في ظلّ الأجواء الإقليمية الملغمة؛ بفعل استمرار الحرب في غزة للشهر الرابع، فإنّ تنفيذ الولايات المتحدة وبريطانيا عدّة هجمات، فجر الجمعة، بالطائرات والسفن والغواصات، على مواقع وأهداف عسكرية لجماعة الحوثي، بعدما نجحت الأخيرة في عسكرة الملاحة الدولية، واستهداف السفن النفطية، والتأثير على الممرات المائية، يفاقم من الأوضاع المأزومة.

وقد بلغ عدد الهجمات التي شنّها الحوثي نحو 26 هجوماً، في البحر الأحمر بداية من تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي، بحسب الجيش الأمريكي.

جماعة الحوثي المدعومة من إيران، والتي قامت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بإزالتها من قوائم الإرهاب بعد تصنيفها “إرهابية” من قبل الرئيس السابق دونالد ترامب، باشرت في تنفيذ عمليات قرصنة، واستهداف للسفن النفطية بالمسيرات ، التي تلقتها من إيران، في البحر الأحمر. وذلك بالتزامن مع عملية “طوفان الأقصى” والحرب على غزة. الأمر الذي تسبب في تهديدات جمّة للمصالح الغربية، والأمريكية إثر ارتفاع تكاليف شحن البضائع والنقل والتأمين، وتداعيات ذلك المحتملة على أسعار النفط عالمياً.

بل اضطرت بعض السفن؛ لتغيير مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح القديم. وتمتد قبضة الحوثي الأمنية والعسكرية على المسارات البحرية الرئيسية بين خليج عدن، وباب المندب، والبحر الأحمر، والتي تشكل ممراً حيوياً لحركات الشحن العالمية بين آسيا وأوروبا.

ولهذا لم تكن الضربات الأمريكية البريطانية على المواقع الاستراتيجية للحوثي باليمن مباغتة، بل إنّ هناك مؤشرات عديدة رجحت حدوث هذه التحركات الخشنة؛ لردع التهديدات من وكلاء إيران. وفضلاً عن الترجيحات السياسية، كانت هناك جملة من الشواهد الميدانية، منّها انسحاب سفينة التجسس الإيرانية “بهشاد” من البحر الأحمر عشية تنفيذ الضربات، ووصولها لميناء بندر عباس بإيران. وذلك لتفادي أي صدام مباشر بين إيران من جهة، وواشنطن ولندن من جهة أخرى.

وأشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى شروع “التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، في بدء ضربات على مواقع الحوثي”. وذلك لبعث “إنذار” بضرورة تجميد أيّ أنشطة عدوانية، ضد السفن بالبحر الأحمر.

ونقلت الصحيفة الأمريكية عن دبلوماسيين غربيين قولهم، إنّ الأهداف المرجح استهدافها هي “مواقع إطلاق الصواريخ، والطائرات المسيرة والرادارات، ومستودعات الأسلحة الواقعة بين مدينتي الحديدة وحجة اليمنيتين”.

وفيما يظهر، فإنّ إيران لا تسعى إلى تأزيم الأوضاع، لا سيّما في ظل التوقعات بأن  الضربات ستكون للردع ومحدودة. فهي مجرد رسالة خشنة؛ لاستعادة أمن الملاحة الدولة والممرات البحرية. هذا ما تؤشر له طبيعة الضربات، والمدى الزمني لها والأفق المطلوب تحقيقه. إذ إنّ الولايات المتحدة تصر، على ألا تتسع الحرب، لما هو أبعد من غزة.

والمرشد الإيراني، علي خامنئي، في أعقاب الاغتيالات التي طاولت قياديين بالحرس الثوري بسوريا ولبنان والعراق، مؤخراً، أكد على ضرورة الالتزام بـ “الصبر الاستراتيجي”. وذلك بما يعني عدم تورط طهران في حرب مباشرة مع أي طرف، سواء إسرائيل أو الولايات المتحدة. وهذا الكمون الإيراني التكتيكي أو “الصبر الاستراتيجي” بتعبير المرشد خامنئي، يجعل الافتراضات بشأن تلقي إيران معلومات عن الضربة لها قدر من الوجاهة والمنطق.

كما أنّ طهران التي قبل أيام وجيزة، قامت باستعراض بحري في مضيق باب المندب، مع ذكرى اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني بمسيّرة أمريكيّة في مطار بغداد، بالمدمرة الإيرانية “ألبرز” القتالية وسفينة “بهشاد” العسكرية، استدعت السفينة العسكرية الأخيرة؛ لتستقر بالميناء الواقع على الساحل الجنوبي لإيران، وتباعد بينها وبين أي صدام وشيك.

التصعيد مستبعد

الباحثة الأمريكية المختّصة في الشؤون الدولية والاستراتيجية، إيرينا تسوكرمان، تؤكد أنّ الضربات التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا، لن تكون “سبباً في حدوث أيّ تصعيد إقليمي”.

وتشير تسوكرمان لـ “مصر 360″، إلى أنّ التصعيد الحوثي لن يعطله هجمات محدودة، ومؤقتة من طرف الغرب أو بقيادة واشنطن. وهناك سوابق تؤكد هذه الفرضية، ومنها الحرب المفتوحة من قبل تحالف دعم الشرعية، والذي لم ينه قدرات الحوثي “التخريبية” على حد تعبيرها.

وتقول تسوكرمان: “كما أن استهداف البنية التحتية له حدوده غير المؤثرة؛ بسبب تمكن الحوثي من جغرافيا اليمن الوعرة. وقدرتهم على إخفاء قدراتهم العسكرية. فالأسلحة والبنية التحتية قابلة للاستبدال، ويتم تعويضها. الأزمة تكون في رأس المال البشري من القادة الذين حصلوا على التدريب في مؤسسات النخبة العسكرية الإيرانية. في المحصلة، لن يكون هناك من حلول سوى أفق سياسي باليمن، يترتب عليه قطع التمويل عن الميلشيات المدعومة من إيران، ونزع الشرعية عن الحوثيين، وتعقب المسئولين في طهران لعدم استمرار تدفق الدعم المالي واللوجيستي والاستخباري”.

“الكرة في ملعب إيران والحوثيين”. تجيب الباحثة الأمريكية المختّصة في الشؤون الدولية والاستراتيجية، عن مدى احتمالية استمرار الهجمات على الحوثي. وتضيف: “سنّرى الموقف الحوثي الذي سيترتب عليه تهدئة، أو مواصلة الهجمات التي تهدد حرية الملاحة في المنطقة. الموقف الرسمي للولايات المتحدة، والمملكة المتحدة والحلفاء الآخرين، هو أنّ الضربات مجرد رسالة وتحذير لوقف الهجمات. وكان جزءًا من الهدف أيضًا، هو تدمير البنية التحتية العسكرية للحوثيين؛ لجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لهم. ويعوق قدراتهم في أيّ هجوم”.

إيران في الواقع، تضع أولوياتها القصوى أجندتها الإقليمية “حتى لو تبدو، وكأنّها تقدم وكلائها في الميدان هدفاً سهلاً”، والحديث لإيرينا تسوكرمان.

الهدف الإيرني الاستراتيجي

وتلفت إلى أن الهدف الرئيسي للنظام الإيراني هو “عدم خسارة مرتكزاته الاستراتيجية في المنطقة على مدار عقد كامل”. وبمثال، فإنّ إيران لن تخوض حرباً مباشرة مع الولايات المتحدة، تعرف نتائجها في تلك اللحظة التي تؤدي؛ لتقويض نفوذها السياسي والميداني، إنّما تعمل على “المناورة من خلال تلقي ضربات محدودة، ومتفق عليها. فالخيار الآخر الصدامي، سيعني نهاية قدراتها البحرية في حالة اليمن، مع العلم أنها تحاول تطوير مهام قدراتها البحرية بواسطة الحرس الثوري”.

وتختتم حديثها قائلة: “لا يزال البيت الأبيض في عهد جو بايدن متردداً؛ بخصوص المواجهة مع إيران، بشكل مباشر. فإدارة بايدن ما تزال تعمل على التقارب الدبلوماسي مع إيران. ولكن نظراً لأنّ الولايات المتحدة تواجه العديد من التحديات الدولية، وتضع الصين وروسيا أولولية، فيسود اعتقاد بالأوساط الإيرانية، بأنّ الولايات المتحدة فقدت الكثير من نفوذها السياسي بالمنطقة، ولن تكون قادرة على الصمود في وجه الفوضى الإقليمية. حتماً، واشنطن تدرك، أنّ المسألة لم تعد الملاحة الدولية، إنّما الزحف والتمدد الجيوسياسي الإيراني، والذي يهدد الممرات الوحيدة التي تؤمن خروج السفن الحربية الأمريكية من البحر الأحمر”.

قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، الموجود في المستشفى؛ بسبب مضاعفات عملية جراحية، في بيان، إنّ الضربات استهدفت قدرات الحوثيين، بما في ذلك الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز، والرادارات الساحلية والاستطلاع الجوي. كما ذكرت وزارة الدفاع البريطانية في بيان “الدلائل الأولية تشير، إلى أن قدرة الحوثيين على تهديد الشحن التجاري قد تلقت ضربة قوية”.

كما هدد الرئيس الأمريكي جو بايدن، بتوجيه المزيد من الإجراءات، ضد ميليشيات الحوثي. وقال بايدن في بيان أن القوات الأمريكية والبريطانية “نفذت بنجاح ضربات، ضد عدد من الأهداف في اليمن، يستخدمها المتمردون الحوثيون؛ لتعريض حرية الملاحة للخطر” في البحر الأحمر. وذكر أن الضربات تأتي “ردًا مباشرًا على هجمات الحوثيين غير المسبوقة، ضد السفن البحرية الدولية في البحر الأحمر، بما في ذلك استخدام الصواريخ الباليستية المضادة للسفن لأول مرة في التاريخ.”

وتابع: “لقد عرّضت هذه الهجمات الأفراد الأمريكيين والبحارة المدنيين وشركائنا للخطر، كما عرضت التجارة للخطر وحرية الملاحة. وقد تأثرت أكثر من 50 دولة في 27 هجومًا، على الشحن التجاري الدولي. تعرضت أطقم من أكثر من 20 دولة للتهديد، أو أخذوا كرهائن في أعمال القرصنة. واضطرت أكثر من 2000 سفينة، إلى تحويل مسارها لآلاف الأميال؛ لتجنب البحر الأحمر. الأمر الذي قد يتسبب في أسابيع من التأخير في مواعيد شحن المنتجات. وفي 9 يناير، شن الحوثيون أكبر هجوم لهم حتى الآن، حيث استهدفوا السفن الأمريكية بشكل مباشر.”

يتفق الباحث اليمني، نبيل البكيري، مع الباحثة الأمريكية إيرينا تسوكرمان، ويرى بأنّ الضربات التي نفذتها الولايات المتحدة، وبريطانيا أخذت “تضخيم إعلامي كبير” من جانب أطراف محددة. وهذا التضخيم “لا يخدم سوى الأطراف الحوثية التي من مصلحتها، خلق حالة ارتباك وضجيج؛ للتشويش على منظومة أمن الملاحة الدولية عبر خليج عدن، والبحر الأحمر وقناة السويس. فضلاً عن الأهداف التي يتخفى خلفها كل طرف”.

إيران والحوثي.. المكاسب والفوائد

ويقول البكيري لـ “مصر 360”: “الحوثيون يرفعون لافتة الدفاع عن غزة، وفك حصارها. ولكن في قلب هذا الهدف، يوجد هدف مركزي وجوهري بالنسبة لهم، وهو تسجيل حضور عسكري وأمني جنوب البحر الأحمر. ثم لفت انتباه المجتمع الدولي الذي لا يعترف بسلطتهم في مناطق سيطرتها”.

فالاستخلاص الأساسي مما يجري أن إيران وعبر سياسة “الصبر الاستراتجي” مستفيدة كثيراً من هذه التطورات، ولكنها في الوقت ذاته تسعى من خلال هذا التصعيد الأخير، وفق البكيري،  عن أي مواجهة، تتجسد داخلها مقولاتها الدعائية؛ بشأن الصراع مع قوى “الاستكبار العالمي”. وبما يجعلها، تعمل على تهدئة في البحر الأحمر مقابل “كسب شرعية” أوسع في الداخل اليمني في ظل تنامي معارضة لها حتى بين حواضنها. وذلك نتيجة خروقات وانتهاكات حقوقية عديدة موثقة. فضلاً عن الأوضاع الاجتماعية الصعبة والسياسية والإنسانية المأزومة.

أما جماعة الحوثي، فإنها من جانبها “تبحث عن مقايضة مع القوى الدولية؛ للاعتراف بها وبشرعيتها مقابل توقف عملياتها ومشاغباتها”.