القاهرة – 25 يناير 2036
يمثل مرور ربع قرن على ثورة 25 يناير توقيتا مناسبا لمراجعة هذا الحدث المحوري في تاريخ مصر الحديث، وتدارس المسيرة التي قطعها الوطن حتى وصل إلى ما أصبح عليه الآن، لنضع أيدينا على الدروس التي تعلمناها كأمة من هذه التجربة المهمة والكبيرة.
اقرأ أيضا.. أبواب الخروج من أزمات مصر – استقلالية الموظف العام
بداية، لا بد من تذكير الأجيال الجديدة بما جرى. فرغم إعلان الحكومات المتعاقبة وقتها عن تحقيق معدلات نمو مرتفعة، ووجود احتياطى كبير من النقد الأجنبي، وزيادة السياحة وصادرات الغاز وغيرها من مؤشرات اقتصادية إيجابية، فقد كانت أحوال غالبية الناس في تراجع، وساد الشعور باستشراء الفساد، وغابت أي استراتيجية وطنية للتنمية، واستبدلت بها السلطة آنذاك إطلاق يد الناس في تدبير أرزاقهم واحتياجاتهم من تعليم وبناء ومواصلات من خلال حركة عشوائية هائلة، تغيب فيها الدولة تماماً، ولكن بمساهمة منظمة من الحركات الدينية، وفي مقدمتها حركة الإخوان المسلمين.
اقترن ذلك بمزيج عبقري من التسامح السياسي المحكوم ويد أمنية صارمة لكن دون قسوة، مع تنفيس منظم لشحنات الغضب، تمنعه من الانفجار، وهو ما حافظ على بقاء الحكم راسخاً لثلاثة عقود. إلا أن سنوات الحكم الأخيرة شهدت دخوله حالة من الشيخوخة والتيبس والتحلل وتراجع الكفاءة، لم ينجح في تعويضها تصعيد ابن الرئيس ليكون وريثاً ظاهراً للأب، ومعه فريق من السياسيين من ذوي الخلفيات البعيدة عن واقع غالبية الشعب المصري، بل أثار في نفوس الناس أسباباً إضافية للقلق على المستقبل، ورغبة متصاعدة في إنهاء هذا الحكم الفاسد المتعالي الملئ بالظلم وعدم الكفاءة.
اشتعلت هذه المشاعر بصورة خاصة في نفوس قطاعات واسعة من الشباب، الذين كانوا أكثر تعرضاً للعالم من خلال مصادر المعلومات الحديثة، والذين أدركوا أن نظرية الخلاص الفردي التي اعتمدها آباؤهم لن تنفع في ظل التراجع الكبير الذي يتعرض له الوطن بمجمله.
ظلت حركة الاحتجاج تتصاعد وتتسع وتضم أعداداً أكبر من الشباب وأقطاب المجتمع السياسي والثقافي، بما فيهم من كانوا يوماً مسئولين ووزراء، وساد شعور بأن البلاد على باب تغيير كبير، ينتظر لحظة الانفجار. وبالفعل، تعقابت سلسلة من الأحداث بعضها عزز من الشعور بالغضب، وبعضها زرع في النفوس شعوراً بالأمل في تغيير الواقع، أبرزها عودة محمد البرادعي مدير عام وكالة الطاقة الذرية من الخارج، ومشاركته مع مجموعة كبيرة من الشباب والسياسيين في إصدار قائمة بمطالب إصلاحية سياسية، ثم مقتل الشاب السكندري خالد سعيد على يد رجال الشرطة بصورة بشعة استفزت قطاعات واسعة من الشباب، وزادها اشتعالاً انتخابات برلمانية فاز فيها الحزب الحاكم بكل مقاعده تقريبا، وأخيراً تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية ليلة الأول من يناير 2011. واكتملت الحلقات بنجاح ثورة تونس في إسقاط الرئيس التونسي آنذاك، لتخلق الكتلة الحرجة من الغضب والأمل التي كانت البلاد تنتظرها.
وبمبادرة من مجموعة من الشباب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي صدرت دعوات إلى التظاهر في ميدان التحرير وعدد من الميادين فى مدن مصر الأخرى يوم 25 يناير، يوم عيد الشرطة، للمطالبة بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية، وفي مقدمتها إصلاح وزارة الداخلية. وعلى مدى 18 يوماً تصاعدت المظاهرات وانضم إليهم الملايين في تحالف عريض سقط بينهم قتلى وجرحى، ثم اتسع نطاق الاحتجاج بتصاعد وتيرة الإضرابات، وانتقلت المطالب من الإصلاح إلى التغيير، إلى إسقاط النظام وبدء عهد جديد من “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية”، وانسحبت الشرطة وتولت القوات المسلحة تأمين البلاد، وأعلنت التزامها بمطالب الجماهير، وعدم المساس بهم. وأمام تصاعد حالة الثورة قامت القوات المسلحة بالضغط على الرئيس ليتنحى، وهو ما فعله فى النهاية، ناقلاً السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
وبمجرد تنحي الرئيس بدأت تظهر التناقضات داخل التحالف العريض الذي أسقطه، بين من لم يكن يرغب إلا في إغلاق باب التوريث، ومن رغبوا في تغيير يقتصر على مجئ رئيس جديد أفضل من الرئيس المخلوع، والطامعين في أن يحلوا محله في السلطة مع بقاء باقي الأمور على حالها، ومن أرادوها دولة دينية، أو من سعوا إلى بناء دولة ديموقراطية حديثة، ومن افتتنوا بفكرة الثورة ذاتها، هذا بالطبع بجانب من أرادوا الانتقام من الثورة وإعادة الأمور إلى سابق عهدها.
هذا التباين كان محورياً في رسم مسار الأحداث لأكثر من عقد من الزمان بعد الثورة، بدءاً بالاضطراب الكبير في الفترة الانتقالية، ثم فترة حكم الإخوان التي كشفت أن التزامهم بالديموقراطية كان في حدود ما يصل بهم إلى الحكم والهيمنة على مؤسسات الدولة وعلى كتابة الدستور، وأن التزامهم بالثورة كان بقدر ما تحقق لهم ذلك، دون أي تغيير حقيقى في النظام. لهذا، ولضعف كفاءتهم في إدارة الدولة، لم يستمر التأييد الشعبي لهم، حيث تصاعدت موجة الرفض بين الجماهير، بما في ذلك كثيرين ممن وثقوا فيهم وأعطوهم أصواتهم، وسقطت سمعتهم في الأذهان سقوطاً مدوياً.
وصلت حالة الغضب إلى قمتها في مظاهرات كبرى تداعى إليها المعارضون لحكم الإخوان يوم 30 يونيو 2013 تطالب بتنحى الرئيس وعقد انتخابات رئاسية جديدة. ولما بدا أن الأوضاع توشك على الانفجار تدخلت القوات المسلحة وأعلنت -بالاتفاق مع ممثلي القوى السياسية المناهضة للإخوان- عزل الرئيس وتعليق العمل بالدستور وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً مؤقتاً حتى انتخاب رئيس جديد.
تزامن ذلك مع تغير مزاج قطاع واسع من الجماهير، وتراجع حرصهم على أهداف ثورة يناير المتعلقة بالديموقراطية، خاصة وأنها ارتبطت في الأذهان بالاضطراب الأمنى والاقتصادى الذى أعقب الثورة وكذلك بحكم الإخوان، فكان أن ذهب الناس نحو البحث عن طريق سريع ومختصر نحو الاستقرار، حتى لو على حساب الحريات السياسية. فتح ذلك الباب للكيان الأكثر قوة وتنظيماً، وهو الجيش، ليصبح معقد آمالهم، وتصاعدت قوة الدفع نحو انتخاب وزير الدفاع رئيساً للجمهورية، بتوقعات أن يتمكن بحزمه وتجرده واطلاعه العميق على أحوال الدولة من تحقيق ما يتمناه الناس من رخاء وعدالة وأمان.
لكن الأيام دارت على نحو مختلف. فقد طغى على السياسات هدف استعادة ما أطلق عليه وقتها “قوة الدولة وهيبتها”، التي قصد بها هيبة السلطة ومؤسساتها في مواجهة المجتمع، ومن ثم تفادي تكرار ما حدث في ثورة يناير، تنفيذاً لرؤية الرئيس، الذي أصبح مركز النظام السياسي، وأصبحت رؤيته البوصلة التي توجه الإدارة والتشريع. لم يقف الأمر عند تدمير تنظيم الإخوان وبنيته الأساسية، وإحكام السيطرة على المجال العام وعلى الاقتصاد وعلى العاملين في جهاز الدولة، وإنما امتد إلى إطلاق برنامج ضخم لتنفيذ مشروعات عمرانية كبرى تعكس القوة والعظمة، وترسخ شعور الناس بقدرة الدولة، في مقدمتها السعي لتأسيس عاصمة إدارية جديدة وأخرى صيفية بعيدة عن الكثافة السكانية، وتطوير شبكة الطرق السريعة، ومشروعات عديدة من هذا النوع.
كما تحركت السياسة الخارجية في إطار نفس المحددات، التي أصبحت معيار تحديد الخصوم والحلفاء، والقضايا والملفات ذات الأولوية، بل وطريقة التعامل معها. وقد تمادى الإعلام في الترويج لعظمة هذه السياسات والإنجازات، وتأكيد أنها تمثل أفضل ما يمكن تحقيقه، وأن التغيير ليس ممكناً وليس مرغوباً، وعلى أي الأحوال، فإن الناس هي المسئولة عن أي مصاعب أو أسباب للشكوى.
ولأن بلداً في أزمة كالتي عرفتها مصر وقتها لم يكن يحتمل أن يوجه أي من وقته أو موارده أو قدراته إلا نحو برامج تنموية تنعكس مباشرة في زيادة الإنتاج وفرص العمل ومستوى المعيشة، كانت النتيجة الحتمية لذلك هي اصطدام هذه السياسات بتوقعات الناس وتطلعاتها، في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية، وانخفاض مستوى المعيشة، واتساع نطاق الفقر والشعور بالظلم والغضب واليأس، مصحوباً بالقلق على أمور تمس الأمة ومستقبلها على رأسها المديونية، ومصير تدفق مياه النيل، وغيرها من أمور تتعلق بمكانة مصر في المنطقة، حتى بدأ الناس يشعرون أن هناك حاجة إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة.
ما حدث بعد ذلك معروف، لذا فما يهمنا اليوم هو تذكر الدروس التي تعلمناها من هذه التجربة التاريخية، ومن المسيرة التي قطعتها مصر بكل تقلباتها، لمعرفة كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، وللحفاظ على ما تحقق من مكتسبات، وتفادي تكرار ما وقع من خطايا وأخطاء، والأهم من ذلك لنستطيع المضي قدماً إلى المستقبل برؤية واضحة وبوصلة منضبطة. وفي تصوري، فإن أهم هذه الدروس هي:
- إن مصر هي وطن الجميع: القوى والضعيف، والغنى والفقير، المتعلم ومحدود التعليم، أبناء مؤسسات الدولة وغيرهم من المواطنين، الشباب وكبار السن، أصحاب كل المعتقدات، إلى آخر هذه التباينات، وأنه لا يمكن تحقيق أي استقرار أو بناء نظام سياسي ناجح دون مراعاة التوان بين مصالح الجميع، ودون إقامته على حلول الوسط، لأنه لن يتمكن أى فريق من قيادة البلاد رغماً عن الآخرين، وأن أي محاولة لتحقيق ذلك هي وصفة للفشل وعدم الاستقرار.
- أن السؤال الذى يجدر بنا أن نبحث عن إجابته هو “كيف تُحكَم مصر؟” وليس “من يحكم مصر؟”، بمعنى أهمية اختيار النظام السياسي الذي يحقق أعلى قدر من العدالة والكفاءة والنزاهة وسرعة اكتشاف الأخطاء وتصحيحها، قبل البحث عمن يتولى قيادة البلاد، لأن نظام الحكم الجيد كفيل بعلاج أخطاء الحاكم السئ، بينما يؤدي النظام السئ إلى تشكيل أي حاكم، مهما كان جيداً.
- أكدت تجارب مصر المتعاقبة أن أكبر خطر على البلاد يكمن في وضع الأمل في شخص واحد يتولى القيادة بشكل مطلق مهما حسنت نواياه، تترك له وحده مسئولية اتخاذ القرارات، وتحديد الأولويات والسياسات، ومراقبة تنفيذها، وتغييرها أو التراجع عنها، حسبما يتراءى له.
- ضرورة بناء علاقة صحية بين المواطنين ومؤسسات الدولة وقوانينها، والحذر من الممارسات التي تزرع عدم الثقة والنفور لدى المواطن تجاههما، بأن تكون قولاً وفعلاً فى خدمة المواطن، وأن يشعر المواطنون بأنهم مصدر القوانين ومرجعية المؤسسات، وأنهما يستهدفان تحقيق مصالحه، وليس السيطرة على حياته ورزقه وحريته. وهذا بدوره هو ما يحقق الهيبة للقوانين والمؤسسات، ويفرض على المواطن احترامهما، لإدراكه أن في ذلك مصلحته ومصلحة المجتمع، وحماية له من العشوائية والفوضى التي تقوض مصالح وحقوق الجميع.
- عدم إمكان تحقيق أي تقدم سياسي أو سلام اجتماعي في مصر إذا قام فريق سياسي فيها بخلط الدين بالسياسة، أو إذا تحولت إحدى أو بعض مؤسسات الدولة المفترض فيها الحياد إلى طرف منافس في السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام، وأن الجميع يخرج من ذلك خاسراً: الوطن، ومن يخلط الدين بالسياسة، أو مؤسسات الدول التي تدخل عالم السياسة، ومن يعارض ذلك، وعموم الناس.
- أنه، بدون مشروع جاد ومكثف وطموح للتنمية الاقتصادية، في قلبه الارتقاء بمستوى معيشة المواطن، حتى قبل تحقيق العظمة للوطن، فإن كل الأهداف الوطنية الأخرى مصيرها إلى الضياع والفشل، لأن الدولة التي تعاني من العجز الاقتصادي لا تملك القدرة على تحقيق الاستقرار الداخلي أو الدفاع عن أمنها القومي، ولا نيل احترام مواطنيها ولا العالم الخارجي.
- الأهمية القصوى لضبط إدارة المالية العامة، والالتزام بالقواعد الثابتة للمحاسبة الحكومية وإجراءاتها الإدارية والتشريعية والرقابية، وتجنب كل الأدوات المحاسبية التي تنتقص من ذلك لتسهيل قيام من هم في السلطة بالحصول على موارد والإنفاق في أغراض بغض النظر عما يترتب عليها من أعباء وخسائر على الوطن، لضمان أن يتعامل المسئولين والموظفين مع أموال المواطنين المخصصة للإنفاق العام بما تستحقه من حرص واحترام.
- أنه رغم ما لمصر من خصوصية، فإنها لا تختلف عن غيرها من الأمم التي، رغم ما لها من خصوصية هي الأخرى، تنتمي لنفس مسيرة التطور الإنساني من حيث الأفكار والعلوم وأنماط تنظيم المجتمع وإدارة شئون السياسة والاقتصاد. صحيح أنه لا توجد دولة تماثل الأخرى بشكل تام، إلا أن الاختلافات في الأمور التي استقرت عليها الإنسانية تكون في الشكل أو التفاصيل، لكن دون أن تمس الجوهر من حيث القيم العليا ومناهج التفكير والعمل والحقوق والحريات والالتزامات والواجبات وغيرها من أمور استقرت فى الأمم والمجتمعات الناجحة.
لا شك أن هذه ليست كل الدروس التي استخلصناها من التجربة، وربما لا تكون هي ما استخلصه الجميع، لكني أزعم أنها أصبحت تعبر عن رأي غالبية المصريين باعتبارها الطريق إلى مستقبل من الحرية والرخاء والكرامة للوطن والمواطنين، وإذا كانت هذه كانت نتائج ثورة يناير رغم كل ما أعقبها من مصاعب، فهذا يكفيها.