غير صحيح، أن المصريين وغيرهم من شعوب الشرق عاشوا آلاف السنين تحت القهر والقمع، نظرية الاستبداد الشرقي جزء من رؤية الغرب وسرديته للعالم، أو لكل ما هو غير غربي، النظرية تقوم على افتراضات، واستنتاجات وفق قواعد المنطق الصوري، وليست وفق حقائق التاريخ ووقائعه، مقولاتها رغم ما تبدو عليه من اتساق، هي محض افتراضات، تم فرضها بقوة العلم الغربي والهيمنة الغربية، وبات على كل فرد فينا- نحن الشرقيين- أن يصدق، أنه كائن ديكتاتوري تحت الطلب، وأنه مولود لأبوين ديكتاتوريين، ومن أجداد يحملون جينات الديكتاتورية، هذه الجينات قدر لازم ومصير محتوم، لا فكاك منه اليوم والغد، مثلما لم يكن منه فكاك في الأمس القريب والبعيد.

القول بأن حضارات الشرق قامت حول منابع الأنهار، وأن التحكم في نظم الري وتوزيع المياه استوجب وجود سلطة مركزية قوية، وأن هذه السلطة المركزية القوية كانت بالضرورة مستبدة، وأن هذا الاستبداد كان بالضرورة مزمناً، وأن هذه الطبيعة المزمنة ليس منها مفر، كل ذلك افتراضات اختلقها الاستشراق، ثم روجها الاستعمار؛ لتبرير تفوق الرجل الأبيض، ورسالته في تمدين وتحضر شعوب الشرق، وهي- في الحقيقة- لم تكن غير أكاذيب؛ لخلخلة ثقة شعوب المستعمرات في نفسها، ولترويض نخبها، ودوام سيطرة الغرب احتلالاً، ثم نهباً، ثم بعد زوال الاحتلال، استمرت سيطرته وهيمنته في أشكال متجددة.

الاستثناء بين المستشرقين، كان الفرنسي إيف شمايل- وهو من مواليد القاهرة في عام 1947م- في كتابه القيم “السياسة في الشرق القديم”، نفي فيه مزاعم الطغيان والاستبداد الشرقي، وأثبت أن حضارات الشرق في مصر والعراق والصين ابتكرت أنظمة حكم رشيد مسئول، يقوم على تدبير المصالح العامة وفق العقل والمنطق، ولهذا فإن الشرق القديم سبق الغرب في تأسيس الدول، بما في ذلك نموذج الدولة المدينة الذي تأخر ظهوره في الغرب، حتى ظهر في المدن الإغريقية في القرون الخمسة الأخيرة قبل الميلاد، وإذا كانت الديمقراطيات الغربية الحديثة تفخر، بأن أصول نهضتها تكمن في المقادير الكبيرة من حريات المبادرة الفردية وحريات التعبير، فإن إيف شمايل يقول في ص 17: “حرية المبادرة والتعبير كانت موجودة في هذه البقاع التي زعم الزاعمون- يقصد مروجي نظرية الاستبداد الشرقي- أنها كانت مواطن ومنابع ديكتاتوريات نمط الاستبداد النهري”.

يصدر إيف شمايل كتابه بصورة رجل دولة مصري محترف سياسة، وحكم من عهد الرعامسة الذين حكموا في عهد الأسرتين التاسعة عشر والعشرين بين عامي 1192 و1077 قبل الميلاد، وكتب تحت الصورة التعليق التالي: “رجل خبير مجرب على الرغم من صغر سنه، يرتدي ثياباً، تتسم بأناقة دون بهرجة، تغلب نظرته الحادة على سمات وجهه الذي خلا من كل تعبير، كل شيء في هذا السياسي المصري المحترف، يعبر عن المثل السياسية العليا لقدماء الشرقيين، سهولة ووضوح، يكتنفهما تحفظ وانتباه”. ثم يقول، “إن هذا العمل الفني المستلهم من فن العمارنة يقوم على تصوير مرونة البدن، واستقلال العقل عكس التصورات الرائجة عن ذاك الفن، بأنه فن تقليدي جامد يكرس نفسه؛ لتجسيد السلطة الملكية أو الإلهية”.

يرى إيف شمايل، أن التراث السياسي لحضارات الشرق القديم- مصر والعراق- يقوم على فكرة التفويض من الشعب للحاكم، لكنه تفويض مشروط بأمرين: أولهما، التوزيع العادل للثروات بين الجميع، وثانيهما، التحجيم الذاتي للسلطة، بما يكفي لصدها وردعها عن البغي والطغيان. ويقول إن الشرقيين وضعوا اللبنات الأولى للحداثة، وقد تمثلت حداثتهم في أنهم وضعوا للسلطة حدوداً، وفرضوا عليها قيوداً، وأنهم وضعوا التجارب الأولى؛ للتعبير الحر عن الإرادة العامة، وهذه هي جوهر معاني الحداثة.

ويضرب إيف شمايل مثالاً بنظام التصويت بالأغلبية؛ لسن التشريعات واتخاذ القرارات وصنع السياسات التي تكون محل خلافات بين الفرقاء السياسيين، فيقول إنه رغم النزاع بين المتخصصين، حول ما إذا كان نظام التصويت بالأغلبية قد ابتكره المصريون القدماء، أم حضارة بين النهرين في العراق، بغض النظر عن هذا، فمن الثابت أن هذا النظام كان معمولاً به في الحضارتين المصرية، والعراقية عند القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ولم تعرفه أوروبا إلا بعد القرن الثامن عشر الميلادي، أي أن هذا الشكل من الممارسة الديمقراطية كان في مصر والعراق أسبق من أوروبا، بما يقترب من أربعة آلاف عام.

………………………………………………………….

الديمقراطية الليبرالية الغربية هي فقط بنت القرون الثلاثة الأخيرة، منذ الثورتين الأولى والثانية في بريطانيا القرن السابع عشر، ثم الثورة الأمريكية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، ثم الثورة الفرنسية في العقد الأخير من القرن الثامن عشر، ولم تنضج الديمقراطية البريطانية، حتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ولم تنضج الديمقراطيتان الفرنسية والأمريكية، حتى عقد الستينيات من القرن العشرين، وقبل ذلك كان الغرب مثل غيره محكوماً بأنظمة حكم نابعة من ثقافة زمانها، وظروف تطورها الاقتصادي والاجتماعي.

بريطانيا كانت محكومة بالحق الإلهي، حتى قطعت الثورة الأولى رقبة الملك تشارلز الأول 1649م، كذلك كانت فرنسا محكومة بالحق الإلهي، حتى أعدمت الثورة الملك لويس السادس عشر 1792م، كانت المقصلة الثورية التي جزت رقبتي الملكين هي النقطة الفاصلة بين ديكتاتوريات الحكم بالحق الإلهي، حيث الملك نائب عن الخالق جل في علاه، وبين الديمقراطيات، حيث شقت الشعوب طريقها المتعرج، والمتعثر والشاق نحو الحكم بإرادة الشعب.  بهذا المعنى، لا يوجد أي منطق، لاتهامنا أو اتهام غيرنا من الحضارات، بأننا عشنا أبد الدهر في طغيان واستبداد وديكتاتوريات، فالديمقراطية الليبرالية الغربية فضلاً عن تأخر ظهورها على مسرح التاريخ، ما تزال حتى هذه اللحظة أسيرة العالم الغربي- غرب أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا- وما زالت أغلبية شعوب العالم محكومة بتراثها السياسي النابع من خبرتها التاريخية، وقد نجح بعضها- وبالذات في الصين- في إنجاز تحديث فائق العظمة، دون ديمقراطية، كما أفلحت في إنجاز تجربة تنموية استثنائية، دون ديمقراطية، أقصد دون ديمقراطية ليبرالية غربية. وغياب النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي لا يعني- بالضرورة- الطغيان والاستبداد والديكتاتورية، إنما يعني- في حالة الصين مثلاً- أن التراث السياسي الوطني فيه من الرشد، والعقلانية والحكمة والمسئولية والمحاسبية، ما يوفر نموذجاً قيادياً ناجحاً، انتقل بربع سكان العالم من مستنقعات العالم الثالث إلى مشارف العالم الأول في خمسين عاماً أو أقل.

الديمقراطية الليبرالية الغربية باختصار شديد تعني: دولة السيادة العليا فيها للدستور والقانون، والتداول السلمي على السلطة عبر انتخابات عامة دورية منتظمة، والتوازن بين السلطات، وغل يد السلطة التنفيذية عن المساس بحقوق باقي السلطات، واستقلال القضاء كحصانة عامة لجميع الحقوق، وضمان الحريات الفردية، وكفالة الحريات العامة مثل، التعبير والتفكير والتجمع والتجمهر والتظاهر والإضراب والاحتجاج إلى آخره.

……………………………………………………….

نحن في مصر أقرب ما نكون إلى الديمقراطية الليبرالية الغربية لعدة أسباب:

1 –  نحن المصريين لم نعرف القهر الذي يقتل فينا روح المبادرة الفردية في أهم قرنين من تاريخنا، وهما القرن السابع عشر والثامن عشر، حيث كانت السلطة العثمانية قد بدأت قبضتها، تهي وتلين، ثم حتى وهي في عصر عنفوانها في القرن السادس عشر، لم تكن تتدخل في تفاصيل الحياة المحلية للمصريين، فكانت هوامش الحرية طليقة من قيود المركز الإمبراطوري في إسطنبول، ثم قوة الحكم الفعلية، كانت للمماليك، والمماليك كان طبعهم الانقسام والصراع، وهذا بدوره سمح للمصريين بهوامش حركة إضافية، وعبر هذين القرنين، ظهرت ونشطت طبقة مصرية حضرية مهمة ومؤثرة، لديها منافذ للثروات وللتعليم وللنفوذ، وهذه هي التربة المناسبة؛ لخلق طبقة وسطى وطنية، تكون حاضناً لبذور وجذور التطور الديمقراطي الوليد، ومثلما كان للإنجليز ماجنا كارتا للحقوق والحريات، انتزعوها من الملك جون 1216م، فكذلك كان للمصريين وثيقة حقوق وحريات، فرضوها على إبراهيم بك ومراد بك 1795.

2 – صحيح محمد علي باشا، لم يكن حاكماً ديمقراطياً، لكنه قاد تجربة تحديثية كبرى، كان حتماً أن تنتقل من خلالها الأفكار الديمقراطية والوطنية، والثورية والدستورية والحريات والحقوق والواجبات والإرادة العامة، وقد تفاعل تحديث الباشا، وتراكم مع الطبقة الحضرية السابقة على وجوده، والتي كان لها فضل صعوده للحكم، والتي كانت سبب نجاح تحديثه، فلو كان الباشا- بما ينسب له من عبقرية إدارية- واليا عثمانيا على غير مصر، لما أنجز ما أنجزه في مصر، مصر كانت جاهزة بما لديها من طبقة حضرية في القاهرة والإسكندرية، وبنادر وريف بحري ومصري، هذه الطبقة الحضرية، مع ما أدخله محمد علي باشا من أنوار أوروبية، هي من قادت مصر على طريق الثورات من قبل الباشا، وفي حضوره ومن بعده، من النصف الأخير من القرن الثامن عشر، حتى ثورة 25 يناير 2011م.

3 – هذه الطبقة الحضرية، سواء في شكلها الارستقراطي التركي الشركسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أو أعيان الفلاحين من كبار الملاك المصريين في النصف الأول من القرن العشرين، أو الطبقات الوسيطة في النصف الثاني من القرن العشرين، أو الشعب المصري الجديد الذي ملأ الميادين في يناير وفبراير 2011م، هذه الطبقة الحضرية، كانت وما زالت ذات منزع ديمقراطي ليبرالي غربي، بما في ذلك الاتجاهات ذات الطابع الأيديولوجي مثل، الإسلاميين واليسار.

4 – كافة ثورات المصريين، كانت مدفوعة بإيمان عميق بفضائل الديمقراطية الغربية؛ لسبب جوهري، وهو أن التعليم المصري الحديث، قبل وبعد الجامعي، المدني والعسكري، تعليم غربي وبالتحديد فرنسي، ثم انجليزي ثم إيطالي ثم أمريكي، كليات الحقوق والآداب والحرب، وهي منابع ومهاد تكوين النخب العليا المؤثرة، تأسست على النموذج الغربي والعلم الغربي والقيم الغربية.

5 – كفاح المصريين من أجل الديمقراطية، لم ينقطع منذ تأسيس الدولة الحديثة، وحتى تأسيس الجمهورية الجديدة، قد تخبو شعلة الكفاح تحت وطأة القمع الشديد، لكنها لم تخمد ولم تنطفئ.

…………………………………………………………………

من تناقضات الدولة الحديثة من محمد علي باشا إلى الجمهورية الجديدة، أنها جاءت بتحديث يقود إلى تحول ديمقراطي من جانب الشعب.

لكن يرافقه إمكانات للطغيان والديكتاتورية، والاستبداد من جانب الدولة وأجهزة الحكم والإدارة.

هذا التناقض هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.