عرفت مصر مراجعة ما بعد هزيمة 67 ولم تعرف بعد مراجعة ما بعد ثورة يناير، فالمؤكد أن أي حدث استثنائي سواء كان ثورة أو انتفاضة أو انقلاب يتطلب مراجعة نقدية لمعرفة أسبابة، فمثلا مشهد تنحي الرئيس مبارك عقب يناير يتطلب مراجعة النظام القائم للأسباب التي أدت إلى حدوث هذه الثورة لتلافي تكراراها، ويتطلب من القوى التي قامت بها مراجعة أخطائها في حال تعثرت هذه الثورة في تحقيق أهدافها.

اقرأ أيضا.. مراجعات ما بعد هزيمة 67

والحقيقة أن حدث يناير لم يؤد إلى المراجعة المطلوبة سواء بالنسبة لمنظومة الحكم أو للقوى السياسية، فقد اعتبرت الأولى أن مبارك سقط بسبب الهامش الذي أعطاه للمعارضة والحركات الاحتجاجية وللصحافة والإعلام، ولم تنجح حتى الآن كل محاولات إقناع الحكم بإنه بفضل هذا الهامش بقى مبارك في السلطة 30 عاما وأن المطلوب هو توسيعه لا فرض قيود صارمة عليه.

ويمكن القول إن الحكم في مصر أجرى مراجعة عكسية لدلالات يناير فبدلا من توسيع الهامش السياسي ودعم الانتقال الديمقراطي ودولة القانون، اعتبر أن الأولوية لمحاربة الإرهاب والتنمية الاقتصادية، فنجحت مصر في الأولى وتعثرت في الثانية وظلت مراجعة أسباب انتفاضة الناس في يناير غائبة.

المؤكد أن مراجعة يناير تطلب دعم الشفافية والحوكمة ودولة القانون لا التراجع عنهم، وتطلب أيضا رقابة شعبية على الأداء العام للحكومة ومناقشة كل المشاريع التي تنفذها سواء عرفت باسم المشاريع القومية أو كانت مشاريع في حي، وهي كلها أمور طالب بها الناس ولم يستمع لهم.

أخر خطاب لمبارك قبل التنحي
أخر خطاب لمبارك قبل التنحي

مراجعات يناير تطلب دعم الوسيط السياسي والحزبي والمبادرات الأهلية، فقبل ثورة يناير كان هناك نظام سياسي قائم على التعددية المقيدة، وكانت هناك دائرة سياسية تحكم اعتمدت على أدوات كان عليها تحفظات كثيرة وعلى رأسها حزب الأغلبية في ذلك الوقت الوطني الديمقراطي، فقد انتقد لضعف أداءه وتورط بعض قياداته في فساد إلا إنه ظل أداة سياسية ولو “معيوبة” ووسيط ناقص الكفاءة بين السلطة والناس ضم بجانب الفاسدين قيادات إصلاحية تكلموا عن الإصلاح السياسي والديمقراطي ولم يعتبروها مؤامرة خارجية، وعرف نواب خدمات “ولاد بلد” يحلون مشكلات الناس اليومية معتمدين على قاعدتهم العائلية أو القبلية أو المالية وليس فقط رضا الأجهزة عنهم التي دعمت مؤخرا من لديهم موهبة “السمع والطاعة” حتى لو لم يكن لهم أي قاعدة شعبية.

كان يفترض أن يراجع الحكم أداء أدواته السياسية والحزبية ويتلافى عيوب الحزب الوطني ويفصل بين أحزاب الدولة وأجهزتها ويقوي من دورها ويفعل نشاطها، ولكن ما حدث هو حصار لأحزاب المعارضة وإلغاء لهامش الاستقلالية الذي تمتع به الحزب الحاكم عن أجهزة الدولة، وأصبحنا أمام مشهد سياسي وبرلماني سابق التجهيز وموجه من قبل هذه الأجهزة.

أما بالنسبة للقوى السياسية وخاصة التيارات الاحتجاجية والثورية التي أشعلت ثورة يناير، فقد حدثت مراجعة من قبل البعض وتمسك البعض الآخر بنفس مقولاته القديمة كما حافظ الإخوان على نفس عادتهم بغياب المراجعة والنقد الذاتي والاعتراف بفشلهم في الحكم وإدارة الدولة.

المراجعة المطلوبة من القوى السياسية عقب يناير أو بالأحرى درس يناير يقول إن عدم وجود قاعدة متوافق عليها بين القوى السياسية المدنية سيدفع الناس إلى البحث عن “المنقذ” الذي سيخلصهم من هذا الانقسام والفشل، وغالبا ما يكون في بلد مثل مصر قادم من المؤسسة العسكرية ويكون الجيش هو البديل للفشل السياسي المدني.

فإقصاء الحزب الوطني وليس الفاسدين من الحزب الوطني، وحملات “امسك فلول” عقب يناير، فرغت جانب كبير من المشهد السياسي لصالح الإخوان أولا ثم الجيش ثانيا، والمطلوب حاليا هو مراجعة ما جرى في 2011 حين فشلت القوى السياسية المدنية في التوافق على قواعد اللعبة السياسية واستبعدت القوى المحافظة والتقليدية واعتبرتها جزء من النظام القديم، وغطت المزايدات السياسية والفاعليات “الثورية” شبة اليومية على أي مشاريع بديلة للنظام القديم قادرة على الإنجاز وحل ولو جانب من مشاكل الناس، وهو ما جعلهم يراهنون على “الجماعة المنظمة” أولا ثم “المؤسسة المنظمة” ثانيا.

والمؤكد أن المراجعة المطلوبة حاليا تقول إن بقايا الحزب الوطني حتى لو مثلها نجلي الرئيس مبارك بعد نهاية مشروع التوريث، تجعلهم جزء من أي مشهد جديد دون أي إقصاء، والكلمة ستكون للشعب في اختيار حر وديمقراطي، كما مطلوب من الاتجاهات المدنية أن تؤسس لخياراتها الإصلاحية بشكل أكثر استقلالية عن أجهزة الدولة، لأن هذه الاستقلالية ستعطيها مصداقية لازالت تخيف الدولة لرغبتها في السيطرة على المشهد السياسي، في حين أنها تمثل الطريق الآمن لدعم الخيارات الإصلاحية للبلاد.

قبول التمثيل السياسي المتنوع لرجال الأعمال والطبقات الوسطى والعمالية على أرضية مدنية يكون فيها حضور للجميع من بقايا الحزب الوطني واليسار واليمين، ويمكن قبول أحزاب سياسية مدنية لديها مرجعية إسلامية وفق المادة الثانية من الدستور كما هو حادث بالفعل، ولكن لا يمكن قبول جماعة دينية عقائدية تمتلك ذراع سياسي شكلي وتدخل المجال السياسي المدني بشروط الجماعة الدينية وليس الحزب السياسي كما فعل الإخوان المسلمين، وأخيرا مطلوب التوقف عن وصف القوى المحافظة والتقليدية على أنها ثورة مضادة وهو تعبير يتم استدعاءه من متاحف التاريخ ولم تعرفه كل تجارب التغيير الناجحة في النصف قرن الأخير، التي اعترفت بوجود القوى المحافظة التي تكره الثورة وتميل للاستقرار وبجانبها كانت هناك قوى ليبرالية ويسارية.

مراجعة ما بعد يناير قامت بها بخجل بعض القوى السياسية ولكن مراجعة الحكم كانت في عكس الاتجاه الصحيح.