في ذكرى ثورة يناير التي مرت قبل أيام، والتي لا تزال ذكريات الـ18 يوما التي استمرت حتى 11 فبراير حاضرة، ظهرت عدة اتجاهات رئيسية بين أنصارها وجمهورها والفاعلين والمشاركين فيها، من خلال طرق وطبيعة تفاعلهم مع الذكرى الثانية عشر للثورة.

جانب ممن تفاعلوا مع ذكرى يناير تعاملوا مع الأمر باعتبارها تجربة واجبة التكرار، وهي مشكلة في تصور أن الثورة فعل يتحقق فقط بتوافر الظروف المؤدية إليه، أو أنها هدف في حد ذاتها، دون التفات مثلا لأوضاع وأولويات قطاعات واسعة من الشعب المصري حاليا، أو تساؤل حول مواقف القوى والأطراف التي كانت شريكة في يناير وموقع كل منهم الآن بل وعلاقة تلك الأطراف ببعضها البعض وقناعات كل منهم بعد كل ما جرى وحدث على مدار السنوات الماضية، وموازين القوى القائمة، والمساحات السياسية والتنظيمية المتاحة فضلا عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية القائمة، ودون التوقف أمام أسباب عدم نجاح يناير في تحقيق أهدافها، أو طبيعة الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية والمقارنة بينها وقت ثورة يناير وفى الوقت الحالي.

وفى مقابل هذا التصور، كان هناك من يرى في تفاعله مع ذكرى يناير أن الأمل قد راح والحلم قد انكسر والتضحيات ذهبت هباءً، وأن الأوضاع ستبقى على ما هي عليه دائما مهما جرى من تغييرات لن تعدو كونها مجرد تغييرات شكلية فقط، وهي نظرة شديدة اليأس والبؤس، وإن كان يمكن تفهمها والتعاطف معها معنويا، إلا أنها لا تصلح أبدا لفهم الواقع ولا للتطلع إلى المستقبل، فضلا عن أنها تمثل تغييبا للعنصر الأهم دائما وأبدا وهو موقف الناس ورأيهم وحضورهم وتفاعلهم، ثم إنها لا تطرح علينا سوى أن نستسلم للواقع ونتعايش معه فحسب.

هناك شجن وأسى بدا واضحا في التفاعل مع الذكرى نتيجة ما آلت إليه الأوضاع، وما لم تنجح في تحقيقه ثورة يناير، والتضحيات والأثمان الكبيرة التي دفعها كثيرون على مدار الـ12 عاما الماضية، وهي كلها مشاعر حقيقية وطبيعية، وتعبير عن تجربة بالغة التركيب والتعقيد والصعوبة مرت بها الثورة ومن عاصروها وانحازوا لها وبالذات الأجيال الشابة الذين كانت أعمارهم تتراوح وقت الثورة بين العشرينات والثلاثينات، لكن رواية وسردية هذا الجيل تستحق مساحات أخرى أكبر وأوسع لأن الثورة بالنسبة له لم تكن مجرد فعل ومشروع سياسي بل كانت فرصة حياة جديدة ومختلفة، وما فقده هذا الجيل بفشل الثورة ليس هينا ولا قليلا.

لكن بالتأكيد فإن التوقف عند تلك الحدود في النظر للثورة والتفاعل مع ذكراها ليس فقط غير كاف، ولكنه أيضا لا يتقدم بنا ولو خطوة إلى الأمام، صحيح أن التعبير عن المشاعر الجياشة بكل شجنها وألمها، والتفاعل مع الذكريات، يؤشر بوضوح أن يناير لم تكن مجرد حدث ومر وانتهى، وأن آثاره في وجدان ونفوس من شاركوا فيها باقية ومستمرة، لكن الأهم هنا هو الدروس المستفادة من تجربة يناير، والقدرة على الحوار الجماعي حول الأخطاء التي جرت في تلك التجربة، والقدرة والاستعداد للاعتراف بهذه الأخطاء ونقدها.

مجددا فإن يناير تجربة بشرية، صحيح أنها قد تكون التجربة الأنبل والفعل الشعبي الأبرز والأكثر أثرا في تاريخ مصر الحديث، لكنها في النهاية لها أخطاؤها، وبالتأكيد فقد تعرضت لمحاولات احتواء والتفاف وانقضاض، لكن هذا لا ينكر أيضا أن من شاركوا فيها كانت لهم أخطاؤهم، سواء من حيث تصوراتهم عن الواقع ومدى تشابك وتداخل العلاقات والمصالح فيه، وتكتيكاتهم التي استخدموها، وأولويات القضايا والمعارك التي خاضوها، إلى آخر ما ينبغي النقاش حوله تفصيلا بقلوب حارة وعقول باردة، تستلهم ذكرى الثورة لتستفيد من دروسها لا لتتعامل معها باعتبارها حلما انكسر وانتهى.

إذا كانت يناير كثورة تجربة انكسرت ولم تنجح في تحقيق أهدافها، فإن هذا لا ينفي أن أثرها كان ولا يزال حاضرا، وأن كثيرا من جمهورها وأنصارها لا يزالوا قادرين على التفكير والتفاعل والتأثير، والأهم أن مشروعها السياسي العام لا يزال مطروحا، بالتأكيد يحتاج إلى كثير من التفصيل والنقاش والتطوير، لكنه لا يزال يمثل المدخل الصحيح لحلول حقيقية لهذا الوطن وهذا المجتمع وهذه الدولة.

وإذا كان جيل يناير قد مر بتجربة بالغة الصعوبة والأثر إنسانيا ونفسيا وقدم –مثل غيره من الأجيال السابقة حتى وإن تفاوتت الدرجة والحجم– كثيرا من التضحيات، بدءا من فقدان الأحباء والأصدقاء، ومرورا بالسجن، ووصولا لأولوية الحلم والهم العام على الحياة العملية والشخصية لكثير من أبناء جيل يناير، فإنه ومع ذلك لا يزال يمتلك ما يستطيع تقديمه لتحقيق أحلامه لهذا الوطن، كما أن من بعده أجيالا هي الآن في شبابها ممن تأثر بشكل مباشر أو غير مباشر بتجربة يناير وما أنتجته، إيجابا وسلبا، وتستحق أن تنال فرصتها وتجربتها دون أن نفرض عليهم تصوراتنا أو نلزمهم بتجربتنا.

وبالتالي، واجب المنتمين ليناير، فعلا لا قولا، وفكرا لا مصلحة، وفى الحال لا في التاريخ، بكل أجيالهم وانتماءاتهم، أن يفكروا ويناقشوا ويبلوروا تصورات عن التجربة وأخطائها وأسبابها، وأن دور من يستطيع منهم الآن أن يحاولوا تقديم إجابات عن كيفية الاقتراب من تحقيق تلك الأهداف في ظل الواقع الحالي، والسعي لخلق مسارات تفتح الباب لتجارب سياسية وتنظيمية جادة وحقيقية وقادرة على الفعل والتأثير والحضور، والعمل على فتح مساحات للعمل العام في مختلف المجالات.

ومع كل ذلك، فمن المؤكد أن ذلك وغيره، يحتاج لمسارات سياسية حقيقية لا شكلية، وإصلاحات شاملة جادة وعاجلة، فالقلق من أثر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية وما قد تؤدي إليه واجب ومشروع، لكن لا سبيل للتعامل معه، ولا لتفادي ما قد ينتج عنه إلا بفتح متنفسات ومساحات للتعبير عن مختلف الآراء وللعمل السياسي السلمي المنظم، وتعديلات تشريعية واسعة ترفع الحصار والقيود عن السياسة والإعلام والنقابات وغيرها، فوجود أطر منظمة هو السبيل الصحيح والحقيقي والآمن، ووجود قنوات ومسارات لطرح الأفكار والتفاعل معها بجدية وتنفيذ ما يمكن منها هو البديل عن تغييب الآراء المختلفة وتهميش الأفكار البديلة، وإجراء تغييرات حقيقية هو ما يمنع التغيير بسبل أخرى، وليس دقيقا ولا صحيحا أبدا أن ما أدى إلى ثورة يناير هو وجود هامش حريات بل كان بالأساس غياب الحريات وبؤس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

يناير هي تجربتنا التي نعتز بها، ونعترف بأخطائها، ونسعى للاستفادة منها وتصحيح مساراتها، وما ننتمي له حقا وفعلا هو أنبل ما فيها وهو تضحيات شهدائها، وحضور الشعب الطاغي فيها، ومشروعها وأهدافها المتمثلة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والخطا لم يكن في قيام ثورة يناير فقد كانت واجبا وضرورة، وإنما في المسار الذي سارت فيه بعد نجاحها في خلع رأس النظام، أو المسار الذي انجرت إليه. لكن كل ذلك دون أن نحولها لصنم مقدس نقدم له القرابين، أو بكائية نلطم الخدود ونشق الصدور في ذكراها، أو يوتوبيا غير بشرية لم ولن تكون موجودة سوى فى جنة الله لا على أرضه، لكن أيضا دون أن نقبل تشويهها وتحميلها بما لم يكن من مسئوليتها وما كانت كاشفة عنه لا منشئة له.