بعد تعليق جلسات الحوار الوطني في سبتمبر الماضي، على خلفية الاستعداد لانتخابات الرئاسة، وعلى خلفية إصدار ثُلة معتبرة، وكبيرة من التوصيات أو المقترحات من قبل لجان الحوار الوطني الـ 19 التي شرعت في عمل دؤوب، منذ انعقاد أولى جلسات الحوار في 14مايو 2023، يثار السؤال الجوهري في الوقت الراهن، ما هو مصير توصيات الحوار الوطني؟

السؤال مهم ومشروع، لأنه يأتي على خلفية أكثر من حديث لرئيس الدولة الداعي للحوار في 26 إبريل 2022، والذي بدأت أولى جلسات مجلس أمنائه في 5 يوليو 2022، واستمرت لـ 23 جلسة، تلاها الحوار مباشرة في مايو 2023 مستمرًا نحو أربعة أشهر. أحاديث الرئيس المتتالية بشأن الحوار، كان فحواها أن مخرجات الحوار الوطني سيتم الموافقة عليها دون نقاش، وذلك إما من خلال إصدار تعليمات تنفيذية بإقرارها، أو من خلال الدفع بتشريعات تدعمها أمام البرلمان، وذلك حسب طبيعة تلك المخرجات.

اليوم، وبعد هذا الجهد المضني والكبير لمجلس الأمناء، وللجان الحوار الـ 19، يتحتم حتى لا تضيع الجهود، ولا يكون ما مر من وقت كان في النهاية مجرد مكلمة، أو تنفيس أو تسكين لأوجاع وآلام الناس، (يتحتم) السؤال عن مصير تلك المخرجات، والتي كان من المهم والواجب، ولو من باب النقد الذاتي، أن يشكل مجلس أمناء الحوار لجنة خاصة؛ لمتابعة تنفيذ تلك المخرجات، ومدى الموافقة عليها، والأخذ بها، وهو ما لم يحدث.

هذا الموضوع المتصل بمصير المخرجات، لا يهدف إلى نقد توصيات الحوار الوطني ومخرجاته، لأن هذا الأمر سبق، وأن تم التطرق إليه في مقالات سابقة للكاتب، لكنه يهدف إلى تقييم المخرجات على الأرض، من حيث التنفيذ (موافقة الرئيس والحكومة عليها)، أو نية التنفيذ (الدفع بها للبرلمان).

واحد من الأمور التي شككت في تعامل السلطة الجدي مع مخرجات الحوار الوطني، كانت بسبب محاولاتها قطع الطريق على الحوار الوطني أثناء الإعداد له، وعقبه بعقد  “المؤتمر الاقتصادي- مصر 2022” الذي نظمته الحكومة المصرية خلال الفترة من 23 إلى 25 أكتوبر 2022، لمناقشة أوضاع ومستقبل الاقتصاد المصري. يومها خرج الرئيس منتقدًا المؤتمر، بأن ما أوصى به هو عناوين كبرى، يمكن أن يخرج بها طالب بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. لذلك عندما أمعنت جلسات الحوار– ردا على ذلك لنقد- في مناقشة أدق التفاصيل للخروج بمقترحات محددة وتفصيلية، كانت الضربة التالية بإصدار مركز المعلومات، ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء في 7 يناير 2024 وثيقة أبرز التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري، ليس هذا فحسب، بل أعلن أنه بدأ منذ 17 يناير 2024 في إجراء حوار وطني شامل حولها، لم يدع إليه فحسب خبرا ء واقتصاديين مصريين، بل وأيضا ممثلين عن منظمة العمل الدولية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. غاية القول، نحن على الأرجح نسير في حلقة مفرغة من الورش، وندوات العمل والحوارات الوطنية، التي لن تنتهي، أو كما يقول المثل، أسمع ضجيجا ولا أرى طحينا.

لكن مقابل ذلك يجب أن يذكر في هذا المضمار، أن توصيات ومخرجات الحوار الوطني لم يكن كلها مآلها العدم، لأن بعضا من تلك المخرجات نالت حظًا من التنفيذ. خذ على سبيل المثال، قرارات الرئيس بالعفو عن سجناء الرأي، وهي عديدة ومتتالية، وجاءت نتيجة لنداءات وبيانات مجلس الأمناء، صحيح أنها تلاها قيام الأجهزة الأمنية بتدوير لبعض القضايا من نفس النوع، ما أفرغ بعضها من مضمونها، لكنها على أية حال، كانت استجابة رئاسية سريعة ومحمودة.

من زاوية أخرى، كانت هناك أمور كان قد طلبها مجلس الأمناء، وكان يصعب تنفيذها، وكان هناك تفهم لعدم موافقة السلطة عليها. أبرز تلك الأمور توصية مجلس الأمناء في 26 مارس 2023 بمد الإشراف القضائي على الانتخابات؛ كي تنعقد انتخابات الرئاسة بإشراف قضائي كامل في موعدها في فبراير ومارس 2024، دون تبكير. هذه التوصية رفضت بتبكير الانتخابات؛ خشية الطعن عليها، ما لم يجر تعديل دستوري، أو تُبكر الانتخابات، كما حدث بالفعل.

بشأن غالبية مخرجات الحوار الوطني، كان المراقب لتلك العملية يظن للوهلة الأولى، خاصة بعد الوعود الرئاسية بالتنفيذ أو الإحالة للبرلمان، أن تلك التوصيات ستنال حظها السريع من الإقرار، خاصة تلك التوصيات التي تحمل: –

– وجود توافق وليس تباين في الآراء حولها بين مختلف القوى السياسية، والخبراء داخل الحوار الوطني عقب انعقاد جلساته في 14مايو 2023.

– وجود قضايا مهمة، لا يحتاج الموافقة عليها لتعديل دستوري (لا سيما، وقد اتفق على أن تعديل الدستور غير وارد في الحوار برمته)، أو تعديل القوانين عبر تشريعات، يقرها مجلس النواب.

– تضمن بعض المقترحات التي خرج بها الحوار الوطني مخرجات، لن تكلف الدولة شيئا. هذه المقترحات ذات طابع سياسي وليست اقتصادي، ومن ثم فإن الموافقة الفورية عليها لا تعني على الإطلاق تحمل خزينة الدولة شبة الخاوية بداية أي شيء.

السؤال الآن: ما هي أبرز المقترحات أو المخرجات التي ووفق عليها وما هي أبرز المقترحات التي لم تنل حظها من التنفيذ حتى اليوم.

– كما سبق القول، كانت هناك استجابة للكثير من البيانات التي كان يصدرها مجلس الأمناء، سواء بالإفراج عن سجناء الرأي (دون علاج من حيث المبدأ لمسألة الحبس الاحتياطي، وسجن أصحاب الرأي)، وكذلك الأمور المتصلة بمنحة استثنائية لأرباب المعاشات، والتخفيف عن كاهل صغار الفلاحين في مواجهة مديونيات البنك الزراعي.

– بيان مجلس الأمناء الصادر يوم 18سبتمبر 2023، بشأن انتخابات الرئاسة، ونزاهتها وضرورة اتساع أفق المجال العام عقبها، كله لم ينفذ منه شيء، بل على العكس، اختتمت العملية بخروج الهيئة التي أدارت الانتخابات ببيان بنتيجة انتخابات غير كامل لكافة اللجان العامة على مستوى الجمهورية، ولم ترد الهيئة على تساؤلات، تمحورت حول كيفية تصويت 44 مليون ناخب في 3 أيام، ومن ثم كيف أخذ كل ناخب نصف دقيقة للتصويت داخل اللجان. وعقب الانتخابات، لم يتغير شيء بشأن المجال العام، كما أوصى بيان مجلس الأمناء عالية، ولنا في حالة غضب السلطة الشديد من وقفة نقابة الصحفيين بشأن غزة يوم 15يناير 2024 مثالا على ضيق الصدر بشأن الرأي الآخر. وكذلك استمرار حالات التحفظ على الأموال، والمنع من السفر الذي طال، حتى المقرر المساعد للجنة حقوق الإنسان بالحوار الوطني، ناهيك عن اعتقال النقابي محمد زهران في 13سبتمبر لعدة أيام؛ بسبب رأي قاله داخل جلسات الحوار.. إلخ.

– تعديل النظام الانتخابي، والذي خرج به الحوار الوطني بمقترح يجمع بين النظامين الأغلبي (الفردي والقائمة المطلقة المعيبة) والنظام النسبي، هذه التوصية لم تناقش، حتى اليوم في مجلس النواب، كما لم تناقش أية تعديلات اقترحت، بشأن قانون مباشرة الحقوق السياسية، وقانون الأحزاب، رغم أن الانتخابات على الأبواب.

– عدم اتخاذ أي خطوة حتى اليوم بشأن قانون الإدارة المحلية، وكذلك كافة المثالب التنفيذية التي طالبت توصيات الحوار بضرورة تعديلها، والخاصة بالحريات الأكاديمية، إضافة بالطبع للموضوع التقليدي الخاص بإنشاء مفوضية؛ لمكافحة التمييز وفقا لما جاء به الدستور.

– اقتصاديا، كان العجز الحكومي واضح في التعامل مع الغالبية العظمى من مخرجات المحور الاقتصادي، سواء لجنة الاستثمار الخاص، ولجنة الزراعة، خاصة فيما يخص استفحال أزمة الأسمدة واستمرار غياب الزراعة التعاقدية، وإنشاء صندوق التكافل الزراعي. نفس الأمر لوحظ في التعامل مع مخرجات لجنة الصناعة، وما اشتملت عليه من معالجة أسباب التراجع فيها. وكذلك لجنة السياحة، فيما يتصل بكل ما ورد بمخرجاتها حول ضرورة صياغة خريطة سياحية لمصر، ووسائل تحفيز الاستثمار السياحي بكل أشكاله.. إلخ.

– اجتماعيا، لم يجِد أي جديد بشأن التعديلات الخاصة بقانون الأحوال الشخصية، حتى تلك التي أقرها الحوار الوطني بشأن القضية الفلمية المتعلقة بالوصايا على مال القصر. ولم يصدر أي إجراء تنفيذي أو تشريعي ذي شأن، يخص منظومة التأمين الصحي رغم المخرجات المتميزة للحوار الوطني. نفس النهج سارت عليه الحكومة في التعامل مع مخرجات الحوار، بشأن عدم فعل أي شيء بخصوص إصدار قانون التعاون الموحد، وقانون العمل الأهلي. أما بالنسبة لمفوضية التعليم التي ناقشها الحوار باستفاضة، فخرجت بها السلطة، دون فائدة من المناقشات المثمرة، حيث بقي التعليم حتى اليوم على حاله، وكذلك مخرجات تطوير التعليم الفني، وكافة الأمور المتصلة بتطوير المناهج، وتحسين ظروف المعلم، وتطوير رياض الأطفال، وتوأمة المدارس الحكومية بالدولية.

هكذا كان التعامل مع مخرجات الحوار الوطني، تنفيذ القليل جدا من المخرجات، والتعامل مع غالبيتها، إما بالتجاهل التام، وإما بإعادة الدراسة في مؤتمرات أخرى.. وهكذا محلك سر.