في مطلع يونيو 1967م، أصدر الدكتور جمال حمدان 1928 – 1993م، كتابه الذي اشتهر به “شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان”، في شكل كتيب، صغير الحجم، مقاس كف اليد، يزيد قليلاً عن ثلاثمائة صفحة، كانت على صغرها من حيث الحجم، والكم كافيةً جداً، من حيث الهدف والكيف، فقد أدت غرضها- باقتدار- في بسط نظريته التي تقع تحت مظلة الجغرافيا الإقليمية، وحتى يومنا هذا، ما زالت كافية لمن يحب أن يفهم جوهر شخصية مصر، كيف تشكلت من التقاء الجغرافيا والتاريخ، كانت نظريته مجرد إسهام علمي من صاحبها عبر عنه بالقول: “وفي هذا الوقت الذي يضطرب فيه الفكر في مصر، ويضطرم، بحثاً عن شخصيتها العربية، وتحديداً لمعدنها القومي الأصيل، ولدورها الإنساني والحضاري، لا شك تبرز- في المقدمة- مسئولية الجغرافي الملتزم، الذي يضع علمه في خدمة مجتمعه”.

إذاً كان الهدف من الدراسة هو البحث عن شخصية مصر العربية، ومعدنها القومي الأصيل، ثم دورها الإنساني والحضاري. وكانت خاتمة الكتيب، تناقش وجوب قيادة مصر للعالم العربي، فهذا- كما يقول- دور ألقته عليها الطبيعة، وهي الدولة العربية الوحيدة التي تؤثر بقوة في كثير من الدول خارج العالم العربي، بل إن مصر معدودة من زعماء العالم الثالث المبرزين، كما أن مصر تدرك، أنه لا ضمان لوجودها وكيانها ومستقبلها إلا بالوحدة العربية وفي ظلها، وينبغي على مصر أن تدرك مغزى هذا الدور، فهو- أساساً- واجب التضحية من أجل الدول العربية، والبذل لها، كما أنه واجب، أن تقدم مصر النموذج والمثال الذي تتطلع إليه الدول العربية، فعلى مصر أن تعطي العرب أكثر مما تأخذ منهم، تبذل للعرب الأموال من دخلها القومي، وتقدم للعرب البذل العسكري من الدم المصري، وعليها أن تكثف قواها باقتصاد عصري وحياة عصرية، حتى تكون أهلاً للقيادة”.

ثم ختم الكتيب بهذه الفقرة الحاسمة: “وإذا كانت القيادة والزعامة مسئولية، تُمارس وواجباً يتحقق، فلعل الاختبار النهائي لزعامة مصر هو أن ترقى إلى مسئوليتها عن استرداد فلسطين للعرب، وإذا صح القول، إنه لا وحدة للعرب دون زعامة مصر، فلا زعامة لمصر دون تحرير فلسطين”.

هذه كانت هي مهمة الكتيب، كتيب شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان، مهمة تبدأ بالتعرف على جوهر البعد العربي لمصر، ثم الوحدة العربية بزعامة مصر، ثم تحرير فلسطين كهدف نهائي، سواء لمصر أو العرب أو الكتيب ذاته.

…………………………………………………….

كان هذا الروقان العالي المزاج قبل أن تقع الحرب في 5 يونيو 1967م، ثم وقعت الحرب، فنزلت مصر عن سدة القيادة، ولم تعد النموذج، ولا المثال الذي يحتذيه باقي العرب، انشغلت بنفسها، لم يعد في وسعها، أن تبذل الأموال من دخلها القومي للعرب، وجندت كل الصالح من شبابها على جبهات القتال، فلم يعد لديها فائض من الدم المصري، تبذله للعرب، ثم بات تحرير سيناء لا تحرير فلسطين شغلها الشاغل، ثم الأسوأ من كل ذلك، أنه بعد عشر سنوات من هزيمة الحرب 1967م، وقعت هزيمة السياسة 1977 م، وذهب رئيس مصر يحمل السلام للعدو، لعله يستكمل تحرير سيناء، فتخلت مصر عن قيادة العرب، كما تصالحت مع العدو، كما دخلت- علناً وصراحة- تحت قيادة الحلف الأمريكي المهيمن في الشرق الأوسط، خرجت مصر من وضع الاستقلال والقيادة إلى وضع التبعية، حدث ذلك كله في عشر سنوات، انقلاب تام كامل شامل، لم يكن في حسبان الدكتور جمال حمدان، حين كان يكتب كتابه- الكتيب- أول مرة، قبل الحرب، وقبل الهزيمة، وقبل السلام ، وقبل التصالح مع العدو، وقبل التبعية للأمريكان، أحلام صارت كوابيس.

انقلب الروقان إلى عواصف، والعواصف إلى غضب، والغضب إلى ثورة، اعتملت صاخبةً في ضمير صاحبها وعقله، ثم أودعها صفحات كتاب جديد، ضخم، موسوعي، لعله يحتوي بعض ما في عقله من غليان، وبعض ما في نفسه من لهيب ونار، فبدل أن كان في السابق يشرح شخصية مصر من الشرح كمعلم وأستاذ، فإذا به يُشَرِح شخصية مصر من التشريح الطبي، تشريح حالة مرضية مُلغِزة مستعصية على الفهم، والتشخيص والعلاج والدواء، وضع مِشرط الجراح بلا رحمة على كل موضع، وموقع من مصر وشخصيتها، لم يستثن أحداً من المصريين، انقض وأجهز على الجميع، وضع مشارطه على كل مواضع الألم، والعفن والعطن في وقت واحد.

يبدأ بتوبيخ عموم المصريين على جهلهم المتين بأبسط حقائق الجغرافيا المصرية يقول: “ولنعترف بلا مواربةـ، أننا كمواطنين عاديين جهلة جداً بمصر، إن المصريين هم أقل من يعرف عن مصر” ثم يضرب مثالاً على جهل المصريين، فهم يعتقدون أن شبه جزيرة سيناء سدس مساحة مصر، والصحيح أنه ستة في المائة فقط أي واحد على ستة عشر من مساحة مصر.

………………………………………………………………..

ثم ينتقل إلى تشريح مصر نفسها، فبعدما كان في الكتاب الصغير يتحدث عنها كقائد طبيعي للعالم العربي، عاد ليراها من منظور مختلف في الكتاب الموسوعي، يقول: “وسواء كانت مصر أم الدنيا أو أم الديكتاتورية، أو كان حاكم مصر هو أقدم أمراضها، كما يذهب البعض، فلا شبهة في أن الديكتاتورية هي النقطة السوداء والشوهاء في شخصية مصر بلا استثناء، وهي منبع كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية، حتى هذه اللحظة، ليس على مستوى المجتمع فحسب، لكن الفرد أيضاً، لا في الداخل فقط لكن في الخارج كذلك”.

ثم يقول: “ولقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها المادية واللامادية بدرجات متفاوتة، إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق بالتحديد والفرعونية السياسية وحدها، فهي ما تزال تعيش بين وفوق ظهرانينا، بكل ثقلها وعتوها، وإن تنكرت في صيغة شكلية ملفقة، هي “الديمقراطية الشرقية”، أو الديموكتاتورية”.

ثم يقول: ” والمؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذرياً، ولن تتطور إلى دولة عصرية، وشعب حر، إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة”.

هكذا يبدأ الكتاب- الموسوعة- بثورة عاصفة، ثم ينتهي في خاتمة المجلد الرابع بعاصفة أشد تحت عنوان”الفرعونية الجديدة”.

السؤال الآن: هل كان الدكتور جمال حمدان، على حق في كل هذا الغضب والثورة؟

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.