لا تصنع بطولات البشر في فراغ تاريخ، أو فراغ معنى.
التحديات تستدعي التضحيات.
كانت حرب الفدائيين ضد المعسكرات البريطانية في منطقة قناة السويس نقطة تحول فاصلة في تاريخ مصر المعاصر.
رغم عمق تأثيرها على حركة الحوادث بعدها، فإنها تكاد، أن تنسى، كأنها جملة عابرة.
في أكتوبر (1951)، ألغى الزعيم الوفدي “مصطفى النحاس” “باسم الشعب” الاتفاقية، التي كان قد وقعها هو نفسه مع السلطات البريطانية عام (1936).
بتلك اللحظة، انفسح المجال واسعا أمام القوى الوطنية الشابة لحمل السلاح في منطقة قناة السويس؛ طلبا للجلاء، بعد أن سُدت أمامها أية آمال في جلاء القوات البريطانية بالتفاوض.
بتوصيف شيخ المؤرخين المعاصرين الراحل الدكتور “يونان لبيب رزق”، فإن إلغاء الاتفاقية “أخرج المارد من القمقم، الذي أجهز على ما بقي من النظام القديم، ولم يكن بوسع أحد أن يُعيده حتى الوفد نفسه”.
باستثناء أعمال أدبية شحيحة، وشهادات متناثرة، لم تكتب قصة حرب الفدائيين في الإسماعيلية والتل الكبير، كما يجب.. ولا سجلت بطولة المقاومة الشعبية في بورسعيد، أثناء العدوان الثلاثي (1956)، كما تستحق.
إنهما تجربة إنسانية واحدة، إرث وطني مشترك بتوقيت متقارب، يجسد بطولة الإنسان المصري العادي.
أهم الأعمال الأدبية، التي سجلت روح حرب الفدائيين قصة قصيرة، كتبها “يوسف إدريس”، ضمن مجموعة “جمهورية فرحات”، حملت اسم “قصة حب”.
لم تكن قصة حب اعتيادية في وقت، تقاربت فيه احتمالات الموت مع فرص النجاة.
عدل “صلاح أبو سيف”، ابن نفس الجيل والتوجه اسم الشريط السينمائي، الذي أخرجه عام (١٩٦٣) عن تلك القصة، إلى “لا وقت للحب”، مجسدا لحظة فارقة في التاريخ المصري بكل تضحياتها ومشاعرها.
القصة حقيقية، وبطلها شاب، كان يدرس الطب في جامعة الإسكندرية، قبل تخرجه عام (١٩٥٣) اسمه “حمزة محمد البسيونى”، قدر له، أن يعيش إلى ما بعد التسعين من عمره، رحل في صمت، ونعته أسرته في صفحة وفيات بكلمات مقتضبة.
قصة “حمزة”، هي قصة واحد من أفضل الأجيال المصرية في التاريخ الحديث- حلم وبذل وضحى، دون أن ينتظر ثمنا.
كاد أمير القصة العربية القصيرة أن يتماهى مع بطله، حين استمع إلى تجربته بأدق تفاصيلها السياسية، والإنسانية داخل زنزانة واحدة، ضمتهما في معتقل أبو زعبل عام (١٩٥٤) إثر الصدام بين ثورة “يوليو”، وتنظيم “حدتو” اليساري.
ذهب “حمزة” إلى المعتقل في عصر حلم به، وقاتل من أجله، ودافع عنه، بعد أن انقضت أيامه.
في حوار صحفي نادر قبل رحيله مباشرة قال: “رغم أن عبد الناصر اعتقلني، إلا أنني ما زلت أحبه”.
ترى ماذا كان مصير “شكري”، الذي وشى للبوليس السياسي بـ “حمزة” ورفاقه من الفدائيين؟!
على الأغلب- دون أن تكون هناك معلومات- أنه صعد في سلطة جاءت بها ثورة خانها.
يكاد “شكري” في “لا وقت للحب” أن يكون وجها مماثلا لـ “جلال طاهر” في رواية “سكينة فؤاد” “ليلة القبض على فاطمة”، التي تحولت إلى شريط سينمائي، ومسلسل تلفزيوني بالاسم نفسه.
“الثورات يصنعها الشجعان، ويجنيها الجبناء”- كما قال ذات مرة “أرنستو تشي جيفارا”.
مع ذلك، فإن القضايا الكبرى تنتدب دوما، من يدافع عنها، ويضحي من أجلها، هم الذين يعطون للحياة معناها، ويسبغون على الأوطان كبريائها.
تبدت شجاعة البطلة الحقيقية لرواية “ليلة القبض على فاطمة”، واسمها “زينب الكفراوي”، في الخامسة عشر من عمرها.
انضمت للمقاومة الشعبية، نقلت رشاشات وقنابل للفدائيين، مرت بثبات أعصاب بين تمركزات، ودوريات قوات الغزو في مدينتها “بورسعيد” وهي تدفع أمامها عربة صغيرة، تحمل طفلا رضيعا ابن شقيقتها، دون أن يخطر ببال أحد، أنها تخفى أسلحة ومعدات، وساعدت في إخفاء الضابط البريطاني “مور هاوس” ابن عمة ملكة بريطانيا، الذي أسره الفدائيون، وكانت تلك ضربة معنوية هائلة لقوات الغزو.
لخصت تجربتها بطولة الإنسان العادي، وقدرته على اجتراح، ما يشبه المعجزات دفاعا عن حرية بلده، وحقه في اكتساب قراره الوطني.
في الرواية حاولت “فاطمة” بتضحيتها إخفاء جبن، وتخاذل شقيقها الأصغر “جلال طاهر”، الذي انهار تماما قبل الاضطلاع بمهمة، كلف بها لنقل الأسلحة للفدائيين، قامت بالمهمة ونسبتها إليه.
بعد الحرب، صعد نجم “البطل المزيف”، ارتقى داخل التنظيم السياسي والمجلس النيابي، لكن ماضيه الحقيقي طارده، حاول أن يخفيه، أن يخرس الحقيقة، اتهم البطلة الحقيقية بالجنون، حتى لا يصدقها أحد، إذا ما تكلمت.
استوحيت بطولتها في سياق درامي، ينتسب إلى خيال مؤلفته؛ لإبراز التناقض بين الذين يضحون بلا أوسمة، والذين يحصدون بلا استحقاق.
في ثمانينيات القرن الماضي، تصور كثيرون، أن الشريط السينمائي عمل معاد لثورة (23) يوليو، المؤلفة نفت، أن يكون ذلك قصدها، فهي “بنت الثورة” كما قالت.
عن نفس الرواية، أنتج مسلسل تلفزيوني من إخراج “محمد فاضل” أقرب موضوعيا للبطلة الحقيقية، التي ظلت حتى نهاية رحلتها في الحياة، تنسب نفسها إلى ثورة يوليو.
بفضل تضحيات جيل “زينب الكفراوي” في ميادين القتال، بدت مصر أمام “الباب المفتوح”- وفق رواية الدكتورة “لطيفة الزيات” عن تلك الفترة، والروح التي بثتها.
جرت أحداث الرواية بين عامي (١٩٤٦)، حيث ولد جيل جديد، صاغت تجربته حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية، و(١٩٥٦) حيث ألهمت حرب السويس روحا استقلالية، وتحررية ونظرة مختلفة لقضية المرأة، كما لخصتها “ليلى” بطلة ذلك النص الروائي، التي تمردت على قيودها، ونظرة المجتمع إلى دور المرأة، واكتسبت حقها في الحرية بالانضمام إلى الفدائيين في بورسعيد؛ إسعافا لجرحى وتضميدا لآلام.
“أردت أن أقول، إن طريق الخلاص هو بالارتباط بقضايا أكبر، يجد الإنسان نفسه فيها”ـ كما قالت المؤلفة.
برز في حرب السويس بين المقاتلين شاب صغير، تجاوز بالكاد السابعة عشرة من عمره اسمه “محمد مهران”، تطوع في الحرس الوطني، وتدرب على السلاح، وقاد سرية صغيرة؛ لحماية مطار الجميل في بورسعيد.
حاول بقدر، ما يستطيع أن يوقف مع رفاقه المتطوعين هبوط المظليين البريطانيين بعد قصف كثيف للمطار، ألحقوا خسائر فادحة بقوات الغزو، لكن لم يكن ممكنا وقفه، وسقط أسيرا، وكان الانتقام مروعا.
خضع لمحاكمة عسكرية ميدانية، وتقرر الحكم عليه بأغرب حكم في تاريخ الحروب، أن تنزع مقلتاه، بزعم أنه تسبب بزخات رصاصه في إصابة ضابط بريطاني بالعمى، حتى يمكن نقلهما إليه.
حملته طائرة حربية إلى قبرص، حتى تتم تلك الجراحة، التي تخاصم القوانين الدولية على نحو فاحش في التعامل مع أسرى الحرب.
في المحاكمة الصورية قال: إنه لم يرتكب جرما، فقد كان يدافع عن بلده، وهذا واجبه، ورفض أن يسب “جمال عبد الناصر”، فهو رمز المقاومة الوطنية المصرية في تلك اللحظة الحاسمة، وسبه تنصل من أي معنى، يجعله يحترم نفسه.
بمعنى تاريخي، فإن حرب الفدائيين في الإسماعيلية والتل الكبير امتدت بعد خمس سنوات ،بروحها وإلهامها إلى تجربة المقاومة الشعبية في بورسعيد.
في التجربتين، كان الضباط الأحرار في قلب المشهد التاريخي.
ساعدوا بقدر، ما استطاعوا على تدريب الفدائيين، وشاركوا بأنفسهم بقدر، ما هو متاح في قتال قوات الاحتلال، واستهداف معسكراتها، قبل أن يشرفوا على عمليات المقاومة الشعبية أثناء العدوان الثلاثي.
تسجل مذكرات “كمال رفعت”، أحد أبرز وجوه “يوليو”، تجربة الفدائيين، ودور “الضباط الأحرار” تنظيما وتدريبا وتسليحا.
كان تلك الحرب تطورا جوهريا في النظرة العامة داخل جيل الأربعينيات للقضية الوطنية، بعد أن بدا اليأس كاملا من أي جلاء لقوات الاحتلال بالتفاوض.
تجاوزت العمليات الفدائية أية أعمال فردية سابقة، شهدتها شوارع القاهرة من مهاجمة أفراد قوات الاحتلال، والاستيلاء على ما لديهم من أسلحة وذخائر.
حسب شهادته: “شارك الضباط الأحرار في عمليات الفدائيين بمنطقة القناة بعد إلغاء المعاهدة، وكان ذلك بمعرفة رئاسة التنظيم”- قاصدا “عبد الناصر”، الذي ربطته به علاقة وثيقة، منذ مطلع شبابه حتى النهاية.
“دربنا طلبة متطوعين بمنطقة طريق القاهرة– الفيوم، وتولينا قيادة بعض العمليات في الإسماعيلية، والقصاصين والتل الكبير ضد المعسكرات البريطانية.. وكانت رئاسة التنظيم تمدنا، بما نحتاجه من سلاح وذخيرة”.
“بعد حريق القاهرة، قُبض على أفراد التنظيم الفدائي، وصودرت أسلحته”.
توقفت العمليات الفدائية؛ بسبب تلك الاعتقالات، لكن بعد شهور قليلة كان الرد مدويا، بما جرى يوم (٢٣) يوليو.
شاركت في العمل الفدائي جماعات متباينة، من بينها “الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني- حدتو”، أكبر تنظيمات الحركة الشيوعية، و”الإخوان المسلمين”، و”مصر الفتاة”، وحزب “الوفد” نفسه، وانتدب شبان غاضبون أنفسهم؛ للتضحية بحياتهم بوازع وطنيتهم.
كما تسجل مذكرات “محمد فايق”، رجل “عبد الناصر” في إفريقيا، التي صدرت حديثا باسم “مسيرة تحرر”، جوانب أخرى شبه مخفية في حرب الفدائيين بعد ثورة يوليو (1952).
في الأيام الأولى للثورة، أنشئ مكتب خاص للمقاومة يترأسه “كمال الدين رفعت” تحت الإشراف المباشر لـ “زكريا محيي الدين”، الذي أسس الاستخبارات المصرية، و”عبد الناصر”.
كان الهدف هو تكثيف المقاومة، ضد الوجود البريطاني في منطقة القناة؛ لإرغام الحكومة البريطانية على الدخول في مفاوضات جادة مع مصر للجلاء عنها.
في حال فشل المفاوضات، خططت يوليو لفتح المجال واسعا؛ لانضمام كل من يريد التطوع لقتال البريطانيين في القنال.
إذا كان من معنى للحرب المنسية فهو أن التاريخ يصنعه البشر العاديون، الذين يكتشفون أنفسهم وطاقتهم على التضحية في أتون التحديات لا خارجها، وأن الاستقلال الحقيقي لم يكن أبدا مجانيا.