ما تزال التوترات السياسية والأمنية بين إيران، ووكلائها بالمنطقة من جهة، والولايات المتحدة، من جهة أخرى، تبعث بمخاوف جمّة بشأن احتمالات التصعيد المتبادل الذي لامس حافة الحرب المباشرة. واتساع نطاق الحرب، لما هو أبعد من غزة.
فالاغتيالات الأخيرة التي جرت السبت طاولت قادة للحرس الثوري الإيراني، إثر غارة إسرائيلية في منطقة المزة غرب دمشق. وتمثل المنطقة التي وقع فيها الاستهداف أحد المعاقل الأمنية المتواجد فيها نفوذ “الحرس” منذ الأزمة السورية عام 2011. بل إنها تضم مقرات سياسية، وسكنية لقادة فلسطينيين وفق وكالة الأنباء الفرنسية “فرانس برس”. وهذا التصعيد يتزامن مع اندلاع مناوشات عنيفة قبل فترة وجيزة بعد استهداف الحرس الثوري “مركز تجسس للموساد” على حد زعمهم في أربيل بإقليم كردستان العراق. وملاحقة القواعد الأمريكية بسوريا والعراق بالمسيرات.
وبحسب بيان صادر عن الحرس الثوري، فإن أربعة من مستشاريه تم استهدافهم بالفعل في سوريا. فيما ذكرت وكالة “نور نيوز” الإيرانية، المقربة من المجلس الأمني القومي الإيراني، أن من بين القتلى الجنرال صادق أوميد زاده، نائب قائد المخابرات في فيلق القدس التابع للحرس في سوريا، ونائبه الذي يكنى بـ “الحاج غلام”.
ويكاد لا يختلف الاستهداف الذي طاول قيادات الحرس الثوري بسوريا عن حوادث الاغتيالات السابقة التي جرت مؤخراً، في الضاحية الجنوبية للبنان. بل وفي مناطق النفوذ الميداني للحرس الثوري بسوريا. وهي سوابق تؤشر لوجود خرق أمني في البنية العسكرية لطهران. وذلك في ظل قدرة إسرائيل على استهداف اجتماع أمني، كما جرى في الحادث الأخير، وكذا مع نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري.
ووفق المرصد السوري لحقوق الإنسان، مقره لندن، فإن المبنى متعدد الطوابق الذي استهدفته الغارة الإسرائيلية، “كان يضم اجتماعا لقيادات مقربة من إيران. وأن الحي يعرف، بكونه أمنيا، ويضم قيادات من الحرس الثوري الإيراني، وقيادات فلسطينية مقربة من إيران”.
لكن اللافت أن إيران التي باشرت باستهداف ثلاث مناطق إقليمية يتمركز فيها خصومها، بداية من أربيل، ثم في باكستان؛ لمواجهة “جيش العدل” البلوشي المعارض، وأخيراً بشمال غرب سوريا الخاضعة لسيطرة تنظيمات سنية متشددة ومسلحة، اتجهت إلى التهدئة مع باكستان بعد ضرباتها الصاروخية العنيفة. وذلك تحت وطأة الضغوط المحلية والإقليمية، منها اقتراب الانتخابات البرلمانية، فضلاً عن الضربات التي تتعرض لها الميليشيات الولائية في العراق “وهم الذين يدينون بالولاء لنظام ولاية الفقيه بقيادة المرشد الإيراني علي خامنئي”، وميلشياتها الأخرى بالمنطقة منذ اندلاع “طوفان الأقصى”.
وفي حين هدد وزير الدفاع الإيراني، محمد رضا آشتياني، بأن الهجمات الصاروخية على العراق وباكستان، هي “رسائل تحذيرية” ورفع من احتمالية تكرارها. فقال: “لن نقبل أن نتعرض لمخاطر من قبل دولتي الجوار، وقد حذرنا سابقا، وفي حال لم يأخذا تحذيراتنا بعين الاعتبار، فسننفذ عمليات أخرى”، فإن ممثل المرشد الإيراني مهدي حسيني همداني، عمد إلى تخفيض نبرة الهجوم. وبرر رد باكستان العسكري على إيران، بأن الأولى “لم تهاجم مواقع عسكرية إيرانية، وإنما هاجمت الإرهابيين الموجودين في إيران”. وذلك في إشارة للجيش التابع لقومية البلوش المعارضة.
رسائل لواشنطن وتل أبيب من أجل غزة
فيما نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، عن مسئول إيراني، بأن الهجمات في الدول الثلاث هي “رسائل لواشنطن، وتل أبيب”. مشيراً إلى أن الضربات التي نفذها الحرس الثوري في باكستان وأربيل، إنما هي وسيلة ضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل لـ “إيقاف الحرب بغزة”. وتابع: “إيران لا تريد حرباً مباشرة مع إسرائيل وأمريكا. لكننا نريد أن يرى الأمريكيون كم باستطاعتنا، أن نكون شديدين”.
وألمح المسئول الإيراني للصحيفة البريطانية إلى مخاطر هذه الاستراتيجية الإيرانية. لكنه أكد على أن “المتشددين في إيران يعتقدون، أنه يمكن السيطرة على أضرارها، من وجهة نظرهم. يمكن لمشاركة محدودة ومحسوبة، أن ترسل رسالة إلى وكلاء إيران مفادها، أننا ندعمهم في الظروف الصعبة”.
ربما، تكون الرسالة المباشرة للهجوم الإيراني على باكستان هي استهداف عناصر جيش العدل الذي ينتشر عبر الحدود بين البلدين، والذي يتخذ له بعض القواعد داخل الأراضي الباكستانية. بينما يرفع مطالب انفصالية للبلوش الذين يواجهون التهميش والإقصاء في ظل سياسة “التفريس” الإيرانية، وتعميم المذهبية الاثنى عشرية، لا سيما بعد الهجمات التي تزايدت وتيرتها خلال الفترة الأخيرة، والتي سببت حرجاً لقوات الحرس والجيش الإيرانيين بضعف السيطرة على الحدود، وعدم القدرة على حفظ الأمن والاستقرار في هذه المنطقة، وفق الباحث المختص في الشؤون الإيرانية الدكتور محمود حمدي أبو القاسم.
ويشير حمدي أبو القاسم لـ “مصر 360″، إلى أن هناك مخاوف في ظل اتساع نطاق المواجهة الإقليمية، بأن يتم استغلال هذه الجبهة لنقل المعركة مع إيران إلى الداخل. وذلك من خلال إحداث مزيد من الاضطرابات في هذه الجبهة الشرقية. وذلك لشغل إيران عن معركتها في غرب آسيا في العراق، وسوريا ولبنان واليمن مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
وقد كان من الواضح أن إيران لا ترغب في فتح جبهة مع دولة باكستان على الرغم من توجهات الحكومة الحالية التي قلبت مسار التفاهم الذي تبناه رئيس الوزراء السابق عمران خان. ولهذا جاءت الضربات لأماكن انتشار عناصر جيش العدل. ويبدو أن باكستان لديها نفس الرغبة في عدم توسيع نطاق الصراع. وعليه، ردت بهجمات مشابهة ضد أماكن انتشار عناصر المعارضة الباكستانية الموجودة على الأراضي الإيرانية. بالتالي استوعب كل طرف تحركات الآخر. وتم تسوية الخلاف وإعادة الاتصالات الدبلوماسية والسياسية. وهذا قطع الطريق على أي طرف ثالث راغب في توريط الطرفين في أي صراع، ومسار تصعيدي عنيف وخشن.
دور متزايد لبكين
ويبدو أن أطرافا مهمة كالصين تدخلت من أجل عدم تفاقم الصراع، وفق الباحث المختص بالشؤون الإيرانية. وهذا يشير إلى “دور وساطة” متزايد لبكين في قضايا المنطقة.
ويردف: “تنامي نفوذ الصين يعد بمثابة توجه تعارضه الولايات المتحدة. وتراه ينافسها في مناطق نفوذها التقليدية في الشرق الاوسط. على أي حال تمت تسوية الخلاف العابر. وأغلب الظن أنه كان من الصعب على الجانبين حشد الدعم الشعبي؛ لاتساع المواجهة في ظل أولوية الصراع في غزة لدى الجماهير في الدولتين. ولقد نالت الهجمات الإيرانية على العراق وسوريا وباكستان كثيراً من الاستهجان والانتقادات، واعتبرها البعض هروبا للأمام بعيداً عن المواجهة مع إسرائيل التي تستهدف إيران وقياداتها، ومصالحها بصورة متواترة. وذلك دون رد واضح من إيران”.
يتفق والرأي ذاته، طاهر أبو نضال، عضو المكتب السياسي ومسئول العلاقات العربية في الجبهة الديمقراطية الشعبية الأحوازية
بإيران “نسبة لإقليم الأحواز في إيران”، ويقول إن ما حصل بين باكستان وإيران “أمر طارئ”. واللافت أنه قد تم تسوية الخلاف سريعاً، والانعطاف لـ “قمع قومية البلوش” عوضاً عن توسعة الصراع. ويردف: “إيران أدركت سريعاً خطأ حساباتها في التعامل مع باكستان التي لم تتردد في الرد الصاروخي، خلافا للعراق وسوريا”.
أما عن الأفق والنتائج المتوقعة، فيرجح المصدر الإيراني لـ “مصر 360” “المزيد من التنسيق الأمني بين دولتي باكستان وإيران؛ للتعامل مع المعارضين البلوش المناهضين للحكومات المركزية في البلدين”.
ماذا عن العراق
وبحسب مصدر سياسي كردي، فإن الأوضاع في الإقليم تشهد توترات قصوى. فالأهداف التي تعرض لها الإقليم ووصفها الحرس الثوري بأنها “مراكز تجسس وتجمع للمنظمات الإرهابية المناهضة لإيران” مؤشر يبعث على الخطر وله حساسية لارتباطه بمستوى عال من الدقة الأمنية والارتباطات السياسية والأمنية للحزب الحاكم بأربيل.
ومن ناحية أخرى، وفق المصدر الذي تحدث لـ “مصر 360″، وفضل عدم الكشف عن هويته، فإن الفيلا، التي فجرها الاستهداف الإيراني، وزعمت طهران، أنها أحد مقرات الموساد، هو منزل مملوك لأحد رجال الأعمال المقربين من حكومة البارزاني، ويملك شركة خدمات أمنية، فضلاً عن دوره المؤثر في القطاع الاقتصادي التجاري والنفطي.
المشهد كما يصفه المصدر السياسي الكردي، هو رسالة بعد استهداف قياديين بحركة النجباء المنضوية في الحشد الشعبي المدعوم من إيران.
ويردف: اليوم تعمل القوات الأمريكية على خطة؛ لإعادة الانتشار مرة جديدة في سوريا والعراق. تحركات قادة وعناصر الحرس الثوري وفيلق القدس من العراق لسوريا، وحتى لبنان كانت مؤمنة بصورة كبيرة، حتى ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي. لكن بعد تطور الوضع الإقليمي في غزة، تغيرت الأمور تماما، فالقياديون بالنجباء، تم استهدافهما مباشرة فور عودتهما من شمال سوريا، وذلك لإمداد قواتها الخاصة بمعلومات، وإمدادات لوجستية لمواصلة استهداف القواعد الأمريكية، حيث تتواجد قوات النجباء أو بالأحرى “وحدة خاصة” في مناطق بشرق الفرات”.
وهناك إشارة من المصدر الكردي، أنه قبل تنفيذ الاعتداء على أربيل ببضع أيام زار محمد كوثراني مسؤول الملف العراقي بحزب الله اللبناني، العراق، والتقى بقادة الحشد الشعبي في “مكان آمن” (لم يذكر المنطقة ورجح أنها خارج بغداد). وكانت الزيارة بشأن “استمرار الهجمات على الوجود الأمريكي بالعراق، وهي الخطة ذاتها المُلتزم بها من القوى المدعومة من إيران في سوريا”.
وبحسب المصدر الكردي، فإن الضربة على أربيل رسالة استخبارية أمنية أكثر منها اعتداء له أثره المدوي بمعنى وقوع خسائر، لافتا إلى أن الأيام القليلة المقبلة، وفق دائرة معلوماته، ستشهد زيادة في هذه العمليات التي لن تهدأ، وسوف ترتفع وتيرة الأحداث في الجبهة السورية، وسيكون هناك ضربة موجعة للحرس الثوري بالمناطق المتواجد فيها بالقرب من شرق سوريا، ومنها دير الزور مثلا.
المعضلة بالنسبة للقوات الأمريكية وفق المصدر الكردي هو التفكير في منع وصول الإمدادات العسكرية، واللوجستية للفصائل الولائية من العراق لسوريا، كما يحدث بعدة مرافق حيوية، سواء المعابر البرية أو المواني البحرية (المسافة من البو كمال لغرب الفرات) كمطار الشعيرات، وريف حمص ومدينة الميادين والبو كمال. فيما ساهمت هذه المناطق “المفتوحة والآمنة” في وصول قدرات عسكرية ليست بالهينة من المسيرات، والصواريخ قصيرة المدى وكاميرات المراقبة، وأجهزة التجسس ومنظومة كاملة للاتصالات المتطورة الحديثة بإمكانياتها على المراقبة والتجسس والاتصال.