لا سياسة في مصر منذ 7 سنوات على الأقل.
فقد تعرض العمل السياسي لحصار قاس وعنيف من السلطة الحالية، وتعرض المجتمع المدني لقيود كبيرة عطلته تماما، وأخرجته من مشهد الحياة العامة بشكل كامل.
تواكب هذا الحصار مع ضريبة كبيرة يدفعها كل من يحاول المشاركة في الحياة العامة لا سيما إذا حاول الاجتهاد والوجود من موقع المعارض للسلطة أو المنتقد لسياساتها، فقد دفع الآلاف ضريبة الكتابة والرأي والعمل السياسي السلمي من حريتهم بعد أن دخلوا إلى السجون لشهور أو سنوات.
هذه حقائق مؤكدة لا يمكن إغفالها أو تجاهلها.
“أحزاب يناير” هي الأحزاب التي خرجت إلى النور بعد ثورة يناير الخالدة، وقد تزامن خروجها مع زخم سياسي وسيولة كبيرة في الحياة العامة، فالكل كان يرغب في المشاركة في رسم مستقبل البلد، وارتفع منسوب التفاؤل عند المصريين بأن القادم سيخلو من القيود والسجون والحصار الذي سبق الثورة، وقد جرى ما جرى من حصار للعمل العام بعد يونيو 2013، وتراجع الزخم الكبير وبقيت “أحزاب يناير” تجتهد وتحاول وسط مناخ عام لا يرحم.
الكرامة والدستور والتحالف الاشتراكي والمصري الديمقراطي وغيرها أحزاب وُلدت من رحم ثورة يناير، وبنت أحلامها وكثيرا من قواعدها على أحلام الثورة وما بعدها، إلا أن تغيّر الأحوال أدى إلى ضعفها وتهميشها وعودتها للانكفاء على الذات مستسلمة لمشكلاتها الداخلية ولأزماتها التنظيمية، ومع ذلك يحسب لها أنها ما زالت تحاول في حدود المستطاع، وفي ظل مناخ عام لا يسمح بالعمل السياسي ولا بالنقد أو الكتابة أو تقديم البدائل والبرامج.
روح ثورة يناير التي ألهمت هذه الأحزاب منذ نشأتها ما زالت تدفعهم للاستمرار والمحاولة و”المقاوحة”، وما زال المشهد السياسي يخلو من أحزاب جادة وحقيقية باستثناء أحزاب يناير وبعض الأحزاب ذات التاريخ رغم تراجع دور هذه الأخيرة ووصول أداءها السياسي إلى حدود مخزية في بعض الأوقات.
الأحزاب السياسية لا تنمو ولا تنتج تأثيرا حقيقيًا على المجتمع إلا في وجود مساحة من الحرية تسمح بالتحرك والتنظيم والكتابة والاختلاف، غاب كل هذا فانزوت أحزاب يناير وغابت عن المشهد تماما، لكنها تمسكت باستمرار تواجدها على الساحة حتى لو في أضيق الحدود، وبحقها في إعلان موقفها ورأيها ورؤيتها في كل ما هو مطروح من قضايا وسياسات.
بأي مقياس سياسي فإن المؤكد أن أحزاب يناير هي العصب الحقيقي للمعارضة المدنية المصرية، وهي التي تشكل الحركة المدنية الديمقراطية التي رغم أنها ما زالت صيغة سياسية ضعيفة، ورغم مشكلاتها التنظيمية، فإنها تعتبر أفضل الصيغ السياسية الموجودة على الساحة، وأكثرها قدرة على معارضة سياسات السلطة، وأقلها قبولًا بالتصفيق والتهليل والمبايعة طوال الوقت.
بداخل أحزاب يناير الآن ظهرت ملامح تيار شاب بات يتشكل ويظهر كل يوم بشكل أكبر ويكسب أرضية أوسع، هذا التيار داخل هذه الأحزاب هو الأكثر ارتباطا بثورة يناير وتمسكا بها، وهو التيار الأعلى صوتا في مواجهة السلطة الحالية، والأكثر رغبة في معارضة جادة وجذرية للسياسات المتبعة، وهو الذي لا زال يقف من دعوة الحوار السياسي التي أطلقها رئيس الجمهورية موقف المتشكك، لا سيما بعد أن صار البطء غير المبرر في الإفراج عن سجناء الرأي هو عادة السلطة وطريقة تعاملها مع هذا الملف المهم والحساس.
هذا التيار الشاب ظهر في الانتخابات الأخيرة لحزب الدستور، فقد كان التصويت مؤشرا مهما على طبيعة ورغبة هذا التيار في طريقة التعامل مع السلطة أولا ثم مع دعوة الحوار ثانيا، نفس ملامح هذا التيار الشاب تتشكل داخل حزب الكرامة، بداية من تولي أحمد الطنطاوي رئيس الحزب المستقيل موقعه كرئيس للحزب وهو ما زال في الأربعينيات من عمره وبعد أدائه البرلماني المحترم والمهم، ورغبته منذ اللحظة الأولى أن يكون الحزب معارضا حقيقيا للسياسات الرسمية، وفي القلب من الحزب أصوات شابة على نفس طريق الطنطاوي ورغبته في معارضة جادة وحقيقية.
أمر طبيعي في كل الأحزاب أن تختلف الرؤى وتتنافر أحيانا نتيجة لاختلاف الأجيال والتصورات، وهو اختلاف صحي يخلق التنوع المطلوب، وعليه فإن مؤشر نجاح أحزاب يناير في الحفاظ على وحدتها التنظيمية يرتبط بقدرتها وتسليمها لفكرة “الأجنحة”، فطبيعي أن تكون هناك أجنحة مختلفة داخل كل حزب سياسي، تختلف في التصورات لكنها تتفق على وحدة الحزب واستمرار عمله وقدرته على تقديم البدائل السياسية والاقتصادية، إذا نجحت أحزاب يناير في استيعاب فكرة وجود أجنحة داخل كل حزب تختلف للصالح العام، وتحترم وحدة الحزب ولا تسعى للانقسام والانشقاق ستقدم هذه الأحزاب نموذجا فريدا ومختلفا في العمل السياسي، وستنجح في تجاوز الكثير من مشكلاتها وأزماتها التنظيمية والداخلية التي تنتج عن الاختلاف في التصورات ووجهات النظر، لا سيما أن المستقبل سيكون ملك لهذا التيار الشاب الذي يتشكل داخل أحزاب يناير ويحاول طرح رؤاه وتصوراته داخل كل حزب.
المؤكد أن تغير المناخ العام لمزيد من الحرية والانفتاح سيمنح أحزاب يناير مزيدا من القدرة على الحركة والتأثير، وسيقلل من خلافاتها التنظيمية لصالح العمل والحركة والخروج من المقرات إلى الشارع في مؤتمرات وندوات ولقاءات مباشرة مع الناس، وهذا هو الدور الحقيقي لأي حزب سياسي، والحقيقة أنه لا أحد قد اختار مناخ الاستبداد الحالي إلا السلطة القائمة، مع أن الجميع قد دفع ثمنه بما فيهم السلطة ذاتها، التي نالت منها خارج مصر وفي العالم سهام النقد والاتهام بالديكتاتورية وبتقييد الحريات.
سيساهم التيار الشاب داخل أحزاب يناير في بناء مستقبل مصر السياسي، وسيضيف إلى الحياة العامة من روحه وأحلامه وطموحه وقدرته على الفعل والتأثير، المهم أن تحتفظ أحزاب يناير بوحدتها وبقدرتها على الفعل، وبالتزامها الدائم بمعارضة جادة وقوية لصالح البلد وأهله، فما زالت الناس تتلقف كل الأصوات الصادقة وتحترمها وتقدرها وتنحاز إليها، رغم بؤس المناخ العام الذي نعيشه.