول العربية عقب ثورات الربيع العربي. وقبل ذلك، وبعد ذلك، للغرب يد في صناعة وسياسة كل ما تراه حولك من جمهوريات وممالك، ثورية أو معتدلة، دينية أو علمانية، رجعية أو تقدمية، تحررية أو محافظة.

لمسةُ الغرب في صناعة، وتشكيل العالمين العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، هي من القوة والعمق، بحيث يصعب تنسيب الطغيان الحديث للمواريث القديمة، ويسهل تفسيره بعوامل النشأة الحديثة، الغرب وضع مساهمته في تشكيل الدولة العربية والإسلامية الحديثة وفق قاعدتين: القاعدة الأولى، أن تقبل هذه الحكومات الخضوع للغرب علناً أو سراً . القاعدة الثانية: أن تتكفل هذه الحكومات بإخضاع شعوبها قمعاً أو طوعاً .

وهذا يفسر لك أمرين، ويجيب لك على سؤالين:

1- لماذا تقف كافة الحكومات العربية والإسلامية مكتوفة الأيدي أمام الاستئصال الصهيوني للمقاومة الفلسطينية الأخيرة في غزة على مدار الربع الأخير من عام 2023م؟.

2 – لماذا تم تكميم أفواه الشعوب العربية والإسلامية، ووضع القيود عليها للحيلولة، دون التعبير العلني العام الفعال عن تعاطفها مع أشقائهم في فلسطين؟.

……………………………………………

الطغيان الحديث، هو طغيان حديث، سره كامن في منشأ الدولة الحديثة على أجندة الغرب، المشكلة ليست في الطغيان الشرقي القديم، كما يقول دكتور جمال حمدان، المشكلة في الطغيان الدولى الحديث والمعاصر، الطغيان الحديث كامن في الحداثة الأوروبية ذاتها، وقد صدرته لنا، واستوردناه منها، مع فارق أن الغرب يمارس طغيانه على غير الغرب، بينما حكوماتنا، تمارس هذا الطغيان- لمصلحة الغرب ولمصلحتها- على الشعوب.

أما الشعب المصري- بالتحديد- فهو شعب غير خاضع بأي معنى، غير خاضع لطغيان الغرب، ولا طغيان الحكومات التي تعمل وفق أجندة الغرب.

الشعب المصري الحديث، والمعاصر، هو شعب قدوة في مادة الحريات، هو شعب مؤمن بالحرية، يجهر بإيمانه ولا يخفيه، ودفع ويدفع الثمن سجوناً ومنافيا.

………………………………………………..

نستكمل الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.