بين يومي 25 يناير و11 فبراير من العام 2011م، انعقدت أكبر جمعية عمومية لاتحاد ملاك مصر، أضخم اجتماع حاشد لعموم المصريين بصفتهم ملاك البلد، فلا هم عبيد ولا أنصاف عبيد، ولا هم رعايا ولا أنصاف رعايا، لكنهم مواطنون لهم من الحقوق والحريات، مثلما عليهم من الواجبات والالتزامات، ليسوا عابري سبيل، ولا ضيوفاً في بلدهم، ولا مُقيمين بالإيجار، هم ملاك الوطن بالأصالة، كل من يتولى وظيفة عامة، ويتقاضى مرتبات من المال العام، هو أجير عندهم ووكيل عنهم، وممثل لهم، لهم مطلق الحق في اختيار الحكام، وعزلهم ونقدهم ومعارضتهم ومحاسبتهم ومساءلتهم ومحاكمتهم، كانت لحظة ميلاد جديد، ولد فيها التاريخ من جديد، وولد فيها الشعب من جديد.
لكن هذا الوليد الجديد لم يجد القابلة الحانية الخبيرة المدربة الصادقة المؤتمنة، فتم وأده وإزهاق روحه والتخلص منه على مراحل، بلغت ذروتها في التفويض في 24 يوليو 2013م. كان التفويض نهاية حاسمةً للثورة، كما كان بداية حاسمةً لمرحلة نقيضة تماماً ومضادة تماماً، لكل ما هو شعبي أو ثوري أو له صلة من قريب أو بعيد بالحرية والديمقراطية والمواطنة والحقوق والواجبات.
منح التفويض شرعيةً؛ لإجراءات دامت عشر سنوات، ليس لها من هدف إلا تخليع أسنان الشعب، بحيث يفتقد القدرة التامة على العودة، لمثلما كان قد فعل بين يومي 25 يناير و 11 فبراير من عام 2011م. وكانت عشر سنوات كافية تماماً؛ لتخليع كافة الأسنان والأنياب والضروس، وذلك بتجريد الشعب من كافة، ما ضمنته وكفلته له كافة الدساتير المصرية في المائة عام الأخيرة 1923- 2023 م، تجريد مكتمل من كافة الحريات والحقوق العامة، دون استثناء.
تخليع أسنان الشعب في ظاهره سمح للسلطة الجديدة طوال عشر سنوات بممارسة حكم فردي مطلق، يقرر كما يشاء، ويتصرف كما يشاء، دون معقب على قوله، ودون معترض على فعله، لكنه في العمق صنع فجوةً غير مسبوقة بين السلطة والشعب، السلطة تحصن نفسها بكل سبل الحماية، والشعب ينكفئ على ذاته، ويهرب في أعماق نفسه، ويمشي تحت أو جوا الجدران والحوائط. الأمر الذي أجاد نيكولو ميكافيللي 1469- 1527م، رسمه ووصفه حين قال: “ينبغي للأمير الذي يخاف شعبه أكثر، مما يخاف الأجانب، أن يشيد القلاع “، لكنه يستدرك ليقول: “لكن خير الحصون جميعاً هو ما يؤسس على حب الشعب للأمير، فعلى الرغم من أنك قد تملك القلاع، فإنها لن تنقذك، إذا كان الشعب يبغضك”، ثم يقول: “إننا لا نرى في أيامنا القلاع أفادت أي حاكم”، ويختتم بنصيحة بليغة فيقول: “ألوم أي إنسان يستوثق في القلاع، ولا يهتم كثيراً، بكراهية الشعب له”. [الفصل العشرون من كتاب الأمير وعنوانه- فيما إذا كانت القلاع مفيدة أو ضارة]. وزير الداخلية القوي في عهد مبارك من 1997- 2011 م جعل من الشرطة المصرية قلعة حصينة؛ لحماية النظام، ثم كانت هذه القلعة هي أول ما سقط، ومعها سقط النظام.
في السنوات العشر قبل 25 يناير 2011 م، كانت هناك هوامش للحرية في الصحافة والإعلام والتظاهر والتجمع والتجمهر، وغيرها من أشكال وقنوات التعبير والنقد والرفض والاحتجاج، لكن في السنوات العشر الأخيرة 2013 – 2023 م، استجد أمران: أولهما إزالة هوامش الحريات العامة المحدودة أصلاً، ثم النزول بها إلى نقطة الصفر. ثانيهما: زيادة القلاع والتحصينات وتوسيع الفجوة بين السلطة والشعب. وهذا يعيد طرح سؤال الديمقراطية أي مستقبل ممكن لها بعد عشر سنوات من الغياب الكامل لمثقال ذرة منها. السؤال: هل للديمقراطية مستقبل في مصر، بعد أن تم تخليع أسنان الشعب، أي بعد أن تم تجريده من الحريات الفردية والعامة؟ هل يمكن أن يكون للديمقراطية مستقبل والشعب منزوع كافة الحقوق السياسية، والاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها في كافة أبواب الدستور، بما في ذلك المواد من 51 حتى 93 تحت عنوان الحقوق والحريات والواجبات العامة؟ هل ممكن التغلب على الآثار السلبية لتركة السنوات العشر؟. هل ممكن للديمقراطية أن تعود من جديد؟
…………………………………………………………………………..
للجواب يلزم استدراك عدة نقاط:
1- هناك إجماع بين المصريين حاكمين ومحكومين، أن مصر بعد عشر سنوات من التفويض، وما ترتب عليه من حكم فردي مطلق، انتهت إلى أزمات عميقة تلتقي كلها؛ لتنسج حالة من الانسداد الكامل، الحكم الفردي المطلق ذاته، بات على إدراك كامل بذلك، على إدراك أن كل السبل إلى المستقبل باتت “موصدة” مغلقة مقفلة أمامه بإحكام شديد، الحكم الفردي المطلق لا يعترف بالأسباب الحقيقية التي وصلت به إلى هذا الحال، لكنه بكل يقين لا ينكر، أنه بالفعل قد وصل إلى هذا الحال الذي لا يُحسد عليه.
2- ليست هذه أول تجربة حكم فردي مطلق، وليست أول حالة انسداد، فتاريخ الدولة الحديثة من محمد علي باشا، حتى اليوم هو تداول، وتعاقب بين تجارب الحكم الفردي المطلق، وكلها انتهت بحالة انسداد كامل، بما في ذلك التجارب العظيمة مثل، محمد علي باشا، والخديو إسماعيل، وجمال عبد الناصر، والفترة شبه الليبرالية نفسهان والتي كانت الديمقراطية الوحيدة، انتهت كذلك بحالة انسداد، كانت الثورات من جانب المصريين بعضاً من اجتهادهم في كسر هذا الانسداد المتكرر، ثم الثورات، إما أخفقت كالثورة العرابية 1881- 1882، وإما استُنزفت كثورة 1919م، أو تنكبت الطريق مثل، ثورة 23 يوليو 1952م، أو أجهضت مثل ثورة 25 يناير 2011م.
3- ثورات المصريين، كل ثورة على انفراد تبدو فاشلة وتبدو تجربة خاسرة، لكن ثورات المصريين- في مجموعها وشمولها معاً- هي قوة الدفع التاريخي التي حاولوا من خلالها تفكيك تسلط الدولة الحديثة، وهو تسلط بنيوي هيكلي عميق متجذر في طبيعة تكوينها من الأعماق، دولة خُلقت بطبعها؛ لتكون متسلطة قوية عنيدة عنيفة في مواجهة الشعب بالدرجة الأولى، وقبل أن تكون متسلطة قوية عنيدة عنيفة في مواجهة الخارج، دولة محمد علي باشا، تأسست وفق مفهوم، أن الداخل أخطر من الخارج، وأن الشعب أخطر من الأعداء، جاء الباشا إلى حكم مصر بإرادة الشعب، لا بإرادة السلطان العثماني، زعماء الشعب هم من عينوه، لهذا عاش يخاف الشعب، لأن من يملك القدرة على تنصيبه فوق الكرسي، يملك قدرة مماثلة على إطاحته من فوق الكرسي، كان يخاف قوة الشعب، هذا الشعب الذي عاش قرنين كاملين، السابع عشر والثامن عشر، دون سلطة مركزية قوية، تكتم أنفاسه، ضعف المركز الإمبراطوري في إسطنبول مع انقسامات المماليك في الداخل، كلاهما أتاح للمصريين التنفس بارتياح، حتى تكونت منهم طبقة حضرية قائدة. كذلك كان الباشا يخشى غدر السلطان الذي أرغم على التصديق على تعيينه تحت ضغط الشعب، الخوف من قوة الشعب، ثم من غدر السلطان، كانا الدافع العميق وراء تأسيس دولة حديثة تسلطية عنيدة عنيفة في وجه الشعب بالدرجة الأولى، لهذا فإن الباشا حكم منفرداً نصف قرن من الزمان، وهذا لم يحدث لأحد من قبله أبداً، الثلاثة قرون السابقة على ولايته، أسس الباشا كرسي حكم عنيف، يضمن بقاء الحاكم عليه، ما دام هو على قيد الحياة، ذهب الباشا، لكن بقيت دولته حتى هذا اليوم.
4 – معضلة السياسة المصرية الحديثة، تتلخص في أن كل حاكم، ما إن يجلس على الكرسي، حتى تتلبسه روح الباشا، روح الحكم الفردي المطلق إلى آخر يوم في حياته، مع فارق أن الباشا حين تدهورت صحته، وأدركه خرف الشيخوخة، وجد من نخبة الحكم من يجتمع، ويقرر إعفاءه من الحكم، ثم تولية نجله القائد إبراهيم، ثم لما مات إبراهيم، تمت تولية عباس الأول، نجل طوسون ابن الباشا ، وكل ذلك والباشا على قيد الحياة. ثاني صاحب أطول فترة حكم بعد الباشا، هو الرئيس مبارك، وفي عامه الأخير، وبعد وفاة حفيده، لم يكن- كرئيس للجمهورية- في لياقة نفسية أو روحية أو ذهنية؛ للقيام بأعباء المنصب، وكان يدرك ذلك الذين حوله، ولكن لم يكن أحدهم يجرؤ، أن يطرق عليه باب خلوته في غرفته، ناهيك أن يعرض عليه كلاماً، يتعلق بنقل السلطة منه إلى غيره، كما فعلت نخبة الباشا الأول. وهذا مثال كاف على مستوى، ومدى وعمق الطبع التسلطي للدولة الحديثة.
5 – ما جدوى ثورات المصريين، إذا كانت الدولة الحديثة غالبة على أمرها قاهرة لمواطنيها، فلا فرق بين باشا، ولا خديوي ولا ملك ولا رئيس، ولا فرق بين عهد الباشا، حيث كان عدد المصريين ثلاثة ملايين، وعهد الجمهورية الجديدة، حيث أكثر من مائة وعشرين مليونا من المصريين، وحيث تجارب مائتي عام من التحديث والتعليم والتثقيف والتحضر وتوسع المدن، وحيث المؤسسات والنقابات والأحزاب والمرافق العامة والمجتمع المدني، ما جدوى الثورات، وما جدوى كل تلك المدارس والجامعات، والأفكار والنظريات والتيارات؟. جدواها أنها سجلت كفاحات الشعب، وهي عظيمة، وأفسحت المجال لنضالاته، وهي كثيرة، ووضعت المصريين على طريق التحول الديمقراطي بالمعنى التاريخي، أي التحول الطبيعي غير المصطنع، والمتدرج غير المباغت، وعلى فترات طويلة من الزمن، المصريون المعاصرون لديهم مسيرة ديمقراطية من القاعدة أي من الشعب، ونخبه وطبقاته، هذه المسيرة من شأنها بالتراكم، أن تؤسس أهم شروط التحول، وهو امتلاك بنية تحتية للديمقراطية، تتفوق على ما تمتلكه الدولة الحديثة من بنية تحتية للتسلط، والعنف والعناد والاستبداد والديكتاتورية.
……………………………………………………….
جدوى كفاح المصريين على مدى قرنين من الزمان، يوجز في نقطتين:
1 – الديكتاتوريات مهما كانت صلابتها تنتهي إلى طريق مسدود.
2 – الديمقراطيات إما تولد ميتة أي تُجهض وإما تُستنزف.
السؤال: ما هي المخارج الممكنة من هذه المعادلة المقفولة؟
هذا مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.