ثلاث ملاحظات أولية تتعلق بالانتخابات التي أجريت الشهر الماضي (ديسمبر ٢٠٢٣):

١- لم تجب الانتخابات عن الأسئلة الأساسية المطروحة على النظام والدولة والمجتمع من قبيل: كيف سيواجه الرئيس التحديات الاجتماعية والسياسية الرئيسية خلال فترة ولايته الثالثة؟ ما هي فرص خروج البلاد من المأزق الاقتصادي الحالي؟ ما هو الدور الذي تلعبه مصر في المشهد الإقليمي والدولي المتغير؟

٢- كانت إعادة انتخاب السيسي هو المشهد السهل؛ فلم يكن الأمر يتعلق إلا بالإخراج فقط. تحقق المراد- بغض النظر عن مدى القناعة الشعبية- الذي تمثل في ثلاثة مشاهد متكاملة: تماسك مؤسسات الدولة التي اصطفت خلف خلق مشهد الحشد والتأييد، والإقبال الجماهيري الذي أريد به، أن يكون تفويضا شعبيا للرئيس في استعادة للحظة تأسيس النظام في ٢٠١٣، وثالثا: إلغاء أية بدائل سياسية جادة.

٣- في الإدراك العام لقطاع من المصريين، لم تكن الانتخابات إلا تمهيدا؛ لزيادة الأسعار التي باتوا يعيشونها مع كل لحظة. صدقت الحكومة توقعاتهم؛ فقد كان أول قرار اتخذ بعدها- مطلع العام الجديد- هو زيادة عدد من الخدمات العامة الأساسية، ولم تصدر وثيقة التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري للفترة الرئاسية الجديدة إلا بعد هذه الزيادة، والأهم أنها صدرت بعد الانتخابات، وليس قبلها في تأكيد، أننا نفوض لا ننتخب وفق برنامج.

هل من تغيير؟

الخيارات الاقتصادية والسياسية، الجديد منها والقديم نتاج التفاعل بين مجالات ثلاثة: تحالف الحكم، وهيكل الرأسمالية، وشبكات الخارج الداعمة والمساندة للنظام وقيادته أو المعوقة لهما.

١- تحالف الحكم، وقد قام على ما يطلق عليه المؤسسات السيادية التي سعت بعد ٢٠١٣؛ لإعادة هيكلة الرأسمالية باختيار طبعتها الخاصة من خلال استقطاب عدد محدود من رجال الأعمال- سواء الذين كانوا محسوبين على نظام مبارك (١٩٨١-٢٠١١)، أو ممن تم اختراعهم حديثا.

غاب عن هذا التحالف أية واجهة مدنية، سواء اتخذت شكلا سياسيا مثل، الأحزاب أو بيروقراطيا من التكنوقراط. نُظر لهؤلاء وأولئك نظرة عدم الثقة الممتزجة بغياب الكفاءة وقلة الفاعلية.

تواجه مصر أزمة اقتصادية عميقة، مع حدوث ثلاثة تخفيضات لقيمة العملة خلال الفترة القليلة الماضية، وارتفاع معدلات التضخم، ونقص مزمن في العملات الأجنبية. كما تواجه مواعيد نهائية وشيكة لسداد، ما لا يقل عن 42 مليار دولار للمقرضين هذا العام. مصر الدولة الثانية الأكثر احتمالية في العالم للتخلف عن سداد ديونها، بعد أوكرانيا، وفقًا لتصنيف بلومبرج. الدين الخارجي للبلاد، وصل إلى ما يزيد عن 165 مليار دولار، أي 40% من الناتج المحلي الإجمالي. تشكل مدفوعات الفائدة 60 بالمائة من الإنفاق الحكومي للأشهر الثلاثة الأولى من السنة المالية 2023. يبلغ معدل التضخم 34.6 بالمائة.

لا يثق النظام في القطاع الخاص، ولا بيروقراطية الدولة المدنية، ولا في المجال السياسي بمكوناته كافة، ويعاني من رهاب الجماهير؛ نتيجة ما جرى في ٢٠١١، ومطلوب منه أن يتعامل مع الأزمة الاقتصادية من خلال وصفة صندوق النقد الدولي التي ربما يكون من تداعياتها إعادة صياغة تحالف الحكم عبر زيادة دور القطاع الخاص، وإعادة تحديد دور مؤسسات الدولة في الاقتصاد، وتعويم العملة.. إلخ، فكيف له أن يفعل ذلك؟

تحت الضغط- عادة- ما يتعامل النظام باستجابات شكلية ممتزجة بمبادرات، يتم إفراغها من مضمونها، وفاعليتها سريعا (الحوار الوطني واستراتيجية حقوق الإنسان مجرد أمثلة)، أو المناورة والإبطاء (سياسة ملكية الدولة مثالا).

على ما يبدو، فإن النظام وقيادته غير راغب، وفي أحيان غير قادر على إحداث التغيير المطلوب، لأن ذلك من شأنه- في نهاية المطاف- أن يؤدي إلى الضرر بتماسك تحالف الحكم القائم من خلال التأثير على مصالحهم.

٢- هيكلة الرأسمالية من خلال المؤسسات السيادية التي تمدد دورها الاقتصادي في مجالات عديدة، سواء بشكل مباشر أو من خلال واجهات مدنية، أو ببناء تحالفات مع قطاع خاص منتق بعناية.

أدركت قيادة نظام يوليو ٢٠١٣ مبكرا، أن هيكلة الاقتصاد- كما كانت تقوم به لجنة السياسات بقيادة جمال مبارك، ومشروع التوريث الذي كان رأس حربتها السياسية- المقصود به إعادة صياغة دور المؤسسة العسكرية في الدولة المصرية ككل، لذا فقد سعت حثيثا، منذ البداية لإعادة صياغة دور الرأسمالية في السياسة والاقتصاد، وساعده على ذلك في البداية حجم التدفقات المالية الخارجية الكبيرة، خاصة من دول الخليج.

ما المطلوب الآن، كما يرسمه برنامج صندوق الدولي الذي تقف وراءه الولايات المتحدة وبعض دول الخليج؟

لم يعد مشروع الرأسمالية، ذو بعد محلي غالبا، بل بات جزءا من إعادة هيكلة المنطقة، وموقعها في الاقتصاد الدولي. نحن الآن لا نتحدث عن الخصخصة- كما جرت في عهد مبارك؛ بل عن الاستحواذات. في الأولى انتقال ملكية الأصول العامة إلى القطاع الخاص المحلي والدولي، أما الاستحواذات، فهي جزء من مشروع أكبر لإعادة هيكلة المنطقة سياسيا واقتصاديا.

الاستحواذات جزء من اتفاقات إبراهيم التي قامت على قيادة الاقتصاد، وهي تعبير عن الصراع الدائر حول ممرات التنمية وخطوط الطاقة، بما تعنيه من صراع دولي بين الصين والولايات المتحدة، وتأكيد لمركزية دول وتهميش أخرى في الإقليم. وفي الأخير، هي تعبير عن تطور الرأسمالية الخليجية، ومكونات مشروعها السياسي، ورؤيتها لدورها في الإقليم.

الخلاصة: الاستحواذات أحد مكونات إعادة تشكيل الشرق الأوسط، لذا فلا يمكن التعامل معها فقط، باعتبارها تتعلق بسياسة ملكية الدولة؛ فمن الضروري، أن تملك مصر تصورا للإقليم ككل ودورها ونمط تحالفاتها فيه، وموقعها في الاقتصاد العالمي- وهو ما ينقلنا للنقطة الثالثة.

٣- الاعتماد على الإنقاذ الخارجي: راهن النظام منذ البداية على المساندة والدعم الخارجي. صحيح أن ما جرى في ٢٠١٣ من انقلاب على ثورة يناير كان وراءه اعتبارات محلية؛ إلا إنه أيضا كان جزءا من مشروع إقليمي، هدفه القضاء على تداعيات الانتفاضات العربية سياسيا.

ظل الرهان على تدفق الأموال من الخليج مستمرا، حتى العام الماضي، حين وصلت رسائل واضحة، أن المعونات والمساعدات المجانية لم تعد متوفرة.

كانت الديون الخارجية أحد مكونات الرهان على الخارج أيضا، والتي تضاعفت أربع مرات منذ ٢٠١٣، حتى العام الماضي؛ لتبلغ أكثر من ١٦٥ مليار دولار. كان النمط السائد ديونا قصيرة الأجل، تصرف على مشروعات لا تدر عوائد دولارية، يمكن استخدامها في السداد، مع افتراض استمرار الاقتراض بشكل لا ينقطع، وهو سرعان ما انكسرت حلقاته مع الغزو الروسي لأوكرانيا. كانت الحرب الأوكرانية ٢٠٢٢ النقطة التي برز معها خطورة الاقتراض الخارجي، حيث خرج ٢٠ مليار دولار من الأموال الساخنة في مدى زمني قصير.

على ما يبدو، فإن الرهان على الخارج لا يزال حتى الآن- هو الاستراتيجية الأساسية للنظام، ساعده على ذلك عدة أمور: الطلب على الاستقرار في المنطقة، والخوف من انزلاق الأوضاع في مصر إلى اضطرابات اجتماعية، حيث هي أكبر من أن تفشل، وخوف أوروبا من الهجرة غير المشروعة، والاضطرابات على حدودها الجنوبية، وإعادة صياغة علاقة الولايات المتحدة والصين وروسيا بالمنطقة مع تصاعد التنافس الدولي، وغياب اليقين الاستراتيجي، وأخيرا وليس آخرا؛ تداعيات حرب غزة على الإقليم.

سمح ثقل مصر من حيث العدد، وموقعها الجيوسياسي، وقدراتها العسكرية، أن تتحدث إلى حد كبير عن نفسها كوسيلة ضغط بشكل مباشر أو غير مباشر. لذا فمن المتوقع الاستمرار في المسار الحالي مع الأمل، في أن تؤدي التطورات الخارجية المواتية، مثل نهاية الحرب في غزة، أو التوصل إلى اتفاق عالمي بشأن إعفاء الديون للاقتصادات النامية، إلى رفع جزء من الديون عن مصر.. للخروج من الحفرة الاقتصادية التي حفرها النظام لنفسه، وهو ما ثبت صحته حتى الآن. أعادت حرب غزة الحديث عن تدفقات مالية من الخليج والمؤسسات الدولية والاتحاد الأوروبي لمصر؛ خوفا من تداعياتها على الاستقرار الداخلي والإقليمي، وتطلعا لدور مصري في غزة بعد الحرب.

لا يمكن الجزم على سبيل اليقين، كيف سيتفاعل عموم المصريين مع تداعيات هذه المحددات الثلاثة على حيواتهم ومستوى معيشتهم، لكن من يتوقع أن تمر هذه التداعيات، دون أن يكون لها ردود فعل متعددة، فهو لا يملك حدا أدنى من الخيال السياسي. انهزمت إسرائيل سياسيا، قبل أن تبدأ حرب السابع من أكتوبر/تشرين أول- بغض النظر عن النتائج العسكرية، وعن هزيمتها استخباراتيا في توقع ما حدث- حين تصورت، أنها يمكن أن تمارس كل هذا السياسات الضاغطة على الفلسطينيين في الضفة وغزة والقدس، دون أن تنتظر أية ردود فعل- هكذا يقول الخبراء.