جولة وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” الجديدة في المنطقة، طرحت تساؤلات جوهرية حول طبيعتها وأولوياتها، وحدود تأثيرها على منع تصعيد الاشتباكات بين “حزب الله”، وإسرائيل إلى تخوم حرب إقليمية واسعة.
تحت صدمة انكشاف البنية العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية إثر السابع من أكتوبر الماضي، عملت الولايات المتحدة على “منع استغلال الوضع”، في إشارة صريحة إلى “حزب الله” وإيران.
أرسلت حاملتي طائرات وبوارج حربية، وألفي جندي من قوات “المارينز” إلى المتوسط بالقرب من إسرائيل كرسالة ردع، وحشدت دول أوروبية أخرى للمهمة نفسها.
يستلفت الانتباه، أن إسرائيل تحاول الآن دفع الحوادث إلى حافة الحرب الإقليمية؛ اعتمادا على قوة الحليف الأمريكي، الذي يناهض الانخراط فيها، لكنه يقف شبه عاجز عن ردعها!
أخذت في التصعيد من اغتيال “صالح العاروري” نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في ضاحية بيروت الجنوبية، قلعة “حزب الله” إلى اغتيالات منهجية أخرى لعدد من قيادات المقاومة اللبنانية.
التصعيد الميداني ينذر بحرب إقليمية أوسع.
رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، يطلب فتح جبهة أخرى في الشمال؛ بذريعة إعادة الأمن إليه، وعودة المستوطنين الذين اضطروا للنزوح.
كان ذلك نوعا من الهروب إلى الأمام، بعد أن لحقت به هزائم مذلة في شوارع غزة، وأنفاقها حتى لا تتعرض حكومته للتقويض، ويدخل السجن بتهمة تلقي رشى ثابتة بحقه.
إذا ما نشبت حرب واسعة، فإننا سوف نكون أمام تحولات وانقلابات إقليمية، تماثل أو تزيد عن تلك التي لحقت الاحتلال الأمريكي للعاصمة العراقية بغداد في إبريل (2003).
بعد أقل من شهر على ذلك الحادث المزلزل، طرأ موعد بغير ترتيب مسبق مع أمين عام “حزب الله” “حسن نصر الله” أثناء اجتماع طارئ للمؤتمر القومي العربي، انعقد في بيروت؛ للبحث في تداعيات احتلال العراق.
جرى الحوار مطولا حول التداعيات المحتملة في المنطقة، وما تأثيرها بالذات على مستقبل “حزب الله”.
في ذلك اللقاء تطرق “نصر الله” إلى ثلاث قضايا مقلقة، وأبدى ملاحظاته عليها.
الأولى، تتعلق مباشرة باحتلال العراق والموقف منه.
كانت تلك معضلة سياسية وأخلاقية.
بتكوينه الأساسي فهو رجل دين شيعي.
وبتعريفه لنفسه فهو قائد مقاومة.
من حيث هو شيعي بالتكوين، وحليف لإيران بالطبيعة، كان هناك شحنا طائفيا في لبنان، وداخل “حزب الله” نفسه، ضد نظام “صدام حسين”.
ومن حيث هو قائد مقاومة، لم يكن بوسعه أن يغفل حقيقة، ما حدث في العراق من احتلال عسكري، ينذر بتحطيم مقومات وجوده وتفكيكه مذهبيا وعرقيا.
أبدى خشيته، من أن تؤدي المبالغات في الثأر السياسي إلى غياب أية رؤية حقيقية، لما سوف يجري في المنطقة من مخاطر وتحديات.
كانت ملاحظته الثانية، أن احتلال بغداد ووجود القوات العسكرية الأمريكية بصورة مباشرة في المشرق العربي، سوف يؤدي إلى تبني خطط عسكرية جديدة، ضد لبنان والمقاومة فيه.
هكذا بدأ “حزب الله”، يأخذ حيطته ويستكمل استعداده لأية مواجهات عسكرية منتظرة في الأسابيع الأولى بعد احتلال العراق.
هناك من يعتقد، أن الاستعداد قد بدأ بعد تحرير الجنوب عام (2000)، قد تكون بالفعل جرت بعض الاستعدادات، لكن– باليقين– فإن رفع مستويات التسليح والتدريب والتجنيد، بدأ بعد غزو العراق مباشرة باعتقاد سياسي واستراتيجي، أن الحرب مقبلة لا محالة.
وكانت ملاحظته الثالثة، تتعلق بمصر ودورها في المنطقة.
أخذ يروي، أن سبعة من سفراء الاتحاد الأوروبي في بيروت طلبوا لقاء عاجلا معه،؟ أثناء مظاهرات الغضب التي عمت شوارع القاهرة مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي اشتهرت بانتفاضة “محمد الدرة”.
سأل نفسه عن سر التدافع الدبلوماسي الغربي؛ لطلب مثل هذه اللقاءات العاجلة في هذا التوقيت بالذات.
بدا الأمر محيرا، حتى اكتشف بحس سياسي وإعلامي وأمني، اكتسبه من خبرة قيادة “حزب الله” بحسب تعبيره الحرفي، أن السؤال عن مصر ومستقبل نظامها السياسي، فيما لو تصاعدت موجات الاحتجاجات الشعبية هو نقطة التقاطع في ركام أسئلة، تلقاها من السفراء الأوروبيين.
هكذا استلفت نظره الدور المحوري، الذي تلعبه مصر في الصراع على المنطقة، سلبا أو إيجابا.
في ملاحظته لأهمية الدور المصري لم يتوقع– يومها– أن يضفي نظام الحكم غطاء عربيا على العدوان، الذي كان ينتظره، وبدأ في الاستعداد لمواجهته.
ربما توقع– دون أن يصرح– أن أقصى ما قد تفعله الدول العربية إصدار بيانات شجب وإدانة.
الوقائع خالفت التوقعات مع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية، حيث أدانت مصر ودول عربية أخرى، ما أسمته “مغامرة حزب الله”، قبل أن تنقلب الطاولة، وتضرب الهزيمة المعنوية إسرائيل، فأخذت تتلعثم، بما لا يمكنك، أن تعرف ماذا تقول.
كانت قمة المفاجآت السلبية ما صرح الرئيس المصري الأسبق “حسني مبارك”، من أن “مصر لن تحارب من أجل لبنان”، “حزب الله مغامر، وإسرائيل سبع يأكل من يواجهه!”.
استدعت تلك المواقف العربية، أن يطلب “نصر الله” باسم المقاومة اللبنانية من الحكام العرب، أن “يفكوا عنها”.
الأوضاع الآن مختلفة، عما كانت عليه قبل حرب “تموز 2006″، فإسرائيل في وضع تصدع داخلي غير مسبوق، وأمريكا في مأزق استراتيجي بأثر إخفاقها في إدارة حربي أوكرانيا وغزة.
إذا ما اعتدت إسرائيل على لبنان بضرب بنيته التحتية، وما تبقى من مقدرات الحياة فيه، فإنه سوف يتوحد.
المعضلة هنا، أن عالمه العربي على ما هو معتاد، سوف يشاهد ويتعاطف، ثم لا يفعل شيئا آخر في أفضل الأحوال!
في حرب “تموز” لم يكن أحد يتوقع، أن بوسع قوات غير نظامية، تنتهج أسلوب حرب العصابات، أن تصمد في مواجهة برية مع “لواء جولاني”، الذي يمثل أعلى مراتب التدريب والكفاءة في الجيش الإسرائيلي، وأن تلحق به خسائر باهظة، جعل التوغل البري مكلفا.
الأمر نفسه يتكرر الآن في حرب غزة، فقد سحق “لواء جولاني”، واضطر إلى الانسحاب من القطاع.
في حرب “تموز” لم يكن أحد يتوقع، أن قوات “حزب الله” لديها القدرة القتالية على إيقاف التوغل عند نقاطه الأولى، وإجبار الجيش الإسرائيلي على استدعاء قوات احتياط إضافية.
ولا كان متصورا أن تتداعى قياداته العسكرية، وزير الدفاع مصحوبا برئيس هيئة الأركان، لعقد مؤتمر صحفي؛ لمنع الانهيار المعنوي في إسرائيل، والتحكم في تداعيات هيستريا الخوف من مواجهة مقاتلي “حزب الله”، بتأكيد أن الخسائر الباهظة التي تكبدها الجيش الإسرائيلي، لن تؤدي إلى انكساره.
هذا ما يحدث الآن في غزة مضاعفا.
في بداية حرب “تموز”، كان التقدير الزمني للعمليات أسبوعا، عندما فشلت إسرائيل في إيقاف صواريخ “حزب الله”، منحتها الإدارة الأمريكية أسبوعا آخر ومهلا إضافية.
نفس السيناريو يتكرر الآن في غزة بصورة أكثر توحشا.
في حروب العصابات لا يتوقع أحد إلحاق هزيمة برية مباشرة، وسريعة بجيش نظامي، يقال بالادعاء، إنه واحد من أقوى الجيوش في العالم، إلا إذا كانت مستويات التدريب، ونوعية التسليح متقدمة وكفؤة، وجرت بروفات واستعدادات لمثل هذه المواجهة، أخذت وقتها وعلى مهل، من خطط عسكرية وبرامج تدريب، فلا شيء يولد بالمصادفة، ولا انتصار بلا ثمن أو تدريب.
كان ذلك درسا ميدانيا للمقاومة الفلسطينية، التي أخذت وقتها في التدريب على المواجهات التي تجري في غزة الآن.
المقاومتان اللبنانية والفلسطينية، تلهم إحداهما الأخرى، ووحدة المصير، تصنع فارقا استراتيجيا وأخلاقيا بين الذين يقاتلون؛ طلبا للعدل والحرية، والذين يتنازلون عما هو حق وواجب.