من يشاهد المجازر المنظمة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، ضد الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، والتي أصبحت طقسا يوميا في نشرات الأخبار، وتأتي في مرتبة جرائم الحرب المنظمة والموثقة بالصوت والصورة، ضد المدنيين والمنشآت المدنية والمستشفيات والمدارس، والمخيمات التي تعج بالسكان، في المقابل هناك غياب كامل؛ لمواقف دولية جادة بإدانة هذه المجازر، وخاصة من جانب دول الغرب.

ولا تستثني تلك الجرائم أي مكان على خارطة القطاع، حيث يمتد مسرح عملياتها من شمال غزة إلى جنوبها، وسط نوايا معلنة بالإبادة الجماعية، والتهجير القسري للآلاف منهم، وقصفهم أثناء تحركهم الجماعي؛ هروبا من هذه المجازر. وهذه الجرائم محظورة بموجب القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف الأربع بشكل خاص، التي تميز في الصراعات المسلحة بين المدنيين والعسكريين والمنشآت المدنية والعسكرية كذلك. وتؤكد تناسب رد الفعل، وحظر استخدام أسلحة معينة.

ولا تكاد تحصى هذه المجازر التي كانت كنيسة مستشفى المعمداني أولها، وأبشعها والتي وصل ضحاياه إلى مئات الشهداء والمصابين.

ولا يخفي الكيان الصهيوني نواياه التي تأتي على لسان قياداته التي تحرض على الإبادة الجماعية، وتحقير الفلسطينيين ووصفهم بالنفايات البشرية، بل ودعا البعض إلى قصف غزة بالقنابل النووية!!

ولا يريد كيان العدو الاعتراف، بأنه يخالف القانون الدولي في استمرار احتلاله للأراضي الفلسطينية، ورفضه إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلت عام 1967، بموجب القرارات الدولية ذات الصلة، ومنها قرار التقسيم ذاته 181 الصادر عام 1947، والقرار 242 عام 1967.

كما تتجاهل دول الغرب وإسرائيل كذلك، اعتراف القانون الدولي بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكافة السبل والطرق.

ويكاد المرء يصاب بالصدمة، عندما يقارن ردود الأفعال الدولية تجاه، ما يحدث في غزة بحرب روسيا، ضد أوكرانيا العام الماضي، وكيف قامت الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الغرب بالعمل على إصدار عدة قرارات من مجلس الأمن بإدانة العدوان الروسي، ثم قيام الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بقرارات المقاطعة الاقتصادية لروسيا، للضغط عليها اقتصاديا وسياسيا لوقف الحرب، ضد أوكرانيا، وكيف فتحت دول أوروبا المجاورة أبوابها؛ لاستضافة اللاجئين الأوكرانيين، دون قيد أو شرط وتوفير كل الإمكانيات لإعاشتهم.

بالرغم من الفارق في الدرجة، والنوع بين حالتي الصراع هنا وهناك، فلم يحدث أي من الجرائم التي تتم في غزة في مثيلتها أوكرانيا. كما ليس هناك احتلال كامل للمدن الأوكرانية من قبيل روسيا، ولا قصف يستهدف المدنيين في منازلهم، ولا منشآتهم المدنية، ومع ذلك كان هذا رد الفعل القوي من جانب حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي بالمقارنة بذلك الرد الفاتر، والداعم للاحتلال الإسرائيلي في جرائمه ضد المدنيين.

في المقابل، تناست الدول الكبرى كل مبادئ القانون الدولي الإنساني التي تؤكد على مبادئ أساسية، أثناء العمليات العسكرية منها التمييز، بين المدنيين والعسكريين وبين المنشآت المدنية والعسكرية. وعدم قصف الأعيان المدنية مثل، المستشفيات والمدارس والبنايات المليئة بالسكان والبنية الأساسية مثل، الكهرباء والمياه والسدود، والقوانين التي تحظر استخدام أنواع معينة من الأسلحة.

بالإضافة إلى الاغتيال المتعمد لعشرات الصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء، والقنوات الفضائية الفلسطينية والدولية، واستخدام العقاب الجماعي ضد أسرهم، من خلال قصف منازل هؤلاء الصحفيين وعائلاتهم وأبنائهم، عقابا لهم على التعريف بالحقيقة، وإذاعتها وتصوير هذه المجازر بالصوت والصورة، وعندما تقارن هذه الانتهاكات، بما حدث من سنوات بإطلاق النار على صحيفة شارلي إبدو الفرنسية، ومقتل عدد من الصحفيين، ما جرى خلال 24 ساعة بتنظيم تجمع احتجاجي في قلب باريس حضره الكثير من زعماء العالم، ومنهم عدد من الرؤساء العرب في إدانة واضحة لتلك الجريمة التي استهدفت مبنى الصحيفة. وهو ما لم يحدث بعد مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة، منذ عامين برصاص جنود الاحتلال الإسرائيليين، ولا ما يزيد على مائة صحفي فلسطيني!!

وتجاهلت دول الغرب اتخاذ مواقف موضوعية تجاه هذا العدوان الذي يدخل شهره الرابع، ولا يكتفي بذلك، بل تقوم بتعطيل مجلس الأمن عن اتخاذ قرارات ملزمة بوقف إطلاق النار فورا من خلال استخدام حق الفيتو.

هذا الموقف، يمثل ازدواجية واضحة في مواقف الدول الكبرى، ولم تستخدم أي مواقف جادة تجاه، ما يحدث في غزة بالرغم من وضوح هذه الجرائم بشكل أبشع في الدرجة والنوع والعلنية بالمقارنة، بما يحدث في أوكرانيا.

وكأن إسرائيل لها وضعية خاصة، حيث تعامل كالابن المدلل، فمهما فعل من جرائم وتجاوزات، لا يتم عقابه عليها، ويسمح له بالإفلات من العقاب، بالرغم من أن العالم يشاهد تلك الجرائم فور ارتكابها أمام الكاميرات، الا أن الإدارة الأمريكية، وغيرها من البلدان الأوروبية تلتمس الأعذار، وتحاول إنكارها، وتعطي “إسرائيل” حقها دفاعا عن النفس، وهو ما لا تعترف به للطرف الفلسطيني!! الذي يعترف القانون الدولي له بالحق في تقرير المصير والدفاع الشرعي عن النفس.

إن استمرار هذه المذابح طوال ثلاثة شهور، أمام ما يسمى بـ “العالم الحر والديمقراطي”، إنما يمثل إدانة للدول الكبرى، وما ترفعه من شعارات سواء في أوكرانيا، أو في غيرها من الدول، وتشكك في إيمانها بمبادئ حقوق الإنسان. وتعطي الأعذار كذلك للأنظمة العربية المستبدة بانتهاك حقوق شعوبها، وتركيزها على الجوانب السياسية؛ لتشكيك الدول الكبرى في مواقفها تجاه حقوق الإنسان.

أن هذه الازدواجية تدين بشدة كل مواقف الدول الكبرى في الحديث عن مناهضة الإرهاب، والعداء لكل المبادئ السامية ذات العلاقة بالقانون الدولي الإنساني.

وصل عدد الضحايا اليوم إلى ما يزيد على العشرين ألفا ثلثيهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى آلاف المصابين، في مشاهد تمثل إدانة ليس لقوات الاحتلال بمفردها، بل للعالم أجمع الذي سمح بهذه الجرائم، تمر أمام عيونه، دون اتخاذ رد فعل، يتناسب مع هذه الجرائم المستمرة؛ لأنه يصر على تجاهلها والتماس الأعذار لمرتكبيها.

في مقابل هذه المواقف المتخاذلة، نجد الآلاف من شعوب دول العالم، تحركت لإدانة الجرائم الصهيونية في غزة، وتسميتها باسمها الحقيقي جرائم حرب، وإبادة جماعية، وتطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني من خلال المظاهرات، والتجمعات التي انخرط فيها نشطاء وطلاب، ويهود أيضا من الولايات المتحدة الأمريكية ودول وأوروبا، واستقالة العشرات من العاملين بوظائف رسمية في هذه الدول؛ بسبب تخاذل تلك الحكومات عن أداء واجبها في ممارسة الضغوط على دولة الاحتلال في وقف جرائمها، ضد النساء والأطفال والمدنيين الفلسطينيين، واستخدام القوة غير المناسبة، والتي لا تستهدف أماكن عسكرية لحماس، ولا كتائب القسام، بل تستخدمها ضد الأسرى الإسرائيليين أحيانا غير عابئة بردود أفعال مواطنيها.

أن الدول الكبرى التي عانت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعانى المدنيون فيها من ويلات الحروب، أمام اختبار صعب، ـ إما أن تنحاز لتطبيق القانون الدولي من مبادئ استقر على احترامها لكافة دول العالم، وإما أن تصر على انحيازها اللا إنساني لكل ما تمثله دولة الاحتلال من جرائم بحق الإنسانية، والشعب الفلسطيني في المقدمة، وبالتالي سيكون هذا السلوك المعتمد لباقي دول العالم