أصبح الخوف من العام الجديد سيد الموقف في معظم دول العالم، وخاصة في عالمنا العربي، بعد أن ضربت الحروب كثيرا من بلدانه، وشهدنا أعراض التغير المناخي في سيول وأعاصير وزلازل، ويكفي أن بلدا مثل السودان، كان ينتظر الشعب العام الماضي بداية عملية انتقال ديمقراطي، ولكنه تحول إلى اقتتال أهلي مدمر بين الجيش والدعم السريع، ثم جاء شهر أكتوبر من العام الماضي؛ ليشهد عملية مسلحة لحركة حماس داخل إسرائيل أعقبها عدوان إسرائيلي غاشم على قطاع غزة استهدف البشر والحجر، وقتل حوالي 25 ألف فلسطيني، بينهم 10 آلاف طفل، كما أصاب 60 ألف شخص، ودمر حوالي ثلثي غزة.
لقد أبى العام الماضي، أن يمر، دون أن يصيب العالم العربي بكارثتين كبيريتين إحداهما، لم تكن بعيده عن تأثير التغير المناخي، وهو ما أصاب مدينة درنة الليبية من أعاصير وسيول، والآخر كان زلزال المغرب الذي لا يوجد حتى اللحظة حسم، إذا كان هناك تأثير للتغير المناخي، أم هي تفاعلات الطبيعة.
والمؤكد أن مآسي كثير من الشعوب العربية سواء؛ بسبب الحروب الأهلية أو الاحتلال الغاشم، أو السلطات المستبدة، وأضيف لها الكوارث الطبيعية، قد خلق حالة من “تضامن الأزمات”، والذي كانت الشعوب هي وقوده، وغطى على أوجه القصور المختلفة في الأداء العام للنظم العربية.
صحيح أن “تضامن الأزمات” على أهميته لم يعد يكفي لإدارة العلاقة بين الشعوب العربية، فمن المهم مراجعة أساب غياب صور التضامن الأخرى، وأهمها الفاعلية السياسية للنظم العربية التي لم تستفد من ورقة التضامن الشعبي في تخفيف، أي ضغوط أو حسابات سياسية تقع عليه، وخاصة من الخارج.
ولذا لم يكن غريبا، أن يخشى الناس من العام الجديد، خاصة أن هناك تحديات كبيرة، تواجه العالم العربي، وبلدانه الأساسية مثل مصر، كما أن تداعيات حرب غزة، وتأثيرها على حالة الضعف والصمت العربي سيكون كبيرا، خاصة بعد أن اتضح حجم التراجع الذي أصاب الوزن العربي دوليا وإقليميا.
لم يكن مطلوبا من العالم العربي أن يشارك في حرب غزة، ولا أن يدخل في مواجهة مسلحة مع إسرائيل، إنما كان مطلوبا منه، أن يضغط بكل الوسائل؛ لوقفها، وأن يدخل عبر المعابر المساعدات الإنسانية المطلوبة، وأن يقبل أيضا دخول الصحفيين والأطباء الأجانب الذين طلبوا، أن يدخلوا قطاع غزة.
حرب غزة كشفت تهافت شعارات الممانعة التي لا تدخل الحرب إلا وفق حساباتها، ولا ترفع شعارات المقاومة إلا من أجل تحقيق أهداف عديدة من بينها، مواجهة إسرائيل، ونفس الأمر، ينسحب على شعار الاعتدال وصوت العقل وتحقيق التنمية والاستقرار، فسنجد أن التنمية في كثير من الدول العربية تعثرت، والأزمة الاقتصادية في بلد مثل مصر قد تفاقمت، رغم أنها لم تحارب إسرائيل منذ أكثر من نصف قرن، ولم تنجح في تحقيق أهدافها المعلنة في التنمية والرخاء.
ومن هنا لم يكن غريبا، أن تكون هناك خشية كبيرة على مصر في العام الجديد، وخاصة في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية، وارتفاع معدلات التضخم والغلاء، وفي ظل تردد الحكم في إجراء إصلاحات اقتصادية مطلوبة، رغم طرحها بشكل علني في منتديات رسمية وحزبية وإعلامية مختلفة.
ولعل أهم هذه الخطوات يتعلق بمسألة “تخارج الدولة” بشكل تدريجي من الاقتصاد، وهو يتطلب مراجعة السياسات الاقتصادية التي أدت إليها والاعتراف بالأخطاء، والعمل على تصحيحها، كما بات مطلوبا، أن تراجع الحكومة النموذج الاقتصادي المعتمد، وحدود الدور الذي تلعبه مؤسساتها في المجال العام بشقيه السياسي والاقتصادي.
تحتاج مصر في العام الجديد إلى مؤسسات دولة محايدة ومهنية، وليست طرفا في أي معادلة سياسية، ولا أي نشاط اقتصادي، وإذا قدر لمؤسسات تابعة للدولة أن تدخل في المجال الاقتصادي، فلا يجب أن يكون لديها حصانة أو حماية، أو استثناء من أي نوع، إنما يجب أن يخضع الجميع لنفس المعايير ونفس جهات الرقابة، وأن تصبح الشركات التابعة للدولة، إما شركات خاصة، بدون ميزات تفضيلية أو عامة، ينطبق عليها نفس معايير الرقابة والشفافية التي تنطبق على باقي شركات القطاع العام.
إن بداية الإصلاح السياسي في مصر لن تكون إلا بقيام مؤسسات الدولة بدور المنظم والضامن، وهما شرطان بديهيان؛ لنجاح الإصلاح السياسي، وبداية الطريق للخروج من أزماتنا الاقتصادية.
إن من يراقب الوضع الاقتصادي في الأعوام الأخيرة سيكتشف، إنه في كل عام يتدهور أكثر عن العام السابق، وإن معدلات الغلاء والتضخم وانهيار العملة الوطنية، بات مقلقا، خاصة إن موارد البلاد الإنتاجية في تراجع، وهناك إصرار على التمسك بالمشاريع الكبرى التي يجلب بعضها عائد اقتصادي على المدي الطويل، وليس القصير أو المتوسط، كما أن بعضها الآخر تركز في الطرق والكباري التي بات كثير منها غير مبرر، ولا يمثل أي احتياج مروري ناهيك، عن إنه يعتبر من المشاريع التي لا تجلب أي عائد، ولم تفلح المقاهي والمحلات القبيحة التي انتشرت أسفل الكباري في تحويلها لمشاريع ذات جدوى اقتصادية.
إن المطلوب حاليا بحث خيارات وأدوار جديدة للدولة، تقوم على استدعاء دورها كمنظم محايد للمجال العام بشقيه السياسي والاقتصادي؛ لأن الدولة المتدخلة في المجال العام غير الدولة المنظمة له، والدولة الضامنة لحقوق الجميع السياسية والاقتصادية غير التي تعتبر نفسها طرف في الفعل السياسي والاقتصادي.
لم تعد مصر أمام خيارين متناقضين لنموذجها الاقتصادي، كما جرى في فترات سابقة حين تراوحت بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين التأميم والخصخصة، إنما باتت في حاجة إلى تفعيل نموذج واحد متوافق عليه من أغلب الناس، وهو نموذج رأسمالي منتج قاعدته موجودة، ومطلوب تطويرها وتحسين أدائها.
فالنموذج الأول الذي ساد في الستينيات، اعتمد على القطاع العام وفق تصور اشتراكي، وتأسست في ظله أهم قاعدة صناعية منتجة قادها القطاع العام، وشملت مختلف الصناعات، وعادت وانتقلت البلاد إلى الاقتصاد الرأسمالي في سبعينيات القرن الماضي، واستقرت في الثمانينيات على بناء نموذج جديد، اعتمد على القطاع الخاص، وظهرت شركات ومصانع كبري منتجة، يملكها رجال أعمال مصريون، أنتجت وصدرت لمختلف دول العالم.
واللافت، أن الشركات المنتجة لكلا النموذجين قد تراجع دورها في السنوات الأخيرة، فشركات القطاع العام، استكملت عمليات بيع كثير منها في السنوات الأخيرة، وشركات القطاع الخاص باتت تعاني من مشكلات كثيرة، وبعضها غادر البلاد، وتحدث كثيرون عن مناخ عام طارد للاستثمار، ولا يشجع قيم الإنتاج والابتكار في البلاد.
إن حصيلة ما جرى في هاتين الخبرتين، يقول إن مصر بحاجة لتصحيح سلبيات كل نموذج، وليس إعادة إنتاج لعيوب أي منهما، وأن المطلوب حضور القطاع العام في الصناعات الاستراتيجية والثقيلة، وإذا دخل في إنتاج سلع متوسطة القيمة فيكون ذلك عبر نظام شفاف للمحاسبة، وعادل في المنافسة، كما بات مطلوبا تشجيع القطاع الخاص، وتغيير قواعد المنافسة غير العادلة، ومراجعة أسباب تدهور الوضع الاقتصادي، والعمل على مواجهتها بالجراحة وليس المسكنات.
العام الجديد يبدو، إنه يخبئ الكثير من المفاجآت لمصر والعالم العربي، ونتمنى (ونعتقد)، أنها ستكون هذه المرة مفاجآت سارة، وستكون خطوة للأمام وللأفضل.