مع اندلاع الهجمات المباغتة التي شنتها حركة حماس على إسرائيل، في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وهناك تساؤلات عديدة حول موقع إيران السياسي والميداني. وفيما يبدو، أن الموقف الأميركي بالبداية الذي رجح عدم ضلوع إيران، إنما كان يميل إلى استبعادها من أي دور يؤدي؛ لتوسيع نطاق الحرب، لما هو أبعد من غزة.

لكن تصريحات مرتبكة (تم نفيها، ثم تخفيفها، لاحقاً) خرجت من الحرس الثوري الإيراني بعد مقتل القيادي بحماس صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهي أحد معاقل حزب الله اللبناني المدعوم من إيران، مفادها أن عملية “طوفان الأقصى” كانت ضمن “عمليات انتقامية”؛ للرد على مقتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذي استهدفته مسيرة أميركية عام 2020 بمطار بغداد، تؤشر إلى أن الأزمة الإقليمية في غزة تقع في بؤرة المفاعيل الاستراتيجية الإيرانية. بل هي ضمن مرتكزاتها التي ستحدد مستقبلها بالمنطقة، وتفرض العديد من الاتجاهات الجيوسياسية.

جولة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، هي الخامسة للمنطقة، والتي بدأت بتركيا، الجمعة الماضية. ومن المتوقع أن تشمل خمس دول أخرى، منها الأردن والإمارات وإسرائيل ومصر. هذه الجولة تكشف عن اهتمام أمريكي بـ “التواصل غير المباشر مع إيران” على حد تعبير مسؤول بوزارة الخارجية الأميركية لشبكة “سي إن إن”. وذلك في ظل الدور المحموم للميلشيات التي تطوق المنطقة، والمصالح الأميركية بالخليج والبحر الأحمر بفعل التوتر الإقليمي والصراع بغزة.

تتزامن زيارة بلينكن مع تصعيد هائل، ضد الميلشيات الولائية بالعراق بعد استهدافها القواعد الأمريكية في أربيل وسفارة الولايات المتحدة ببغداد. ووصل التصعيد درجاته القصوى بعد استهداف مسيرة أمريكية اثنين من قادة إحدى الحركات المسلحة المنضوية في “الحشد الشعبي”، والذي يضم الفصائل العسكرية المدعومة من إيران. وإثر الاستهداف الأمريكي، صرح رئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني، بضرورة إنهاء مهمة قوات التحالف الدولي بالعراق البالغ عددهم 2500 جندي. ولهذا، قال بلينكن، إن واشنطن ستضغط لعدم توسع نطاق الحرب. وقال المسؤول الأمريكي: “تتوقع أن تُنقل هذه الرسالة إلى إيران، ووكلائها في المنطقة عبر الدول التي لها علاقة معا”.

حتى الآن، تبدو طهران بعيدة عن الحرب المباشرة مع إسرائيل. وليس ثمة نوايا عملية؛ لخوض صراع خشن بين الطرفين، يؤدي لاستنزاف النظام الإيراني، ويجعلها تخسر نفوذها الذي راكمته تحديداً في فترة ما بعد الربيع العربي. التحرك الإسرائيلي الوحيد الذي، ربما، يخرج عن نطاق المتوقع، أو بالأحرى يضع إيران عبر وكيلها اللبناني، محل اختبار عملي عن حدود، ما تفكر فيه من تصعيد، هو استهداف صالح العاروري بضاحية بيروت الجنوبية.

غير أن تصريح أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، غداة الحادث، جاء ليؤكد استمرار الحزب اللبناني المدعوم من إيران في سياسة “العقلانية السياسية” وتغييب أي “محاولات ثورية تؤدي لإشعال الجبهة في لبنان”، على حد تعبير الكاتب اللبناني منير ربيع. مرجحاً لـ “مصر 360” أن “الرد المتوقع لن يتجاوز نطاق عمليات محدودة ونوعية بما لا يؤدي إلى فتح جبهة جديدة وحرب”.

وهنا، يؤكد الباحث المصري المختص في العلوم السياسية، الدكتور سامح مهدي، أن طهران لا تسعى إلى تصعيد في الجبهات المباشرة مع إسرائيل مثل، الجبهة السورية واللبناني. لافتاً إلى أن التحركات التي تجري في الجولان والجنوب السوري، في أعقاب اغتيال صالح العاروري من قبل عدد من المجموعات المسلحة والميلشيات الإيرانية، إنما هي؛ لتحقيق “استراتيجية دفاعية” أكثر منها شن هجمات.

ويقول الباحث المصري المختص في العلوم السياسية لـ “مصر 360″، إن المؤشرات الميدانية كافة، ترجح أن إيران تطمح لدور سياسي، يمتن وجودها الإقليمي. وتسعى إلى “تفويت الفرصة على إسرائيل، بأن تجرها في فخ الصراع العسكري الذي سيكون بمثابة انتحار سياسي وعسكري”. ولهذا، تباشر ميلشيات الحوثي استهداف السفن النفطية في البحر الأحمر. كما تضغط قوى ولائية عديدة في العراق على القوات الأميركية في بغداد وإقليم كردستان. مضيفاً أن هناك “محددات رئيسية وجيوسياسية” تجعل النظام في إيران، لا يقع في دائرة الاستفزازت العسكرية الإسرائيلية. بل يواصل ملء أرصدته من خلال “تكتيكاته المحسوبة بدقة عبر وكلائه في الجغرافيا البعيدة (العراق واليمن)”. وذلك للاستفادة من التموضع السياسي في اليوم التالي بعد الحرب، والذي لن تكون فيه غزة، كما قبل “طوفان الأقصى”.

ومن بين تلك المحددات، هي “وضع النظام في طهران. الذي على ما يبدو بانتظار مرشد إيراني جديد، وتداعيات ذلك المختلفة، محلياً وإقليمياً، فضلاً عن استكمال، وتعزيز دمج سوريا في محيطها العربي، والتطبيع معها (رغم أزمة الكبتاغون التي تثير أزمات مع الأردن والسعودية والإمارات). وأخيراً استمرار الانفراجة بين الرياض، وطهران وانفتاح الأخيرة على دول مجلس التعاون الخليجي”. يقول مهدي.

ويلفت الباحث المصري المختص في العلوم السياسية، إلى أن الشروط الإقليمية تعزز من وجود مستقبل إيراني بالمنطقة. ويردف: “وجود وكلاء إيران في اليمن، والتي تطل على المواني البحرية، وتفرض نفوذها على الملاحة الدولية، ومسارات السفن النفطية، يعزز من ضرورة الحفاظ على استقرار إقليمي، تكون إيران أو بالأحرى مصالحها جزءاً من حسابات أي تسوية سياسية، وإقليمية تحدث بالمنطقة. وذلك يضمن الحفاظ على أمن الطاقة الذي يشكل اقتصاديات دول الخليج، وحلفائها في الغرب وواشنطن كما إيران. بالتالي، فإن الأطراف كافة ذاهبة إلى التعاون وبناء شراكات تخفض من أي تصعيد لحساب مكتسبات سياسية واقتصادية حتى لو مؤقتة. من المرجح، أن يكون في الربع الثاني من العام الحالي المزيد من الحوارات، واللقاءات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي. كما ستكون هناك انفراجة بين مصر وإيران”.

النخبة السياسية الحاكمة في إيران إذاً، تتوخى تعزيز وجودها الإقليمي المؤثر، والذي تنامى من الناحية الجيوسياسية في العقد الأخير. وهذا ما ذكره، مؤخراً، في التلفزيون الرسمي الإيراني نائب رئيس مكتب الرئيس الإيراني للشؤون السياسية، محمد جمشيدي. وأكد جمشيدي، على أن ما حققته إيران في الشرق الأوسط في عشرية ما بعد الربيع العربي، يعكس سياسة خارجية ناجحة تبرز، راهناً، في إطار التصعيد الذي تبدو فيه “المقاومة” في وضع قوي، على حد تعبيره.

ويكاد لا يختلف الرأي الذي ذكره جمشيدي، عما صرح به الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أيلول (سبتمبر) العام الماضي، وقد ذكر بشكل واضح إلى موقف إيران الداعم “للاستقرار الأمني ​​والتنمية الاقتصادية”. وألح على أهمية التعاون والتشبيك الاقتصادي؛ لخفض أي تصعيد وتوتر. توسع الحرب من “خيارات إيران السياسية والخارجية” والأمر نفسه بالنسبة لخصومها الإقليميين، وفق الباحث المصري المختص في العلوم السياسية سامح مهدي، والذي يرى أن الحاجة ملحة للاستقرار، وتحقيق “أجندة تنموية”، وإنهاء انتقالات آمنة في مراكز الحكم بالمنطقة، واستكمال الاتفاقات الإبراهيمية. فضلا عن حل معضلة الاتفاق النووي، والعقوبات على القطاع النفطي بإيران، بما ينهي عزلتها الدولية.

وهي كلها أمور، تجعل “التفاهمات أقرب من أي وقت مضى لجهة تخفيض الصراعات، وستنشط أدوار خارجية مختلفة مثل، الصين كما الولايات المتحدة الشريك التقليدي والاستراتيجي بالمنطقة”.

كما سبق للمرشد الإيراني علي خامنئي، وقال في اجتماع مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، إن إيران لن تتدخل بشكل مباشر في الصراع نيابة عن حماس. وطالب خامنئي من القيادي بحماس بضرورة إسكات الأصوات المطالبة، بأن تتورط طهران في الحرب.

بالعودة إلى حديث جمشيدي في التلفزيون الرسمي الإيراني، فإنه يضيء على الدور السياسي الذي تبلوره طهران، في إطار الصراع بغزة. فانعطافاتها الإقليمية، لا تتجه إلى بناء أجسام ميدانية بحمولة عسكرية وأمنية، وتعرضها لكثافة النيران، أو المعارك طويلة الأمد، بقدر ما تتجه لأجسام سياسية مرنة، تضطلع بأدوار استراتيجية. فقال: “منذ الأيام الأولى للحرب على غزة، أجرى آية الله رئيسي اتصالات عديدة مع رؤساء الدول ورؤساء الدول. تم تنظيم جولات إقليمية من قبل وزير الخارجية. وكان مقترح القمة الإسلامية هو مقترح الرئيس إبراهيم رئيسي، وذلك بعد الحديث المثمر مع أمير قطر وولي العهد السعودي. طرح الرئيس عدة مطالب، وأجندات رئيسية في هذه المحادثات، أهمها وقف إطلاق النار في غزة. وكان كسر الحصار على غزة هو مطلبه الثاني. كما أن إرسال المساعدات الإنسانية كان من بين أهداف ومطالب رئيسي الأخرى”.

وألمح إلى ما دار بين إبراهيم رئيسي، والأمير محمد بن سلمان. فقال: “في الحديث مع ابن سلمان، أكد الرئيس على ضرورة عقد الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي في أسرع وقت ممكن، حتى يتم التوصل إلى موقف قوي ومتماسك وموحد. تشكلت دفاعاً عن الفلسطينيين. أمريكا لم تسمح بعقد اجتماع رؤساء الدول الإسلامية في البداية، واقترحت بدلا من ذلك اجتماع مصر، ودعت الدول المتوافقة مع النهج التوافقي لحضور هذا الاجتماع. وحضر الاجتماع الذي عقد في مصر، ممثلون عن الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة وإنجلترا”. وقال، إن الحكومة الحالية في إيران تميل إلى “سياسة التقارب والجوار.. وحققت نجاحات كبيرة.. والجزء الآخر هو التركيز على المصالح الاستراتيجية في مجال المقاومة”.

المراقب الدولي السابق لدى الأمم المتحدة، الدكتور كامل الزغول، يقول لـ “مصر 360″، إن المنطقة تتربع على سياسة “حافة الهاوية”. فالمنطقة مرتبطة بالتصعيد الإسرائيلي وليس الإيراني، قبل أي شيء، لافتاً، إلى أن إسرائيل في حال وافقت على وقف إطلاق النار في غزة، ستتوقف جميع الجبهات. فالجبهات الأخرى “تؤمن بأن الدور سيكون عليها، وبغض النظر عما يسمى “محور المقاومة”، المسألة تتعلق باستمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل، فالأداة هي إسرائيل، والمفتاح نحو الاستقرار من عدمه، هو الموقف في واشنطن. وما تريده إيران هو نجاح الحفاظ على استراتيجيتها حول إكمال المشروع النووي. ثم العلاقة مع الخليج، والتي من الممكن، أن تكون راكدة لحين الانتهاء من حرب غزة”.

بالتالي، فمن المستبعد تماماً حدوث أي تصعيد من قبل إيران ضد الخليج، وفق الزغول. فيما سيظل هذا السيناريو بعيداً، إلا إذا “توسعت الحرب، وتعرضت طهران للاستهداف. وهذا ما لا تريده واشنطن، حيث إن القوات الأمريكية بالخليج هدفا مع إعلان الحرب، في تلك اللحظة تنتهي الدبلوماسية مع الخليج. إيران، ستبقى تشاغل بأذرعها حتى تهاجم على أرضها، عندها تنقلب الأمور. في اليمن، ما زالت الأمور مشوشة، خاصة ونحن أمام حكومة إسرائيلية منقسمة، وإدارة أمريكية منشغلة بالانتخابات التمهيدية. وأعتقد أن خيار الحرب على اليمن هو خيار أخير بالنسبة للولايات المتحدة؛ لأن لديها تحدي آخر وهو روسيا والصين. في المقابل إيران، ستدعم حزب الله واليمن لآخر نفس. ولذلك رأينا تصميم الحوثيين على المقاومة”.

يتفق والرأي ذاته تقدير موقف نشر بمبادرة الإصلاح العربي بالتعاون مع مؤسسة “تشاتام هاوس”، والذي يقول: “في حقيقة الأمر، يتأثر دور إيران الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا بشكل كبير بتطور علاقات الدولة، والمجتمع الإيرانيَّين والتحولات داخل مؤسسات الدولة. وإن الحضور المتنامي لفيلق الحرس الثوري الإسلامي كممثل إقليمي هو في جزء منه انعكاس لعسكرة النظام السياسي داخل إيران، وإضفاء الطابع الأمني عليه. وفي مقابل ذلك، فإن الإحباط الذي تشعر به شرائح من الشعب الإيراني بسبب عدم قدرة النظام السياسي على الإنجاز الاقتصادي يتجلى بشكل متزايد في انتقاد دور النظام الإقليمي والطعن فيه. لقد أثَّرت هذه الديناميات المتغيرة على طريقة تسويغ النظام الإيراني؛ لتدخله الإقليمي وتبريره له، ويمكن رؤية ذلك في الانتقال من خطاب، يركز على نشر النفوذ الشيعي إلى صيغ أكثر واقعية، تتمحور حول المصالح الأمنية والاقتصادية”.