نظرت محكمة العدل الدولية أولى جلساتها يوم الخميس الموافق 11 من يناير في الطلب الذي تقدمت به جنوب إفريقيا ضد إسرائيل وذلك عن جريمة إبادة جماعية تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وهناك العديد من الدول التي دعمت طلب جنوب إفريقيا، كذلك الطلب الذي تقدم به مجموعة من المحامين التشيليين إلى المحكمة الجنائية الدولية، وقد استندت جنوب إفريقيا في طلبها، في تقرير مؤلف من 84 صفحة، يوضح أن “حرب إسرائيل على غزة تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948″، والتي تعرفها على أنها “أفعال ترتكب بقصد التدمير، كلياً أو جزئياً، لمجموعة قومية أو إثنية أو وطنية أو دينية”.
وتقول جنوب إفريقيا أن تصرفات إسرائيل في غزة “تعتبر ذات طابع إبادة جماعية، لأنها تهدف إلى تدمير جزء كبير” من السكان الفلسطينيين في القطاع. وأكّدت جنوب إفريقيا أن “أفعال إسرائيل وأوجه تقصيرها تحمل طابع إبادة لأنها مصحوبة بالنية المحددة المطلوبة لتدمير فلسطينيي غزة كجزء من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الأوسع “، حسبما أفادت محكمة العدل في بيان.
وتشمل الأفعال “قتل الفلسطينيين في غزة، وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي بهم، وفرض ظروف معيشية عليهم من شأنها أن تؤدى إلى تدميرهم جسديا”، بحسب جنوب إفريقيا.
وبحسب ما نشره موقع اليوم السابع يوم الخميس الموافق11 يناير فقد قالت صحيفة واشنطن بوست إن قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل حظيت بدعم 13 دولة على الأقل، إلى جانب جامعة الدول العربية التي تضم 22 عضوا، ومنظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 عضوا، في حين أعربت الولايات المتحدة ودول أخرى عن دعمها للدولة العبرية، وبحسب منظمة هيومان رايتس ووتش، فقد رحب قادة ومسئولون يمثلون كل من بنجلاديش وبوليفيا والأردن وماليزيا والمالديف وباكستان وناميبيا ونيكاراجوا وفنزويلا بالخطوة التي قامت بها جنوب إفريقيا. كما رحب بها لاحقا رئيس كولومبيا ورئيس البرازيل. وقال رئيس كولومبيا جوستاف بيترو، إنه من الواضح للغاية أن هذه الإجراءات والتحركات التي تبنتها حكومة إسرائيل تعد أعمال إبادة جماعية.
ومن المعروف طبقاً لقواعد القانون الدولي فإن اختصاص محكمة العدل الدولية ينحصر في تطبيق قواعد القانون الدولي العام في فض النزاعات التي تقع بين الدول، وذلك بحسب الإطار النظري فإنها معنية بحفظ السلم والأمن الدوليين، وأن قراراتها من المفترض أنها ملزمة للدول الأعضاء التي يتوجب عليها الامتثال لها، كما أن من ضمن اختصاصاتها الأساسية تعزيز وحماية حقوق الإنسان في قراراتها وأحكامها، كما أنها معنية بمحاسبة الأطراف المسئولة عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، وأهم ذلك جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
وقد أشار فريق دفاع القانوني الممثل لدولة جنوب إفريقيا إلى أن “المساءلة والمحاسبة لإسرائيل، سلطة الاحتلال غير الشرعي، باستخدام كل الأدوات القانونية، ومن خلال مؤسسات العدالة الدولية، وإنفاذ القانون الدولي، هي المحور الرئيس للاستراتيجية القانونية لدولة فلسطين، وصلب الحراك الدبلوماسي والدولي، وأن ما شجع ويشجع إسرائيل وأدواتها المختلفة من مسئولين حكوميين وعسكريين ومستعمرين على ارتكاب الجرائم وصولا إلى ارتكاب، والتحريض على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، سببه التخاذل الدولي، وعدم اتخاذ خطوات عملية لمحاسبتها.. وإمداد إسرائيل بشتى أنواع السلاح والدعم السياسي الفتاك”.
ودعت إسرائيل في اليوم الثاني لانعقاد المحكمة القضاة في محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة إلى رفض طلب جنوب إفريقيا المتعلق بوقف هجومها على قطاع غزة الفلسطيني، قائلة إن ذلك سيمنعها من الدفاع عن نفسها، كما أنه قد رفضت اتهامها بارتكاب “إبادة” بحق الفلسطينيين ووصفت ما تقدمت به بريتوريا إلى المحكمة بأنه “تشويه للحقائق”.
وجدير بالذكر أن دولة جنوب إفريقيا قد تقدمت بطلب للمحكمة بالإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل حماية المواطنين الفلسطينيين، والتدابير المؤقتة يقصد منها إصدار أوامر تقييدية لمنع تفاقم النزاع أثناء نظر المحكمة للقضية المعروضة، وقد طلبت جنوب إفريقيا من المحكمة أن توجه أمراً لإسرائيل بتعليق العمليات العسكرية على قطاع غزة ووقف أعمال الإبادة الجماعية واتخاذ الإجراءات المناسبة لذلك الأمر، ومن المتوقع أن تصدر المحكمة قرارها بشأن الطلب العاجل خلال هذا الشهر، وقد استندت جنوب إفريقا في طلبها باستصدار تدابير مؤقتة من المحكمة إلى اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وهي الاتفاقية التي صدرت في 9 ديسمبر 1948 ، وكان بداية تاريخ نفاذها 12 يناير سنة 1951 ، وقد جاء في المادة الثانية من هذه الاتفاقية أن الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة، أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، أو إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، وغير ذلك من الأفعال التي أشارت إليها الاتفاقية.
وعلى الرغم من كون أحكام محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للطعن عليها في حالة قبولها القضية، ورفض أي اعتراض أو طعن مبدئي بعدم الاختصاص، إلا أنه ليس هناك أي وسيلة لضمان نفاذ الحكم على الدولة المحكوم عليها، سوى أنه يضر بسمعتها في المحفل الدولي.
إذن فإن الأمر في مجمله لا يعدو في معظم حالته سوى نوع من الضغوط السياسية المتمثلة في كيان يأخذ الشكل القانوني أو القضائي الدولي، والمؤسف في هذا الأمر أن هناك العديد من الدول الأوربية التي تدعم موقف إسرائيل بخلاف أمريكا بحسبها الداعم الرئيسي لها، وبالتالي فإن ما ستصدره محكمة العدل الدولية، إذا قدر لها أن تصدر أمرا، ولا تتلاعب الأطراف القوية من الدول الغربية في مسار المحكمة أو قبولها للدعوى، كما هو صائر غالباً في معظم قضايا المجتمع الشرقي ومعظم سياسات الدول الغربية، والتي يبين من مواقفها المتكررة أنها لم تزل عند موقفها القديم والمتمثل في الاستعمار، وإن اختلفت صورة وأشكاله ما بين القديم والحديث.
وأرى أن مسار هذه القضية سوف يكشف لكافة القوى المستنيرة والمعتبرة بأن هناك حدودا وقواعد لضمان العيش بشكل إنساني فوق هذه الأرض، وسوف أيضاً يكون كاشفاً لمدى مصداقية القواعد الدولية في صونها للبشر واعتبارها للحقوق، بغض الطرف عن مدى قوة وتأثير سياسات وتوصيات الدول القوية، وهي مجموعة الدول المتحكمة في السياسات العالمية، والتي من المؤسف ان يكون أغلبها مؤيدا وداعما للموقف الصهيوني، أو أن حساباته المصلحية تقف حائلاً ضد تطبيق القواعد الدولية أو تتحكم في مسار العمليات الحقوقية بشكل أو بآخر.
وهنا لا بد للدول الشرقية والقطاع الإفريقي من العالم أن يسعى إلى تغيير تلك السياسات الغير عادلة والجائرة، وأن يسعى كذلك في ضمان نفاذ قواعد القانون الدولي، حتى وإن اقتضى الأمر السعي نحو تغيير أو تعديل بعض القواعد التي تضمن نفاذ الحقوق الإنسانية على الكافة بغض النظر عن مدى قوة دولة ما أو مدى وجود مصلحة مباشرة أو غير مباشرة لدولة أو مجموعة من الدول، وهو الأمر الذي يضر أولاً بقواعد العدالة في مطلقها، ويضر بشكل يقيني في مدى إيمان دول العالم بقواعد الإنسانية بشكل عام وفاعل، ولا يكون الدين الحاكم للأمر في مجمله هو المصلحة أو المنفعة.