لم يكن اغتيال “صالح العاروري” نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” مفاجئا بذاته، فهو في دائرة الاستهداف الإسرائيلي متهما بإدخال السلاح إلى الضفة الغربية، وإدارة علاقات الحركة مع حلفائها الإقليميين.

ولا كان توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”؛ لاغتياله سرا مخفيا، فقد أعلن بنفسه قبل وقت وجيز، إنه أوعز إلى أجهزته الأمنية تعقب، واغتيال قيادات “حماس” في الخارج، قاصدا، دون مواربة بيروت والدوحة وإسطنبول.

بصورة أو أخرى، مال التقدير العام، إلى أن إسرائيل في ظروفها الحرجة الحالية لن تجرؤ على ارتكاب أية جريمة اغتيال لشخصية فلسطينية كبيرة في الخارج.

فور صدور تلك التهديدات، أعلنت تركيا اتخاذ إجراءات أمنية واستخباراتية مشددة، محذرة من تبعات ارتكابها على أراضيها.. فيما لم يكن ممكنا الدخول في أزمة كبيرة مع قطر بالأدوار التي تلعبها في ملف تبادل الأسرى والرهائن.

كانت الإشارة إلى العاصمة اللبنانية صريحة، ومباشرة على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف جالانت”: “إن عملية اغتيال قد تحدث في بيروت”.

لماذا خفتت الإجراءات الأمنية لضمان سلامة العاروري؟!

ولماذا عقدت المؤتمرات الصحفية عن سير العمليات العسكرية في غزة، وتطورات الوضع السياسي تحت إشرافه في مكان معلوم للكافة بالضاحية الجنوبية، حتى أصبح ميسورا مراقبته واستهدافه؟

مال التقدير العام مرة أخرى إلى استبعاد أية عمليات اغتيال الآن فوق الأراضي اللبنانية؛ خشية خرق قواعد الاشتباك مع “حزب الله” وتوسيع نطاق الاشتباكات إلى حدود الحرب الإقليمية، قبل أن يثبت، أنه لم يكن دقيقا، ولا وضع في اعتباره المستجدات الإسرائيلية.

بُني ذلك التقدير الخاطئ على الرسائل والاتصالات الأمريكية والفرنسية المتواترة مع إيران و”حزب الله”، التي دعت إلى منع انزلاق الإقليم إلى حرب واسعة.

إثر السابع من أكتوبر (2023)، هرعت الإدارة الأمريكية إلى إرسال حاملتي الطائرات “جيرالد فورد” و”إيزنهاور”، وبوارج حربية وأكثر من ألفي جندي “مارينز” إلى شرق المتوسط قرب إسرائيل؛ لردع أية أطراف إقليمية، إيران و”حزب الله” بالذات، “من استغلال الوضع” للنيل من إسرائيل.

أقدمت بريطانيا على خطوات مماثلة، وشاركت دول أخرى من حلف “الناتو” في معادلة الردع المسبق؛ لحين انتهاء إسرائيل من عملياتها البرية داخل قطاع غزة، التي استهدفت: اجتثاث “حماس” ومنع عودتها إلى حكم غزة مرة أخرى، واستعادة الأسرى والرهائن، دون أثمان سياسية باهظة.

كان الفشل ذريعا والهزيمة موجعة.

بتعبير “العاروري”: “لا عودة للأسرى الإسرائيليين قبل وقف إطلاق النار”.

وبتعبير “جالانت”: “إذا لم نحرز انتصارا في غزة فلن تستطيع، أن نعيش في الشرق الأوسط”.

أسست إسرائيل وجودها على ردع، وإخافة من حولها.. وقد تقوضت الآن.

بقوة الحقائق، نحن أمام جيش فاشل، خسائره اليومية في الأرواح، والمعدات، نالت من ثقته في نفسه، كما لم يحدث من قبل طوال سنوات الصراع العربي الإسرائيلي.

أمام الهزيمة الاستراتيجية والأخلاقية، اضطرت الدولة العبرية إلى سحب خمسة ألوية من غزة بذريعة تنشيط الاقتصاد، وأخذت القوات الأمريكية المتمركزة في شرق المتوسط؛ لأسباب أخرى تنسحب من مواقعها.

ارتفعت أصوات داخل إسرائيل، تدعو إلى الاعتراف بالهزيمة، وقبول وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، والرهائن وفق مبدأ “الكل مقابل الكل”.

بدت نهاية “نتنياهو” قريبة، استطلاعات الرأي العام الأخيرة، تؤكد انخفاض شعبيته، وتراجع حظوظ حزبه “الليكود” إلى (16) مقعدا، إذا ما أجريت انتخابات عامة للكنيست الآن.

إذا ما أوقفت الحرب على هذه الصورة، فإن خروجه من السلطة ودخوله السجن مؤكد.

بدت عملية اغتيال “العاروري” في بيروت، كأنها بحث عن أية علامة نصر تساعده على ترميم شعبيته المنهارة.

كانت تلك مقامرة سياسية خطرة، أراد بها أن يقول لجمهوره المحبط واليائس، أنه ما زال أفضل من يحكم إسرائيل، ويحفظ أمنها، دون اكتراث كبير بتداعياتها التي قد تدفع المنطقة كلها إلى حرب أوسع وأخطر.

بدا قصف بيروت للمرة الأولى، منذ حرب تموز (2006) تجاوزا خطيرا للخطوط الحمراء، ولكل قواعد الاشتباك.

في تلك الحرب البعيدة، جسدت شوارع بيروت شبه الخالية، والآمنة معنى تهديد زعيم “حزب الله” بقصف تل أبيب عاصمة إسرائيل، إذا ما قصفت الأخيرة عاصمة بلاده.

لقد تحملت الضاحية الجنوبية، حيث معقل “حزب الله” وحدها القصف الإسرائيلي بالغ الوحشية، أما عمق العاصمة بجسورها وشوارعها وبيوتها، فلم يصبها أذى كبير، وظلت على حالها قبل حرب تموز (2006). كأن “نصر الله” أراد– بالضبط– أن يحمي عمق بيروت من التدمير باستخدام سلاح الردع.

كانت تلك سياسة منضبطة قصدت الحفاظ على الوحدة الوطنية الداخلية، وتخفيف الضغوط على الشركاء في الوطن، أفضت إلى موافقة، دون تحفظ على ما أعلنته الحكومة من بنود لحل الأزمة.

هكذا وافق “حزب الله” على نشر قوات الجيش اللبناني في الجنوب، لنزع أية ذرائع في الداخل اللبناني؛ لإثارة فتن داخلية، حتى لا تحصد إسرائيل بالفتن، ما عجزت عن أن تحصده بالسلاح.

ما الذي قد يحدث الآن؟

لا توجد إجابة يسيرة على ذلك السؤال الملغم.

“إن أي اغتيال على الأرض اللبنانية لا يمكن السكوت عليه”.

كان ذلك تصريحا لـ “نصر الله” قبل اغتيال “العاروري”، الذي كان مقررا، أن يلتقيه في اليوم التالي للحادث المروع، الذي أسقط معه اثنين آخرين من قيادات وكوادر “حماس”، وعددا آخر، تواجدوا في المكان.

التصعيد وارد تماما، لكن إلى أي حد؟

هذا سؤال آخر، يحتاج بعض الوقت؛ لاستكمال مقومات الإجابة عليه.

يستلفت الانتباه هنا، أن “نتنياهو”، رغم إلحاحه على أية علامة نصر، أعطى تعليمات لوزرائه بعدم الحديث عن حادث الاغتيال.

فور الجريمة قال مستشاره السياسي: “لم نعلن مسئوليتنا عن حادث بيروت، لكننا نعتبر، أن كل من شارك في السابع من أكتوبر هدفا مشروعا”.

كانت تلك مراوغة، فهو يعترف، ولا يعترف بالوقت نفسه.

ثم أردف في مراوغة أخرى: “الحادث لم يستهدف حزب الله، ولا حكومة لبنان”، كأنه جرى في اللا مكان!

قد لا تكون الإدارة الأمريكية أُبلغت مسبقا بخطة الاغتيال، حتى لا توقفها؛ خشية توسيع نطاق الاشتباكات، بما يضر بمصالحها الاستراتيجية في الإقليم.

حسب ما هو معلن من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، فقد أُبلغت الإدارة الأمريكية بالعملية أثناء تنفيذها، وليس قبلها.

في تطور لافت، أجل وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” زيارته المقررة إلى تل أبيب.

هناك فرضية أخرى، لا يمكن استبعادها، أنها لم تمانع في اغتيال “العاروري”، شرط ألا تتحمل مسئوليته، بالنظر إلى أن الموقع الرسمي للخارجية الأمريكية رصد عام (2018) خمسة ملايين دولار، لمن يدلي بمعلومات، تمكن من الوصول إليه.

وفق رئيس الحكومة اللبنانية “نجيب ميقاتي”، فإن “ما حدث يُدخل البلد إلى مرحلة جديدة”.

ذلك الاستخلاص صحيح تماما، وقد يضفي على أية ردة فعل مضادة لحادث الاغتيال شرعيته الشعبية.

وبقوة الغضب الفلسطيني، اجتاحت الضفة الغربية تظاهرات واحتجاجات، خاصة في جنين، التي استقبل فيها كبطل وطني، عندما دخل مخيمها إثر فشل اجتياحه قبل أحداث السابع من أكتوبر.

إنها إشارة لافتة على مرحلة جديدة أخرى توشك، أن تبدأ ، في فلسطين الجريحة، والمقاومة معا.