في سنوات الرئيس الأسبق “حسني مبارك” الأخيرة، استحكمت أزمة الشرعية، وغابت قواعد إدارة الدولة.

تراكمت الأزمات، وأخذت تنفجر واحدة إثر أخرى منذرة بانفجارات أكبر وأخطر، تعصف بمصير البلاد، أو تأخذها إلى سيناريوهات فوضى وعنف.

بتعبير الدكتور “ممدوح البلتاجي” وزير السياحة، الذي تقلد وزارتي الإعلام والشباب تاليا: “البلد فكت”.

كان يدرك معنى، ما يقول والشواهد أمامه في الحكومة والحزب الوطني، الذي كان عضوا في مكتبه السياسي.

بدا كمن، يريد أن يزيح عن صدره هما ثقيلا، وهمس بعبارته المحملة بالمخاوف.

لم يكن أحد قبله قد استخدم مصطلح “التفكيك” في وصف الأحوال المصرية المستجدة.

بدت تلك رؤية من الداخل، أنذرت بما هو مقبل.

في الاثنين (10) يوليو (2006)، جرت واقعة كاشفة، لما يجري من صراعات مكتومة في بنية نظام حكم مرتبك، حين تدخل “مبارك” في اللحظات الأخيرة؛ لإلغاء مادة الذمة المالية في قانون عقوبات جرائم النشر.

قيل إنه انتصار لحرية الصحافة، وهللت الصحف القومية لقرار الرئيس، ونسيت- سريعا- أنها دافعت عن هذه المادة بالذات!، غير أن جانبا رئيسيا في الحقيقة، أن الرئيس أراد أن يقول لبعض كبار معاونيه: “انا هنا”.

بدا مستمتعا، بأن يهرولوا تأييدا لتدخله بعد ساعات من أقوال منسوبة إليهم، ومنشورة في الصحف تقلل من دوره في صناعة القرار السياسي، وصلت إلى حد، أن صرح رئيس مجلس الشعب الدكتور “فتحي سرور”: “لا شأن للرئيس بأعمال مجلس الشعب، ونحن لا نتلقى تعليمات بالهاتف!”.

لم يكن تصريح رئيس المجلس النيابي تعبيرا عن حقائق دستورية معتمدة في الفصل بين السلطات، أو احتراما لشرعية ما، بقدر ما كان تعبيرا عن تصدع شرعية الأمر الواقع التي صاحبت صعود “مبارك” نفسه.

رسالة أخرى مشابهة، جرت بتوقيت مقارب، عندما أشاد “مبارك” بمستوى أداء الدكتور “أحمد نظيف”، وأنه من أكفأ ثلاثة رؤساء حكومات، عملوا معه.

كانت التوقعات تشير في ذلك الوقت إلى قرب إطاحة “نظيف”، والتسريبات من داخل أمانة السياسات تؤكدها.

كأن “مبارك” أراد بتصريحه المفاجئ عن كفاءة “نظيف” أن يقول: “انا وحدي صاحب القرار!”.

موقف “مبارك” المفاجئ أدهش “نظيف”، الذي بدا مستعدا لمغادرة الحكومة.

قال لبعض معاونيه: “أنا مش فاهم حاجة؟؟!”.

كانت تلك معضلة شخصية لرئيس حكومة، وجد نفسه في مرمى نيران صديقة على مدى شهور.. وأخذ يتأهب لمغادرة مقعده في رئاسة الحكومة، قبل أن تفاجئه رسالة الرئيس: “أنا هنا”.

في دولة مثل مصر، مركزية بطريقة إدارتها على مدى تاريخها، لم يكن “مبارك” في حاجة، إلى أن يسجل حضوره السياسي في دفاتر الصحف.

كان حرصه على تسجيل حضوره تعبيرا صريحا عن غيابه.

أجرى حوارات متعددة مع رؤساء تحرير الصحف القومية إلى درجة نشر حوارين في يوم واحد، وكانت تلك رسالة ملغمة بغياب المقعد الرئاسي، فالحوارات لا يوجد، ما يسند إجراءها.

لم تكن هناك حوارات بالمعنى المهني المتعارف عليه، ترسل الأسئلة لرئاسة الجمهورية، قبل أن تعود إلى الصحف في صورة حوار صاغه الطاقم المحيط بالرئيس.

كان ذلك تعبيرا آخر عن أزمة رئيس، يريد أن يركب جوادين في وقت واحد، أن يورث الحكم، وأن يحفظ احترام مقام رئاسة الجمهورية.

الفكرتان متعارضتان، فالتوريث يعني- عمليا- نقل السلطة الفعلية في حياة الرئيس، ومقام الرئاسة يستدعي إنهاء أية أوضاع غير دستورية.

بما هو مؤكد، أراد “مبارك” أن “يفرمل” جموح الملتفين حول نجله الأصغر بالإبقاء على “نظيف” في رئاسة الحكومة، دون أن ينهي سيناريو “التوريث”.

كان ذلك نوعا من الشد، والجذب داخل البيت الرئاسي، أخذ ينحر تحت قوائم شرعية النظام.

لم يكن مألوفا في تاريخ النظام المصري أن يصارح مسئول كبير، الرئيس، بما يستشعره من مخاطر ماثلة، ومزالق محتملة، قد تعرضه لمعاول النهاية.

في أوضاع القلق المتزايد، أنصت “مبارك” إلى مسئول كبير في الدولة، يتولى منصبا على أعلي درجة من الحساسية، والأهمية (المشير “محمد حسين طنطاوي” وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة)، وهو يعرب عن قلقه البالغ من التدهور الفادح في أداء السلطات العامة، التي أخذت تتوالى عليها الكوارث واحدة إثر أخرى.

لحساسية منصبه، لم أشر إليه بالاسم، فيما كتبته على صفحات جريدة “العربي” بتاريخ (26) أكتوبر (2008) مكتفيا بصفاته.

في ذلك اللقاء تمددت المصارحة إلى انتقاد حاد للمجموعة الاقتصادية، وسياسات بيع المقدرات العامة، واصفا الوزراء الذين تربطهم صلات وثيقة بأمين السياسات نجل الرئيس، بأنهم: “وزراء كي. جي. وان” و”شوية عيال أمريكان”.

فيما أخذ المسئول السيادي الرفيع (“المشير طنطاوي”)، يحذر من العواقب الوخيمة على مستقبل نظام الحكم من استمرار هذه الوجوه والسياسات، أبدى مسئول سيادي آخر (اللواء “عمر سليمان” رئيس المخابرات العامة) ذات المخاوف في اجتماع تال مع الرئيس.

لحساسية منصبه هو الآخر، لم أشر إليه بالاسم مكتفيا بالتلميح إليه.

في المرتين، أبدى الرئيس عدم ارتياح من لغة الخطاب أمامه.

لم يتردد كلاهما في الإعراب عن ولائه الكامل، وأن هذا الولاء يقتضي مصارحة الرئيس بالحقائق، حتى لو اضطرا لتقديم استقالتيهما الآن وفورا.

كانت المفارقة اللافتة أن المسئولين الكبيرين (“طنطاوي”) و(“سليمان”) لم يعهد عنهما اقتراب إنساني، أو علاقات خاصة، بل بدا الفتور- بأكثر التعبيرات تحفظا- القاعدة التي حكمت العلاقات بينهما على مدى نحو (17) عاما قبل المصارحتين.

هكذا أخذت دواعي القلق على مستقبل البلد، تعبر عن نفسها بمصارحات مع الرئيس من أقوى رجلين في نظامه، وأكثرهم انضباطا وولاء.

لم يكن ممكنا لأية دولة في العالم أن تحتمل قضية مصير نظام الحكم لأكثر من ثمانية أعوام، (امتدت لعامين آخرين)، وأن يتجلى في مناخها السياسي أشباح المجهول، دون أن يكون هناك حسم في الملف.

من حين إلى آخر، تعرض “سيناريو التوريث” لضربات قاصمة، كانت تستدعي إزاحته من على الأجندات السياسية، لكنه لم يغادر، وواصل طرح نفسه على المستقبل.

الرئيس يمنع نقل السلطة إلى الابن، لكنه لا يمانع فيه.

هكذا تولدت معادلة حكم مشوهة ومنذرة.

كان “مبارك” يدرك- بخبرة الحكم- الكلفة السياسية الباهظة للتوريث، وما قد يلحق بنجله من مخاطر، لكنه ترك كل شيء يمضي، كأنه قدر مقدر.

ذات مرة قال: “لن أضع ابني في الجحيم بيدي”، لكنه لم يبعده عمليا عن مرمى الجحيم ومخاطره.

التشبيه نفسه استخدمه الدكتور “خالد عبد الناصر” صارخا في اتصال هاتفي بيننا، ربما أرادها رسالة عبر التنصت على الهواتف: “لماذا يدخل الجحيم بنفسه؟”.

إحدى الحجج، التي ترددت تفسيرا لـ “التوريث”، أنه يضمن سلامة الأسرة بعد غياب الأب من ملاحقات، قد تتعدد صورها.

كان ذلك الاعتقاد بالذات العقدة الكبرى في قصة التوريث، وقد دفع ثمنه باهظا.

التفت مصالح كبرى حول نجل الرئيس، بحثت عن الحماية السياسية تحت عباءة مشروع “التوريث”، حتى بدت صورة أمانة السياسات أقرب إلى “مغارة على بابا”.

في كل مرة تفاجئه عملية سقوط لأحد الملتفين حوله، لا يبدو مستعدا لتحمل المسئولية، رغم أنه هو الذي اختار، وقرب إليه، ووفر الحماية السياسية الكاملة، لما كان يعتقد الخبراء، وقطاع كبير من الرأي العام، بأنه إهدار واسع للملكية العامة.

هناك من حاول أن يسبغ عليه صفة “الضحية”- ضحية معارضة لا تريد أن تعترف بإنجازاته وأفضاله على البلد!، وتعرض به شخصيا عند كل حضور سياسي، أو في مواسم مؤتمرات الحزب الوطني السنوية، التي صنعت من أجله رافعة سياسية لمشروع توريث الحكم.

الحقيقة أنه قد يكون ضحية، لكن لغير هذه الأسباب، لم يكن الرأي العام متقبلا سيناريو نقل السلطة من الأب إلى الابن، وكان مستحيلا أن تضفي مؤسسات القوة نفس منسوب الولاء الذي تمنحه للرئيس، فهو ليس من داخل المؤسسة التي أعطت مصر أربعة رؤساء على التوالي، منذ عام (1952).

عندما يفتقد سند القوة، والقبول الشعبي معا، فإنه يجحف مصير البلد، ويظلم نفسه في ذات اللحظة.

هكذا كتبت حرفيا في وقته وحينه.

كان شبه مؤكد أن الرئيس- مدركا للعواقب- لن ينقل السلطة في حياته لنجله، ما دامت صحته العامة تمكنه من أداء أدواره، فهو باق في منصبه حتى “آخر نفس وآخر نبض” بنص تعبيره، غير أن الضغوط العائلية تصاعدت عليه؛ لنقل السلطة في حياته، لأنه إذا لم يحدث، ذلك فلن تصل السلطة إلى نجله أبدا.

هكذا تمدد سيناريو “التوريث”، دون حسم لسنتين إضافيتين.

كانت المعضلة- هنا- أن الرئيس يدرك، أن نظامه السياسي قد انتهى، وأن أطراف النظام تيبست ووظائف الدولة الحيوية، تراجعت بصورة خطيرة، ونجله الأصغر يتحدث من حين لآخر عن نظام سياسي جديد، بينما هو موجود، وفاعل بحقائق النظام الذي يترأسه والده، وهو نظام فردي، ولو لم يكن ابنا للرئيس، لما كان له أي أدوار سياسية يعتد بها.

“جمال مبارك قد يكون ضحية لما قد تأتي به الأيام من تحولات عاصفة، يدركها الرئيس ويتحسب لها، ولكن الضحية الكبرى في كل ما جري يتحمله سيناريو التوريث وأدواره فيه”- هكذا بالحرف مرة أخرى.

ببصيرة نافذة كتب “نجيب محفوظ” في “أحلام فترة النقاهة” كأنه يطل على المستقبل: “أخيرا تنمرت القطة الوديعة، وهاجت رياح الغضب، وتساقط الشرر، يشعل الحرائق، حيثما وقع، ولن أجد من أكلمه إلا الرياح، فقلت لها: عندنا وسائل سلمية كنا على وشك استعمالها، فقالت: “ما فات وقته تعطل فعله، واستمرت زمجرة الرياح وتساقط الشرر”.

كانت تلك حكمة ضاعت وسط أوهام القوة التي استبقت زمجرة الرياح في ثورة “يناير”.