كان في نيتي أن أكتب اليوم عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية، في ضوء ما أسفرت عنه من فشل (أو تعثر) مشروع تصنيع إسحق رابين ثان، يقوم بدوره هذه المرة يائير لابيد، وهو المشروع الذي سبق لي الكتابة عن مغزاه وأهدافه هنا، ولكني فضلت تأجيل الكتابة في هذا الموضوع إلى لقائنا التالي، وإعطاء الأولوية للوضع الداخلي في مصر، حيث اكتسب الحديث عن دعوات التظاهر يوم 11/11 زخما اعلاميا، لم أكن أصلا أتوقعه، وليس له مبرر من وجهة نظري، بما أن هذه الدعوات كلها آتية من خارج البلاد، ولم تبد أية قوة سياسية -يعتد بها أو لايعتد بها في الداخل- اهتماما يذكر بها.
لايزال الخطأ الأكبر في حسابات المعارضة الجذرية للنظام الحالي في مصر، هو القياس علي نموذج ثورة يناير 2011، من حيث الشكل بالدرجة الأولى، وهو الحشد الجماهيري، والاعتصام في الميادين العامة، بغض النظر عن اختلاف غالبية الظروف، وبغض النظر عن استيعاب دروس فشل تجربة يناير ذاتها، وأخيرا بغض النظر عن إخفاق هذا الأسلوب في البلدان العربية التي تحركت فيها الجماهير، وبخاصة الأجيال الشابة مرة أخرى، في سياق ما أطلق عليه اسم الموجة الثانية من الربيع العربي، كما جرى، ولايزال يجري في العراق ولبنان والسودان والجزائر.
المقصود بوصف المعارضة الجذرية في الفقرة السابقة هو تلك الجماعات والتنظيمات التي ترفض دستور 2014، ومؤسساته السياسية، ابتداء من رئاسة الجمهورية، وهؤلاء ينشطون خارج البلاد، ويلتفون حول جماعة الإخوان المسلمين، أو يتعاونون معها في معظمهم، وبالطبع يوجد هذا النوع من المعارضين في الداخل، لكن يغلب عليهم الطابع الفردي، وليس لهم نشاط يذكر، إلا على صفحات التواصل الاجتماعي، وفي أضيق الحدود، ولذا يلزم بإلحاح هنا التمييز بين تلك المعارضة الجذرية (وهي غير شرعية بطبيعة الحال )، وبين المعارضة الشرعية -التي هي من الناحية الدستورية- جزء لا يتجزأ من النظام الدستوري والسياسي القائم، أو هذا ما ينبغي أن يكون من الناحية النظرية، على الأقل.
ومن الواضح أن أيا من أطراف هذه المعارضة الشرعية لا يتفق لا مع معارضي الخارج في رفض دستور 2014، ولا في حسابات التغيير، أو حتى الإصلاح عن طريق استنساخ نموذج يناير 2011، وإن اتفق معارضو الداخل مع معارضي الخارج في رفض قليل أو كثير من سياسات النظام، خاصة انتهاكات حقوق الانسان، وإغلاق المجال السياسي، ومجمل الأداء الاقتصادي، وأزمات المعيشة لغالبية المواطنين، وتعاظم الدين الخارجي، وبيع الأصول لجهات غير مصرية، إذ يرى معارضو الداخل (الشرعيون) أن (التثوير) مخاطرة كبرى أو مغامرة في الظلام، فضلا عن الثورات أصلا لا تحضر في معامل، ولا تطلق بضغطة زر على جهاز إشعال.
ولذا فمن وجهة نظر هؤلاء المعارضين الشرعيين فإن العمل البطيء التراكمي، جنبا إلى جنب مع إدراك السلطة للمأزق الحالي، يمكن أن يؤدي إلى انفتاح سياسي، وخطوات إصلاحية في مجالي حقوق الإنسان، ومستويات المعيشة، وهي خطوات -وإن كانت محدودة – سوف تؤدي إلى تحسينات غير محدودة، وهنا يجب التذكير بأن إدراك السلطة للمأزق الحالي، لم يعد افتراضا لا يمكن إثباته، ولكنه أصبح معطى ثابتا، بدليل اعتراف الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه بوجود أزمة اقتصادية، ووجود حالة عدم رضا سياسي، وذلك في خطابه الافتتاحي للمؤتمر الاقتصادي الأخير، حتى وإن اختلفنا واختلف معه كثيرون حول أسباب الأزمة، ومدى وأحقية أو عدم أحقية حالة عدم الرضا السياسي، وذلك فضلا عن مبادرة الرئيس شخصيا للدعوة الي الحوار الوطني، الذي أوشكت ترتيبات انطلاقه على الاكتمال، وما صاحب ذلك، وينتظر أن يصاحبه من العفو والإفراج عن عدد لابأس به من المسجونين، والمحبوسين لأسباب سياسية.
غير أن الأهم في الحالة المصرية في سياق خطأ القياس على نموذج يناير هو الحقيقة الساطعة والبسيطة، التي تقول إنه من النادر جدا أن يقوم شعب ما بثورتين في جيل واحد، وإذا كان علماء الاجتماع والسياسة يقدرون الفجوة الزمنية بين الأجيال بحوالي ثلاثين سنة، فلنتذكر أنه لم يمض على ثورة يناير سوى عقد واحد فقط لا غير.
ثم هناك الفروق الموضوعية بين لحظة يناير وبين اللحظة الحالية، إذ كانت يناير ذروة حالة من الحراك استغرقت عقدا من الزمان، أي منذ بدأ مشروع توريث الحكم لجمال مبارك يتجسد في خطوات ملموسة، بداية من تشكل أمانة السياسات في الحزب الحاكم برئاسته، وكان هذا المشروع نفسه سببا أساسيا في تصدع داخلي في الحزب مابين حرس قديم وحرس جديد، وكذلك في ظهور تصدعات في جهاز السلطة، وبين مؤسسات الدولة، ما بين رافض وبين مؤيد، بل إن جمال مبارك نفسه لم يتورع عن وضع الأجهزة في مواجهة بعضها البعض، وكان كل ذلك سببا في عجز مؤيدي التوريث عن مواجهة شباب يناير بقوة ساحقة، وفي امتناع القوات المسلحة نفسها عن التصدي للمظاهرات والاعتصامات، وفي قول آخر انحيازها لثورة يناير في طورها الأول حتى سقوط نظام مبارك.
وغني عن القول أنه لا شيء من ذلك متوافر لدعوة 11/11، التي لم أر لها مردودا إلا في بعض وسائل الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، وكذلك في الإجراءات الأمنية الحكومية الاحترازية، التي تتسق مع فلسفة النظام، القائلة بعدم التهاون مع مستصغر الشرر، ولذلك يكاد كل المصريين في الداخل يتفقون على أن إرادة استخدام القوة ضد أي تحرك محتمل لا تردد فيها ولا تحسب، وهذا في حد ذاته حكم مسبق على هذه الدعوة بالفشل، اللهم إلا في إبقاء السلطة في حالة توتر، وفي هذه النقطة بالذات يصح القول إن النظام يقع هو نفسه أيضا في خطأ القياس على نموذج يناير، إذ إنه لا يوجد أي خطر من تحرك داخلي يعتد به على النظام، ولكن الخطر قد يأتي من سياسات النظام نفسه، ومن الأوضاع الإقليمية والدولية، التي من الوارد أن تفاقم من أزماتنا الداخلية، فتنتج أشكالا من الضغوط ليست في الحسبان.
كل ذلك لا ينفي أن يناير في حينها تطورت إلى ثورة حداثية شاملة تبتغي بكل وضوح تحقيق الديمقراطية وإقرار حقوق الإنسان وكرامته، والعدالة الاجتماعية ودولة القانون والمواطنة، ومن هذه الزاوية فقط، ستبقى يناير هي المرجعية والنموذج والإلهام، أي من حيث المضمون، وليس من حيث الشكل، المتمثل في الحشد والاعتصام، كما سبقت الإشارة، ولذلك فإن التقدم باطراد نحو الاستجابة لهذا النموذج هو صمام الأمان الحقيقي لجميع الأطراف.