كثيرة هي الخروقات التي تتعدد من قبل المواطنين في مصر لأحكام الدستور، وإذا كان هذا الأمر بالنسبة للدستور، فما بالنا بمواد القانون التي كثيرا ما تنتهك دوما.

على أن مسألة خرق الدستور من قبل المواطن، أحيانا ما يتم ملاحقتها من قبل السلطات الرقابية، ما يجعل الناس، تخرق الدستور في الخفاء، ومن ثم تخشى الملاحقة.

الأخطر من ذلك كله، هو أن تقوم السلطة ذاتها بخرق الدستور، وتتمثل الخطورة هنا في أربعة أمور.

أولا: أن السلطة التي تخرق الدستور هي غالبا من شاركت في وضعه، أو على أقل تقدير، ساهمت من خلال ممثليها ومؤيديها في سن مواده. بعبارة أخرى، إن الدستور الذي وضع عام 2012، وكان الإخوان فيه على رأس المشهد السياسي، عدلته السلطة بعد القضاء على حكم الإخوان عام 2014، ثم عام 2019، فأصبح معبرا عنها وعن توجهاتها، حتى لو لم تمثل بشكل نظامي في لجنة وضع الدستور.

ثانيا: أن عملية خرق السلطة للدستور تتم في العلن، على عكس خرق المواطن له في الخفاء. بمعنى أن السلطة لا تخشى من ملاحظة الخرق، وذلك لأن أطر المحاسبة أصبحت مهترأة في إطار الخلل البين، والهوة الكبيرة التي تخل بحال التوازن بين السلطة التنفيذية، والتشريعية لصالح الأولى، ومن ثم تصبح السلطة لا تخشى المحاسبة السياسية، ومن باب أولى لا تخشى المحاسبة الإدارية، فهي من يعين أو على الأقل، ترشح للعمل القائمين على رأس تلك الأجهزة المحاسبية.

ثالثا: أن خطورة خرق السلطة للدستور يقضي على القدوة، بمعنى أن المواطن أو المجتمع يرى أن القائم على صيانة الحقوق، والواجبات التي أتى بها مواد الدستور وفصلها القانون، والتي كان بتوجب عليه التمسك بها، بل وحمايتها، هو ذاته من يمعن في انتهاكها، ومن ثم تصبح نظرة الناس هنا أكثر فوضوية، حيث يكون الأثر هو انتهاك قيم المجتمع كله، إذ ينتشر الفساد بصورة غير مسبوقة، مع رؤية القدوة، تضرب بالدستور عرض الحائط.

رابعا: أن الخرق الذي تقوم به السلطة للدستور هو خرق، يتعلق بالشأن العام، أما خرق المواطن للدستور، فهو خرق غالبا ما يكون متصل بالشأن الخاص، ومن ثم تكون تداعيات خرق السلطة للدستور أكبر وأشد وطأة، وأكثر تأثيرا وإيلاما على الدولة والمجتمع. بعبارة أخرى، أن خرق السلطة تأثيره أكبر، لأنه ينطوي على التعميم في كافة القطاعات الموضوعية والجغرافية. ومن ثم إذا كان خرق المواطن للدستور، يقدر عادة بخسارة الدولة لآلاف الجنيهات، فإن خرق السلطة يكلف الدولة ملايين، وربما مليارات الجنيهات.

لكن ما هي أبرز مواد الدستور التي تخرقها السلطة، وتؤثر بشكل بالغ على أداء الدولة والمجتمع.

أولا: المادتان 242 و176 المتعلقتان بنظام الإدارة المحلية، وتنص الأولى، على “أن يتم تطبيق النظام المنصوص عليه في الدستور بالتدرج خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذه….” وتنص الثانية على أن تكفل الدولة دعم اللامركزية ….ويحدد البرنامج الزمنى لنقل السلطات والموازنات إلى وحدات الإدارة المحلية”. وحتى الآن لم تنعقد المجالس المحلية، ولم يسن قانون الإدارة المحلية بداية، وهو أمر مؤثر بشكل سلبي، وخطير على إدارة عملية التنمية التي أوكلت بعد انهيار القطاع الخاص، منذ انتهاء عصر مبارك، إلى مؤسسات سيادية بعينها، ما أدى إلى إرباك العمل الإداري في المحليات بشكل مزري، ناهيك عن تولي إدارة أغلبها للضباط المتقاعدين، وهم ليس لهم أدنى خبرة بالتعامل مع المدنيين. إن الخشية من العمل باللامركزية التي أقرها الدستور في قانون الإدارة المحلية المفترض سنه، (تلك الخشية)، تثبت دوما فشلها عبر التعامل بشكل مركزي في كافة المعاملات، لما في ذلك من أسلوب أوتوقراطي يسهم في كسر الابتكار، وإحباط الشباب ومن ثم انتشار الفساد. كما أن الخشية من عقد الانتخابات المحلية بدعوى الخوف من عودة الإخوان من خلالها، لهو مدعاة للخوف وعدم الثقة بالنفس، وبالشعب الذي لفظ هؤلاء.

الأمر الثاني، ضرب التعليم والصحة، وهما عماد الخدمات في أي مجتمع نام، ومتقدم في آن، من خلال نكوث السلطة بكل ما قرره الدستور للصحة، والتعليم، والتعليم الجامعي، والبحث العلمي من نسب 3% و4% و2% و1% طبقا لما ورد في المواد 18 و19 و21 و23 من إنفاق حكومي قياسا للناتج القومي الإجمالي، وهو أيضا ما تجاهلاته توصيات الحوار الوطني مؤخرًا، رغم قرارات لجانه التابعة له والمؤكدة على ضرورة إعمال تلك المواد، وقد جاء ذلك لمجرد إشارة الرئيس في أحد كلماته أن هذه النسب صعبة التحقيق، وذلك كله رغم أن الدستور أقر في م 238 سقف موازنة 16/ 2017 لإعمال كافة تلك النسب. إن الناظر إلى سياسات السلطة، يلاحظ أنها تقريبا استعاضت عن تلك النسب وجملتها 10%، ومنحتها للطرق والمونويل والقطار الكهربي (2 ترليون جنيه وفقا لكلام الرئيس عبد الفتاح السيسي)، وكان التعليم والصحة أحق على الأقل بنصف، ما أنفق على هذا القطاع، حتى تتحسن جميع القطاعات، بدلا من أن تهرب الطواقم الطبية إلى الخارج، أو تشغر المدارس من المدرسين الذين ترفض وزارة التعليم تعيين شباب جدد، وتمنح للبعض الفتات نظير العمل بالقطعة كالأُجراء، وعمال اليومية، ولهم جميعا كل الفضل المنة.

الأمر الثالث، يعني بالمساواة، حيث تنص المادة 53 من الدستور، على أن “المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهما؛ بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر….”. هذه المادة من أكثر مواد الدستور انتهاكا من قبل السلطة. خذ على سبيل المثال، قطاع الأعمال الخاص الذي يدفع ضرائبه، ولا مقابل لنظير ذلك، فيما تملكه بعض مؤسسات الدولة السيادية. خذ أيضا الرواتب والدخول التي قننت بحدود قصوى لا يمكن تخطيها، حيث يتم فعليا تجاوز تلك الحدود، ما يجعل هناك تفرقة بين المواطنين. خذ كذلك ما نشاهده يوميا من إعفاء الضباط بالخدمة والمتقاعدين منهم من ضريبة المرور على الطرق السريعة مقابل دفع كل الفئات الأخرى مقابل المرور، رغم أن الجميع يقوم، أو كان يقوم بأعمال وظيفية محضة، يجب تقديرها بشكل متساو. كل تلك الانتهاكات وغيرها وغيرها، تنتهي إلى حالة تفرقة بين الناس والمؤسست الرسمية وغير الرسمية، وتولد مع ملاحظاتها اليومية حالة من حالات الحنق، والحقد والضغائن بين الأفراد والكيانات المنظمة.

الأمر الرابع، عدم إعمال الدستور في شأن المادتين 239 و241. المادة الأولى تنص على سن قانون خلال 5 سنوات، اعتبارا من يناير2014؛ لمنع ندب القضاة لجهات غير قضائية، (ويقصد بها تحديدا الندب لدى السلطتين التنفيذية والتشريعية). والمادة الثانية، معنية بسن قانون خلال عام واحد من التاريخ السابق، يخص العدالة الانتقالية. فلا أصدرت السلطة هذا ولا ذاك. هنا يجب التنوية بشأن الأمر الأول تحديدًا، أن إغفاله هو أمر خطير؛ لأنه يدعم حال عدم توافر النوايا الحسنة إلى الفساد في الدولة، والمجتمع في واحد من أخطر دواليب العمل فيه، وهو السلطة القضائية.

الأمر الخامس، يتعلق بنزاهة الانتخابات إذ تنص المادة 87 على أن “….وتضمن الدولة سلامة إجراءات الاستفتاءات والانتخابات وحيدتها ونزاهتتها، ويحظر استخدام المال العام والمصالح الحكومية، والمرافق العامة ودور العبادة ومؤسسات قطاع الأعمال والجمعيات والمؤسسات الأهلية في الأغراض السياسية أو الدعاية الانتخابية.”. وكل تلك الأمور، انتهكت في كل الانتخابات التي تُجرى. يكفي القول، إنه في الانتخابات الأخيرة لم يصدر إلى اليوم نتائج الانتخابات على مستوى المراكز والأقسام الإدارية، كما يحدث كل مرة، ولم يبرر إلى اليوم، كيف أن المقترع أخذ نصف دقيقة فقط؛ ليصوت 44 مليون من الناخبين في ثلاثة أيام!!.

هكذا يتبين، أن انتهاكات السلطة للدستور كثيرة، وهي تفضي حال الاستمرار فيها، وتعدد مصادرها ومجالاتها إلى قيام المواطنين أنفسهم بالعمل على خرق الدستور أيضا. وعامة، فإن كل ما تقدم قد ينذر حالة استشراؤه بالفوضي داخل المجتمع الدولة، حيث يصبح الجميع محكوم بشريعة القوة، أو من لديه السطوة والسلطة والنفوذ، أو من يستطع أن ينجح، في أن يحجب خطأه عن أعين الآخرين. وهي جميعا سلوكيات، تحتاج إلى ضرورة العودة عنها وإعمال الدستور، والقوانين المنظمة لمواده، حتى يسود الوئام بين الدولة والمجتمع، ولا يتصيدها أعداء الوطن في الداخل والخارج.