في ليلة 7 أكتوبر 1981، علت من عنابر سجن طره تكبيرات غير مفهومة، لم يتمكن سجناء عنبر «اعتقالات سبتمبر» الشهيرة تفسير ما يحدث، في الصباح وأثناء فترة التريض مر مأمور السجن برفقة عدد من ضباطه على الزنازين حتى وصلوا إلى زنزانة الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، فأبلغوه هو ومن معه بخبر اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات بأيدي عدد من ضباط الجيش في العرض العسكري صباح 6 أكتوبر.
صدم خبر الاغتيال هيكل، ورفض الخروج إلى ساحة التريض مع زملائه، وأغلق عليه باب زنزانته واندفع في بكاء عنيف، وسمعه زملاؤه وهو يتلو بصوت جميل قول الله عز وجل: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير»، بحسب رواية الكاتب الصحفي صلاح عيسى في كتابه «شخصيات لها العجب».
بعد ثلاثة أشهر خرج المعتقلون من السجن جميعا إلى قصر رئاسة الجمهورية، والتقوا بالرئيس الجديد محمد حسني مبارك الذى قال للكل يومها: «أريد أن ننسى ما حدث، وأريد صفحة جديدة وأريد تعاون كل القوى في مصر».
تلقى هيكل بعد هذا اللقاء بأيام دعوة من رئاسة الجمهورية للاجتماع منفردا بالرئيس الجديد، طلب مبارك من هيكل الانضمام إلى الحزب الوطني، لكنه رفض متعللا أن الصحفي أفضل له ألا يتحزب، بل وطالبه هو بتجميد عضويته في الحزب لأنه -أي الحزب- يستمد بذلك وجوده من السلطة وليس من الناس وهذا هو الخطر، فرد مبارك: «تخوفك من الحزب الوطني مُبالغ فيه، ووجودي فيه ليس المشكلة، المشكلة فى العمل التنفيذي فى الحكومة وأنت تعرف حجم المشاكل، وزاد علينا خطر الإرهاب، والناس بتطلب لبن العصفور، ولابد من الاستقرار قبل أن نستطيع عمل أى شيء، والجماعات الإرهابية كامنة، وتنتشر تحت الأرض»، على ما روى هيكل في كتابه «مبارك وزمانه».
في هذا اللقاء الذي استمر 6 ساعات، حدد الرئيس الجديد أولويات نظامه: «القضاء على الجماعات الإرهابية التي أطاحت بالرئيس السابق، وتوفير الاحتياجات الأساسية للطبقات الفقيرة والمتوسطة من الشعب، حتى تتمكن البلد من تحقيق الاستقرار».
كان شغل مبارك الشاغل في بدايات حكمه، «استقرار الدولة»، فالرجل كان شاهد عيان على اغتيال سلفه في حادث المنصة، ولم تذهب عن ذاكرته مشاهد خوف وهلع السادات وهو محاصر بهتاف الملايين ضده في الشوراع احتجاجا على قرارت إلغاء الدعم عن بعض السلع في 18 و19 يناير 1977.
هواجس الاغيتال على أيدي التنظيمات الأصولية، وخروج الناس على حكمه، أو إسقاطه عبر انقلاب، سيطرت على فكر مبارك، فعمل جاهدا على تفاديها، دخل في مواجهة مفتوحة مع التيارات العنيفة، ولم يقدم على خطوات مفاجئة في ملف الدعم رغم ضغوط حكوماته المتعاقبة، وحاول أن يبعد الجيش وقادته قدر الإمكان عن واجهة الحكم.
في أول خطاب له بمجلس الشعب، بدى أن الرئيس الجديد حريص على إرضاء الجميع، فأكد لرجال السادات وقادة الحزب والوطني أنهم باقون في مواقعهم، «لا أرى داعيا إطلاقا لانتخابات جديدة»، وردا على المطالبين بالتغيير قائلا:«لا أطلب من الأحزاب السياسية السكوت، ولكن تفهما مشتركا لمصلحة مصر العليا.. أنشد الاستقرار ولكن التغيير سيتم كلما اقتضته الظروف وبعد دراسته جيدا».
أعلن مبارك أنه «لن يتهاون مع الفساد أيا كان فاعله ولو كان أقرب الناس إليه»، وشدد على تصديه للفوضى وانتهاك القانون، وتعهد بأنه «لن يحكم مصر مدى الحياة، وأنه سيكتفي بالتجديد لمدة رئاسية واحدة»، مؤكدا تمسكه بالديمقراطية والتعددية واحترام إرادة مواطنيه كخيار لا بديل له في سنوات حكمه.
ورغم ذلك استمر مبارك 30 عاما في حكم مصر، بتزوير إرادة الشعب المصري وتهميش دوره وإخراجه من معادلة السلطة، وقمع المعارضين ووأد أي محاولة لخلق بدائل لنظام حكمه. قد يكون نجح في مجابهة التنظيمات الأصولية، وفي الحفاظ على توفير «فتات الدعم» لعامة الناس، لكنه فشل في حصار الفساد بل ساعد في انتشاره بحماية رجاله في السلطة والعائلة وفي الحزب والإعلام، كما فشل في وضع قواعد الدولة الحديثة من كل جوانبها.
اهتم مبارك بالحجر وأهمل البشر، نفذت حكوماته توسعات عمرانية ومدن جديدة وشبكات من الطرق والكباري والأنفاق غطت مصر من أقصاها إلى أقصاها، كما ارتفعت في عهده معدلات النمو وزاد الناتج المحلي، لكنه في المقابل عمل على قتل الحياة السياسية بحاصر الأحزاب وتفكيكها من الداخل وتزوير كل الانتخابات التي جرت في عهده، والتلاعب بمواد الدستور، وبالتوزاي جرف الثقافة والفكر، فأفقد مصر أدوات قوتها الناعمة.
استمر مبارك في السلطة 3 عقود بقوة القمع والخوف، وبدعم أصدقائه الأمريكان والإسرائيليين له باعتباره «كنزهم الاستراتيجي في القاهرة»، وبمحاولات فاشلة لتزييف وعي الناس والتلاعب بعقولهم من خلال وسائل الإعلام التي دأبت طوال سنوات حكمه على تصدير «إنجازته غير المسبوقة» للناس ورفعه إلى مراتب الرسل والأنبياء المنزهين عن الخطأ.
لا يُثبت القمع أركان شرعية أي نظام حكم مهما كانت سطوة هذا القمع وأدواته، ولا يمنع الخوف الناس من التذمر والغضب ولو بعد حين، والسلطة التي تراهن على دعم الخارج لبقائها واستمرارها رغم إرادة الشعب خاسرة، فالقوى الدولية على استعداد للتخلى عن دعمها لأي سلطة فقدت رصيدها الشعبي وانتهت صلاحيتها، أما اسطوانة «إنجازات الرئيس الذي لا بديل عنه» المشروخة التي يتم تدويرها في وسائل الإعلام المدجنة، فتأثيرها والعدم سواء بعد أن ظلت منصات الميديا ترددها على مدار الساعة.
مع انتصاف العقد الأخير من الألفية السابقة، كانت سلطة مبارك قد شاخت، على حد وصف الأستاذ هيكل الذي أرسل فى 10 يونيو 1995 رسالة إلى الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين يحتج فيها على القانون 93 الذي استهدف وضع قيود على الصحافة والصحفيين، معتبرا أن أن وقائع إعداد هذا القانون كانت أقرب إلى «أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع أحكام».
هيكل قال في رسالته: «إن هذا القانون فى ظنى يعكس أزمة سلطة شاخت فى مواقعها، وهى تشعر أن الحوادث تتجاوزها، ثم إنها لا تستطيع فى نفس الوقت أن ترى ضرورات التغيير، وهنا لا يكون الحل بمعاودة المراجعة والتقييم، ولكن بتشديد القيود وتحصين الحدود، وكأن حركة التفكير والحوار والتغيير تستحق أن توضع فى قفص».
ومع بداية الألفية الجديدة، طفت إلى سطح الأحداث بودار مشروع توريث السلطة من مبارك الأب إلى ابنه جمال، كان المصريون قد ضاق صدرهم من تمسك نظام «الإنجازات» بالسلطة إلى آخر نفس، ومع إقحام «الوريث» في مشهد الحكم، تصاعد الغضب من محاولات تحويل الحكم فى مصر إلى نظام عائلي وراثي.
حالة التململ من سياسات وممارسات نظام مبارك تحولت في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، إلى حركة غضب في الشوراع فتوالت الاعتصامات والإضرابات لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتعددت الحركات والائتلافات التي تدعو إلى التغيير ورفض التوريث، وفي ظل تلك الحالة قرر مبارك تعديل مواد الدستور لتتناسب مع مقاس «الوريث»، وهو ما دفع الناس إلى الاعتقاد بأن ساعة هذا النظام قد حانت.
كان تزوير انتخابات مجلس الشعب في 2010 هو الشرارة التي أشعلت النار في مبارك ونظامه، دائرة «الوريث» قررت احتكار السلطة التشريعية لصالح الحزب الوطني، انتهت المعركة الانتخابية بحصول الحزب الوطنى على 423 مقعدا من مقاعد مجلس الشعب البالغ عددها 508، وحصل المستقلون الموالون للسلطة على 69 مقعدا، فيما حصلت أحزاب المعارضة مجتمعة على 15 مقعدا، بعد أن أعلنت باقى الكتل السياسية انسحابها من «المهزلة» الانتخابية.
عندما سأل نواب الحزب الوطنى المنحل، مبارك، عن البرلمان الموازى الذى شكلته قوى المعارضة، من نواب سابقين ومرشحين تم اسقاطهم خلال الانتخابات، رد وهو يضحك ضحكة المستخف «خليهم يتسلوا».
لم يكن الرئيس الراحل يعلم حينئذ أن هذا البرلمان الذى عمل على هندسته رجال ابنه وبعض أجهزة الدولة، ليمرروا من خلاله مشروع «التوريث» سيكون القشة التي ستقصم ظهره وتضرب أركان حكمه.
مع مطلع عام 2011 كان نظام مبارك انتهى تاريخيا، وإن بقى على قمة السلطة سياسيا، كانت كل الشواهد تقول إن مصر بانتظار حدث كبير، حتى انتقل لهيب ثورة الياسمين في تونس إلى شوارع وميادين التحرير في القاهرة والمحافظات يوم 25 يناير، ليسقط مبارك ووريثه بعد 18 يوما من إعلان الشعب المصري العصيان العام.
لم تكن ثورة يناير تمردا على الأوضاع الاقتصادية والأحوال المعيشية للمواطنين فحسب ، لكنها كانت ثورة على تفشي الفساد والاستبداد واحتكار السلطة وتأميم المجال العام والإقصاء وتعامل الشرطة مع الناس.
خرج الشعب إلى الشوراع والميادين للبحث عن الدولة التى طالما حلم وأراد، فالثورة لم تكن تهدف إلى الثأر والانتقام من الديكتاتور وطغمته الحاكمة بقدر ما كانت تبحث عن بناء نظام جديد يتكفل يضع قواعد دولة الحرية والكفاية.
أيقن الشعب بعد عقود من التسلط وتزوير الإرادة أنه لا سبيل للخروج من متاهة التخلف والفقر والمرض والتبعية، إلا بالشروع فى بناء دولة مدنية عصرية، قاعدتها، اختيار الشعب للسلطة التنفيذية ولسلطة التشريع والرقابة عبر انتخابات تنافسية حرة نزيهة، وضمان استقلال سلطات الدولة وإنهاء سيطرة الرئيس المهيمن على كل أجهزة الدولة، وخلق مناخ من الحرية يسمح بصناعة إعلام مستقل يمارس دوره في مراقبة سلطات الدولة ومؤسساتها نيابة عن الناس.
يناير أرادت أن تنتقل بمصر من نظام الحزب الواحد والرجل الواحد والصوت الواحد، إلى دولة المؤسسات المستقلة التي تؤدي مهامها دون تدخل رئيس أو حزب سلطة، يناير كانت تهدف إلى ملء الفراغ الذي تسبب فيه بقاء مبارك في السلطة لعقود.
لجنة تقصي الحقائق حول أحداث الثورة الذي أعدته لجنة برئاسة المستشار عادل قورة رئيس محكمة النقض الأسبق إبان فترة حكم المجلس العسكري، أوصت بتدارك خطايا النظام السابق التي مهدت لثورة يناير، ودعا إلى ضرورة الشروع في بناء «دولة مدنية ديمقراطية حديثة قائمة على العدل والمساواة والحرية».
ودعا التقرير إلى رفع يد الأمن عن مؤسسات الدولة المختلفة، وإعادة النظر في القوانين المكبلة للحريات، واحترام إرادة الجماهير في اختياراتها السياسية، وأن تجرى الانتخابات العامة في أجواء من النزاهة والتنافسية والشفافية، بما يضمن تداول حقيقي للسلطة وبناء مؤسسات حكم قوية.
كما طالب الدولة الجديدة بدعم الحق في حرية الرأي والتعبير، واستقلال الصحافة والإعلام، والسلطة القضائية وباقي مؤسسات الدولة التشريعية والرقابية، واتخاذ إجراءات تضمن تطبيق العدالة الاجتماعية وتحد من الفساد والرشوة والمحسوبية، والنهوض بالنظام الصحي وبالتعليم والبحث العلمي، وتحديث الأجهزة الأمنية بما يضمن كفاءتها واحترافها واحترامها للقانون ولحقوق المواطنين.
درس رحلة مبارك من المنصة إلى محطة ثورة 25 يناير، لايزال حاضرا، «إنما يتذكر أولو الألباب».