منذ أيام قليلة وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، الدعوة إلى الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود لزيارة مصر. الدعوة تأخرت كثيرًا، لكن أن تأتي متأخرا أفضل من ألا تأتي. دعوة الزيارة تبدو، أنها نوع من الإفاقة بعد اضمحلال وتدهور الدور المصري في تلك المنطقة المؤثرة على أمن البلاد. فدور مصر يتحتم أن يكون حيويًا في محيطها الإقليمي، خاصة في كافة المجالات ذات المصلحة الاستراتيجية الحيوية، والداعمة لأمنها القومي، وعلى رأس ذلك مواجهة مخططات الكيان الصهيوني وأمن سيناء، وتأمين الملاحة في قناة السويس وعدم تهديدها، وكل ما هو مرتبط بسهولة تدفق مياه النيل من منابعه.
هذه الاهتمامات للدور المصري في إفريقيا تقلص بعضها عقب محاولة اغتيال مبارك في إثيوبيا 26 يونيو 1995، وقبلها تعيين د. بطرس غالي، الأكثر اهتماما بإفريقيا أمينا عاما للأمم المتحدة في الأول من يناير 1992، فترك كل ذلك الاهتمام لبلدان أخرى-ولسنوات تالية- ما أدى للعبث بأمن البلاد من قبل بلدان تدعي العروبة، أو تجمعها بمصر اتفاقات تطبيع. وقد تماشى كل ذلك وتواكب مع استكانة مصرية غريبة لعقد ونيف من الزمن؛ لتسويف إثيوبيا في مسألة مياه النيل، وكلها أمور أدت إلى الإضرار بدور مصر الإقليمي، وهو دور لا يختلف الكثيرون، أن أزمة مصر الاقتصادية ساهمت في الحد منه بدرجة كبيرة.
واحد من هذه الأدوار المهمة التي اضمحل فيها دور مصر الخارجي، الدائرة الإفريقية، ومنها الصومال ومنطقة القرن الإفريقي، حيث أمن البحر الأحمر، ومدخل ومخرج الممر الملاحي لقناة السويس، ومن ثم إمكانية تهديد مصر من جهة الشرق. هذا الأمر غير بعيد، بلا شك عن دور مصر في تأمين منابع النيل، خاصة ناحية الهضبة الإثيوبية التي يأتي معظم مياه النيل منها. وكلا التهديدين يتقاطعان في دولة بعينها، هي إثيوبيا.
إثيوبيا في الوقت الحالي، هي دولة قارية أو حبيسة (غير ساحلية)، وهي بتلك الصفة ضمن 48 دولة، حول العالم لها نفس السمة. وهي ثالث أكبر دولة حبيسة من حيث المساحة، فبعد كازاخستان وتشاد، تأتي إثيوبيا بمساحة 1.1 مليون كم2. ومن حيث عدد السكان فهي الأكبر، بعدد سكان يصل إلى 122مليون نسمة. ومن حيث موارد المياه، فهي المتحكم الرئيس في معظم مياه النيل المارة بدولتي المصب مصر والسودان، وهي كذلك واحدة من بلدان العالم التي تعاني من مشكلة أقليات عرقية، ولغوية ودينية وثقافية. ومع ذلك فهي مقر الاتحاد الإفريقي، ولها دور مسموع بين الدول الإفريقية جنوب الصحراء، لما راكمته من مساع بشأن الدور الهادف إلى تحقيق مصالح تلك البلدان السمراء، في مواجهة الشمال العربي، ولا يخفى هنا الورقة العنصرية، واللونية تحديدا التي تحاول، أن تلعب بها إثيوبيا للتفرقة بين شمال وجنوب القارة الإفريقية.
ولكونها دولة حبيسة، منذ انفصال إريتريا عنها عام 1993، فقد سعت، إلى أن يكون لها موطئ قدم على ساحل البحر، وهي تهدف من وراء ذلك ليس فقط لدعم اقتصادها، بل نفوذها السياسي والعسكري على حد تعبير رضوان حسين، مستشار الأمن القومي الإثيوبي، خاصة في إطار كون ما تتطلع إليه، يهدف إلى أن يكون له إطلالة على خليج عدن أو البحر الأحمر معا، وليس البحر الأحمر فقط، ومن ثم مكايدة مصر والسودان، كلما دعت الضرورة، وهو أمر يأتي ضمن مكايدات ومناكفات أخرى، سبق لها ولا زالت من خلال التحكم الفعلي في مياه النيل عبر الهضبة الإثيوبية التي تدر 86% من مياه النهر سنويا، من خلال تأسيس سد النهضة والشروع في بناء سدود أخرى.
وبافتراض جهوزية كافة الشواطئ لتأسيس المواني البحرية على الساحل الشرقي لإفريقيا، يلاحظ أنه في حالة كينيا، تبدو أقرب مسافة بين البحر والأراضي الإثيوبية، تتجاوز 700كم، وبين أقرب ميناء، وهو لامو الكيني، وأديس بابا أكثر من 1700كم، ومن الصومال الممتد حدوده مع إثيوبيا 2800كم، فإن أقرب موقع يصلها للبحر عبره، يقع على بعد نحو 250كم، ومن ميناء مقديشيو أو كيسمايو، وأديس بابا، تتجاوز المسافة 1400كم. ومن جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها دوليا، يبعد البحر نحو 200كم فقط عن الأراضي الإثيوبية، و900كم عن أديس بابا. ومن جيبوتي أو من إريتريا، تصل المسافة بين ساحل البحر وبين إثيوبيا 150كم فقط، لكن المسافة بين ميناء عصب الإريتري، وأديس بابا 600كم تقريبا، لكن المسافة تصل إلى 900كم بين مواني جيبوتي وأديس بابا.
ولأنه أصبح من غير الممكن، أن تقوم إثيوبيا بتأسيس موطئ قدم على البحر مع إريتريا؛ بسبب الخلافات السياسية والاجتماعية الضخمة بين البلدين، ورفض بعض الوساطات الخليجية الغريبة بين البلدين؛ لتأسيس موطئ قدم إثيوبي على البحر الأحمر في إريتريا، فإن الصعوبات بدت أيضا مع جيبوتي، التي تدعم قبائل العيسي، فيها نظيرتها في أرض الصومال، حتى تقاوم انفصال الإقليم عن الدولة الأم (الصومال الكبير)، فتنتقل عدوى الانفصال إلى جيبوتي مع قبائل العفر. ناهيك عن أن جيبوتي لم يعد بها موطئ قدم خال من القواعد العسكرية الدولية والإقليمية، ما يجعلها غير مؤهلة تماما؛ للتعاون مع إثيوبيا في هذا الإطار.
ولأن إثيوبيا تستبعد الصومال من التعاون معها في هذا الشأن؛ بسبب الخلافات الكبيرة بين البلدين، منذ حرب الأوجادين في 1977، وما تلاها من تدخلات إثيوبية كثيرة في عقد التسعينات من القرن الماضي، فقد لجأت إثيوبيا لضالتها عبر التعاون مع أرض الصومال في هذا المضمار، فهذا الإقليم، وبه ميناء بربرة هو أفضل من يصلح لتلك المهمة، ففيه تستغل إثيوبيا حاجة هذا البلد للاعتراف الدولي به، خاصة من إثيوبيا ذات النفوذ القوى في بلدان الاتحاد الإفريقي، وبه أيضا تستغل إثيوبيا قانون البحار الذي يدعم الدول الحبيسة، والساحلية للتعاون بينهما للخروج من مأزق المحبس الشاطئي، رغم أن هذا القانون يخاطب الدول، وأرض الصومال ليست دولة.
الآن تبدو المشكلة، في أن الاتفاق المبدئي في الأول من يناير الحالي بين رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، ورئيس أرض الصومال موسى عبدي، والذي يعزز من شعبية أبي أحمد بالداخل، قد وحد كافة الصوماليين، ضد إثيوبيا، سواء ممن سبق لهم التعاون معها، ضد شباب المجاهدين أو من الحكومة الحالية بزعامة الرئيس حسن شيخ محمود، أو حتى مع شباب المجاهدين أنفسهم.
الأهم من كل ما سبق، هو رد مصر على هذا الاتفاق، فالقاهرة ستجد فيه نوايا إثيوبية غير طيبة للهيمنة على المدخل الغربي لباب المندب وخليج عدن، ومن ثم تهديد المصالح المصرية، خاصة وأن هذا الأمر لا يمكن، أن ينفصل عن التعاون بين إثيوبيا وإسرائيل في مجالات أمنية شتى، كما لا ينفصل عن مسعى الإمارات؛ لإيجاد بديل عن قناة السويس من خلال الممر الاقتصادي المستحيل تنفيذه فنيا مع حليفهم الصهيوني عبرالاتفاق الإبراهيمي.
القاهرة قامت بعد الإعلان عن الاتفاق بدعوة رئيس الصومال لزيارة مصر، ومن ثم تبدو الأمور على مشارف استعداد حقيقي هذه المرة؛ لخوض مواجهة غير دبلوماسية مع إثيوبيا. هنا يجب التذكير بحتمية تدخل مصر لدعم المصالحة بين الفصائل الصومالية كافة، بغرض الوقوف في وجه الطموحات الإثيوبية، ولا يستبعد، أن تلجأ مصر هنا إلى تسليح الصومال؛ لاستعادة السيادة على إقليم أرض الصومال، وهي في هذا الإطار تتسلح بعدم الاعتراف بهذا الإقليم من قبل أي دولة. كما تتسلح برفض الاتفاق من قبل الجامعة العربية، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، وكذلك المواقف الدولية الرافضة له، وتحديدا الموقف الأمريكي، وكذلك المواقف الإقليمية، وتحديدا الموقف الكيني والجيبوتي والسوداني والتركي المناهض لاتفاق أبي أحمد-عبدي.
إضافة إلى كل ما سبق، لا زال أمام القاهرة باب مفتوح، وهو تقليب القبائل الصومالية العربية في إقليم أوجادين في أقصى شرق إثيوبيا على الدولة، وكذا قبائل بني شنقول في أقصى الغرب الإثيوبي. خلاصة القول، أن مصر على الأرجح، بل ويتحتم عليها، بعد انهيار مباحثات التسويف الأخيرة بشأن سد النهضة، أن تتوقف عن المساعي الدبلوماسية التي باتت مهينة. هنا قد يمتد تعاونها أيضا مع كل من جيبوتي التي لا زالت تجارة إثيوبيا تمر عبرها، وكذلك إريتريا العدو اللدود لإثيوبيا التي ما فتئت تعبث بأمن مصر المائي، لا سيما بعد توقيع الاتفاق الإطاري الذي اتخذته تكأة لإكمال بناء السد، بل وعادت؛ لتكمل سخافتها باختبار صبر القاهرة اليوم بالقفز على أمن واستقرار البحر الأحمر.