“إن الفكر الإنساني في كل العصور هو بطبيعته، فكر ينتمي إلى تاريخ، أي أنه فكر تاريخي، وأنه برغم ما فيه من عظيم وجديد، يفقد في الزمن الجديد الكثير، مما كان عظيمًا وجليلًا في زمانه، ويخضع للنقد والتحديث من موقع الاحترام لدوره التاريخي”. هكذا استهل المفكر اللبناني الكبير كريم مرُوِّة، الذي غادر عالمنا صباح الأربعاء الماضي، كتابه الهام: “أفكار حول تحديث المشروع الاشتراكي”.*

كان كريم مرُوِّة، المولود في 1930 بقرية حاريص بقضاء بنت جبيل التابعة لمحافظة النبطية في جنوب لبنان، قد ختم القرآن في كُتَّاب القرية، وأتَمَ دراسته ما قبل الثانوية هناك، ليرسله والده في 1947 إلى العراق؛ لاستكمال دراسته الثانوية في بغداد تحت رعاية ابن عمه المفكر العملاق المرحوم حسين مرُوِّة، الذي اغتيل برصاص الطائفية البغيضة في 1987، إبان الحرب الأهلية اللبنانية، والذي كان قد كتب مقدمة كتاب “في الثقافة العربية” الذي أشرت إليه في سلسلة مقالاتي المنشورة بموقع مصر 360، عن المرحوم الأستاذ محمود أمين العالم. وقد كانت المقدمة في ذاتها بمثابة بحثٍ في الثقافة العربية، أُضيف إلى ما احتواه الكتاب من مقالات استثنائية للثنائي المصري العظيم المرحومَين الأستاذ العالم، والدكتور عبد العظيم أنيس. يقول المفكر الكبير المرحوم كريم مرُوِّة، عن تلك الفترة في سيرته الذاتية: ” تحولت إلى مواطن لبناني عربي، وسميت نفسي قومياً عربياً”.

وأعطيت لقوميتي صفة مختلفة، عما كان سائداً عن الكثيرين من القوميين العرب، صفة ابتعدت فيها عن التمييز والتمايز والقوميات الأخرى. الأمر الذي جعلني من دون قرار محدد أقرب إلى الشيوعيين مني إلى القوميين العرب المعروفين، لا سيما من أصدقائي ومن أساتذتي. وكانت في أساس قوميتي تلك وطنيتي اللبنانية، ومشاعري القومية العربية. وصارت فلسطين، بحكم تماس قريتنا مع شمال فلسطين**، وفي ذلك التاريخ والعلاقة الوطيدة بين أهل بلدتنا، وأهالي المدن الفلسطينية، صارت جزءاً من وجداني”.

أورَدَ المفكر الكبير في كتابه الذي أشرت إليه بفاتحة هذا المقال، أفكارًا بالغة الأهمية، كان على رأسها ما جاء في سَرده المترابط للقضايا العشرين التي كان يراها خليقةً، بأن تُدرج على برنامج التحديث في فترة ما بعد ثورات الربيع العربي.

كانت تلك القضايا هي: بناء الدولة، المجتمع المدني ومؤسساته المختلفة، المسألة الوطنية، شروط تحقيق التقدم الاقتصادي، الموارد الطبيعية، التنمية الاجتماعية، الضمانات الاجتماعية، التعليم والثقافة والمعرفة، البحث العلمي، التراث الثقافي والاجتماعي، الشباب، المرأة، النضال ضد التطرف، قضايا البيئة، وسائل الإعلام، الأقليات، التكامل بين البلاد العربية، العلاقة بالعالم، قوى التغيير، ثم القضية الفلسطينية.

كانت الغاية من وضع هذه القضايا، بما يرتبط بها من مهمات متباينة، تتعلق بما هو مباشر، وما هو بعيد المدى في طرح واحد، هي الربط بين الحاضر والمستقبل، حيث يمنح مثل هذا الربط، الأمل للناس جميعًا بغض النظر عن اختلاف مستويات وعيهم واختلاف مواقع تموضُعِهِم الاجتماعي. شَكَلَ الربط بين الحاضر والمستقبل، عاملًا مُؤسِسًا في رؤية المفكر الكبير إدراكًا منه لضرورة صياغة برنامج، يحترم المراحل، إذ كان يعتبر أن احترام المراحل هو الضامن؛ لإمكان تحقق أهداف كل مرحلة وفقًا لشروطها الموضوعية. فَحَرّق المراحل- أو القفز عليها حسب تعبيره شخصيًا- يبدد إمكانية تحقيق أهدافها، فالمستحيل تحقيقه لا يمكن أن يكون جزءًا من برنامج حقيقي؛ للتغيير في مرحلةٍ ما، حيث الفارق كبير، بين أن يكون البرنامج واقعيًا، وبين أن تكون عناصر النجاح في تحقيقه مضمونة.

كان المفكر الكبير يدرك- بحُكم فهمه العميق للواقع- معنى الاشتراكية العلمية، لا الطوباوية، من زاوية كونها مُنتَجًا إنسانيًا مَرنًا، وهي على هذا النحو، ليست تعاليم مقدسة، لا تقبل النقد أو النقض، فقام بتقديم نقدٍ عظيم الشأن للتجربة السوفيتية مُستندًا إلى قوانين الجدل الثلاث: التراكم الكمي والتغيير النوعي، والتناقض، ونفي النفي. تلك القوانين التي بلورها هيجل، ليأتي ماركس فيعكس الصورة، حيث الفكر لا يخلق الواقع، لكن الواقع هو الذي يحدد الأفكار، ويزيد من درجة الوعي، بما هو قائم، بُغيَة تغييره في سياق الممكنات المتاحة.

حظيت القضية الفلسطينية ضمن العشرين قضية التي عرضها المفكر الكبير، بنصيب مُعتبرٍ من التناول في كتابه الهام، حيث تصدى- في تركيزٍ شديد- لأسباب استمرار القضية الفلسطينية، دون حلٍ يُجَنب الشعب الفلسطيني، ما يدفعه من ثمن باهظ عبر السنين.

فقال إن أحد عوامل عدم حل القضية الفلسطينية، إنما يرجع إلى الغطرسة الإسرائيلية وهمجيتها وعنصريتها، وتنكرها لحقوق الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى تخاذل وتواطؤ وعجز الدول الكبرى، والمجتمع الدولي عن العمل الجاد والحقيقي لحل المشكلة. ثم ذهب إلى أن العامل الأساس في عدم حل المشكلة يكمن في الواقع الفلسطيني وفي الواقع العربي.

فأشار إلى إنه إذا كانت الدول العربية تتحمل المسئولية، منذ البداية، سواء فيما يتعلق بقرار التقسيم، أم بحرب عام 1948 التي انتهت إلى النكبة، أم بالحروب التي تلتها، وقادت إلى هزائم متواصلة، فإن الجريمة الكبرى التي ارتكبتها الدول العربية بالاستيلاء على القرار الفلسطيني، وبمنع الشعب الفلسطيني من إقامة دولته وفق قرار التقسيم. (يختلف كاتب هذه السطور مع المفكر الكبير حول قرار التقسيم من ناحية، ومن ناحية أخرى حول تعميمه بشأن استيلاء الدول العربية على القرار الفلسطيني، حيث أن مصر على- وجه التحديد- لم تَسَعَ يومًا لذلك، كما فعلت أغلب الأنظمة العربية على تنوع توجهاتها، ما بين التقليدي والتقدمي. لكن، فلنكمل رؤيته؛ لأن ما سَيلي هو الأهم، خصوصًا في ظل ظروف المجزرة الحالية في غزة، وما سيعقبها من أحداث).

كان أصل المشكلة يتمثل لدى المفكر الكبير، في الخلل الذي ساد، ولا يزال في الحركة الوطنية الفلسطينية ذاتها، فتلك الحركة التي توحدت في فترات معينة في أشكالٍ هَشة- حسب وصفه شخصيًا- باسم منظمة التحرير، لم تستطع، أن ترتقي بالوحدة بين فصائلها إلى ما هو ضروري للنضال؛ من أجل الحقوق القومية للشعب الفلسطيني، بل هي على العكس من ذلك، انقسمت على ذاتها وتفككت وتصارعت، وما تزال تتصارع فيما بينها، حول المواقف السياسية، وحول أشكال النضال، وحول رؤية كل فصيل للحل العادل للقضية الفلسطينية.

خَلَص المفكر الكبير، إلى أن لا سلام مع إسرائيل من دون تحرير الأراضي العربية المحتلة كلها في فلسطين ولبنان وسورية، إلا أن لهذا الهدف الكبير شروطه الواقعية في الاختيار الصحيح لأشكال النضال التي يأتي على رأسها ضرورة توصل الفصائل الفلسطينية إلى تحقيق الوحدة، فيما بينها حول برنامج وطني واقعي، وحول قرار وطني مستقل عن أي طرف خارجي تحت أية ذريعة، فما أشبه الليلة بالبارحة.

رحم الله المفكر اللبناني الكبير كريم مرُوِّة، وألهَمنا القدرة على تأمل وفحص واستنباط، ما هو جدير بذلك من تراثه الغني.

*أفكار حول تحديث المشروع الاشتراكي- الطبعة الأولى الصادرة عن دار التنوير 2013.

**تبعد قرية حاريص نحو 10 كيلومترات فقط عن شمال فلسطين.