لا أحاول هنا التأريخ لثورة يناير، أو أحداث يناير (حسب موقفك منها وتعريفك لمفهوم الثورة)، فهذا له مقام آخر غير هذا المقال، ولكني أحاول مقاربة الظاهرة بعد مُضي أحد عشر كوكبًا على إشراقها وتمام تجليها للعالمين.

لم تكن يناير ثورة دعا إليها زعيمٌ سياسيّ أو اجتماعيّ بما لديه من خبرة وبصيرة، كما لم تكن ثورة أعدتْ لها نخبة مستنيرة على مستويات الإعلام والتعليم ومراكز التثقيف، ثم بلورت أهدافها وحددت مطالبها، على ما تعرف أنتَ من تاريخ ثورات الشعوب ومقدماتها. لم تكن يناير من هذه ولا تلك، ولكنها ثورة شعبية، شحذ نورَهَا ضميرُ أمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، وتُدرك بما لديها من خبرة حضارية مختزنة بما يجب عليها فعله، فتهبّ إلى إنفاذ إرادتها في الوقت الذي تراه أو تحدده.

لقد كشفت يناير للداخل والخارج عن وعي شعبيّ نافذ؛ يُدرك عمق الأزمة وخطر استمرار الأوضاع على ما هي عليه، كان كلُّ شيء جامدًا، وكأنّ نهر الحياة قد نضب، كان شعار الاستمرار والاستقرار هو الشعار المعلن من قبل النظام الحاكم، وما الاستقرار إلا استقرار الحكم، ما الاستمرار إلا استمراره؛ كانت الشمس تشرق وتغرب على مزيد من المصائب والكوارث اليومية، وكلما عالج الناس جراح كارثة جاءت أختها أشد وأقسى، بالتأكيد حاول المسؤلون تفسير الأمر دائمًا باعتباره عاديًّا وأنّ العالم كله لا يخلو من الكوارث، وزادوا في التضليل حين اعتبروا الكوارث قَدَر الله الذي يجب القبول به والرضا عنه.. وكان هذا مما يجب أن تهتزُّ له الأرض وتخرّ له الجبال هدّا..!

واهتزتْ الأرض..!

وهاهي ملايين الحناجر تهتف، وكلّ هتاف يعلن مطلبًا، وما أكثر المطالب والمظالم، وكلّ هتاف يعيد تشكيل خارطة الواقع لتصبح الملايين الهادرة، شيئًا فشيئًا، مركز المركز، وما سواها هامش الهامش، كانت الشعارات كثيرة متلاحقة، اختلفت مشاربها وغايتها حسب توجهات من يقفون خلفها وإيديولوجياتهم، ولكن شعارًا واحدًا كان كالجملة الجامعة، والحلم الشَّجيّ، بدلالته المكثفة وصياغته البسيطة المُحْكَمة، هذا الشعار هو:

“ارفع راسك فوق؛ أنت مصري”..!!

لم يكن مجرد شعار يُسجل مطلبًا محددًا يمكن الكلام حول إمكانية تحقيقه من عدمه؛ فهو لا يتحدث عن دعم رغيف الخبز، ولا يعلن سخطه على تآكل وسائل المواصلات، أو تراجع الخدمات العامة في كل مكان.. وإنما كان يترجم بعمق وبساطة عن الصورة الذهنية الرّاسخة التي يدركها المصريّ عن ذاته. إنه صاحب أقدم سردية تاريخية استثنائية؛ سردية حقيقية وليست متخيلة، ولا سبيل إلى إنكارها أو الشّك فيها، وهذه الآثار- على جانبي نهره الخالد- تحيط بها وتدلّ عليها وتبرهن على صدقها..!

وربما لهذا وغيره يأبى المصريّ أن يضع نفسه في قران واحد مع أيّ من الأمم التي تحيط به في الإقليم حتى في أحلك أيامه وأشدها قسوة. فتاريخه ووعيه يقول له كل لحظة: أنت لا تستحق كل ما يحدث، أنت لا تقلّ عن أي أمة متحضرة، كالألمان والإنجليز والفرنسيين.. يقول له: كل هذا الفشل لا يليق بك، وإنما يليق بهذه الطبقة العاجزة الفاسدة..!

“ارفع راسك فوق؛ أنت مصري”..!!

بهذه الصياغة ذات الدلالة الرّحبة خاطب الشعار عموم المصريين، ليدلّهم على الحقّ الذي يجب أن يكون، بقدر ما يدعوهم إلى التسامح والتَّرفع الذي يجب أن يتحلوا به حتى لا تذهب ريحهم؛ إنه شعار لا يعادي أحدًا، ولا يستثني فئة أو جماعة بعينها من المصريين، إنه يدعوهم جميعًا إليه، بقدر ما يدعوهم إلى أنفسهم ومصريتهم.. !

يبدأ الشعار بفعل الأمر الذي أصدره الوعي الجمعيّ المصريّ: ارفع رأسك لأنك مصري، ولأنك مصري فيجب أن ترفع رأسك، تساوي المقدمةُ النتيجة بقدر ما تؤدي إليها والعكس صحيح أيضًا.. وإذا كان الأمر كذلك فلا يجب أن تسمح لهذا الواقع الذليل أن يحول بينك وبين مكانتك التي أنتَ جدير بها.. وعليك إذن أن تغيّر كل ما يحول بينك وبين الحرية والكرامة، لكي تكون- قبل ذلك وبعده– جديرًا بمصريتك..!

لا يمكنك مقارنة هذا الشعار بغيره من الشعارات الأخرى- على أهميتها بالتأكيد- مثل شعار الثورة المركزيّ الذي وفد إلينا من تونس: “الشعب يريد إسقاط النظام” والذي يستند إلى ثقافة جمالية نوعيّة صاغها “أبو القاسم الشّابيّ” (ت1934م) بدمدمة موسيقية صاخبة:

إذا الشَّعبُ يومًا أراد الحياةَ

فلا بدّ أن يستجيبَ القدرْ

كما لا يمكنك مقارنته بشعارات الليبراليين والاشتراكيين العلمية حول: “العيش والحرة والعدالة الاجتماعية”.. وهي كلها شعارات مهمّة وعملية وواجبه، وتتصل مباشرة بإنجازات ملموسة يجب أن تتحقق على الأرض.. كل هذا لا خلاف عليه، ولكن شعار المصريين الأصيل: “ارفع راسك فوق..” كان يقف وحده في مستوى أعلى وأكرم؛ يحتوي مختلف الشعارات دون أن يحتويه أيُّ منها، ويرتفع بالجميع إلى “فوووق”.. إلى أفضية التاريخ والمجاز والحلم..!

لماذا كان ذلك؟

لقد وجد الشعب نفسه في عين العاصفة؛ بعد أن أُقْصِيتْ نخبتُه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتُرك وحده في الميدان، يختبر طاقاته وقدراته وقدرته على المناورة والمحاورة، ويحدد الأهداف، وما يمكن إنجازه في هذه المرحلة، وما لا يمكن إنجازه.. كان مطلبه واضحًا محددًا، لم يكن يطلب منًّا ولا عسلًا؛ فالناس تدرك ما تمرّ به بلدهم من مصاعب اقتصادية لا حَدّ لها، وهم على استعداد لتحمل الفاتورة كاملة كما لم يتحملها شعب آخر، ولكن هذه المصاعب لا يجب أن تحول بينهم وبين كرامتهم وحريتهم التي يمكن صياغتها في مفردات مفتاحية واضحة: سيادة الدستور والقانون والمحاسبة والشفافية أو باختصار: الديمقراطية وكل ما يتصل بها من قيم..!

كان هذا وعي الشعب الذي وجد نفسه وحيدًا منهكًا بعد عقود من الفساد والاستبعاد المتعمد لأي قيادة اجتماعية أو سياسية يبزغ نجمها، والنجم– بطبيعة الحال- لا يبزغ إلا إذا اقترب من حلم الناس، والتحم بفلكهم التاريخيّ الاستثنائيّ.. جاءت الثورة كشلال هادر، وصاغت شعاراتها التي تحدد- بشكل عام- برنامجها الإنساني العاجل والبسيط؛ وكثير مما طلبته الجماهير كان يمكن إنجازه في اليوم التالي..!

أحد عشر كوكبًا على يناير..!

أدري أن كثيرًا من الناس قد أصابها اليأس، وأنهم محاطون بما لا قِبَل لهم به من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وأدري أن كلامي السابق فيه قد كبير من الحماسة والعاطفة تجاه حُلمٍ كنا قاب قوْسٍ أو أدنى من إنجازه.. ورغم أن كثيرًا من اليأس لا يمكن للمرء إنكاره، إلا أننا لا يجب أن ننسى حقيقة يناير وما أنجزته على مستوى الوعي… فمن ذلك مثلًا أنها وضعت الجميع- بما أنجزته وبما أخفقت فيه- أمام مرايا طبيعية صافية، فلم نتعرف معها على عمق مشاكلنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فحسب، وإنما عرفنا معها أحجامنا الطبيعية بعد أُختبرت كل القوى: الأفراد والجماعات والهيئات؛ فلا سبيل أمام أحد- بعد يناير- أن يدّعي ما ليس له، أو يزعم قدرته على ما لا قِبَل له به.

وهذا الذي أنجزته يناير، بكواكبها السيارة حول الفلك المصري المشمس، لم يكن سهلًا، وليس لك أن تُقلل منه؛ لقد جاء فوق ماكينات جبارة عملت- على امتداد عقود طويلة- على تزييف الوعي وتجفيف منابعه، وإنهاك قواه.. جاءت يناير بالبشرى التي ابتعلت كل هذه الخيالات وتلك الأوهام..!

أنا الشعب..!

بالتأكيد كان يمكن أن ننزلق إلى ما لا قِبَل لنا به، وهذا لا ريب فيه، ولكن يناير المجيدة كانت تتحرك بجينات حضارية راسخة، فأنجزت ما عليها، ومنحتنا الفرصة كاملة كي نتمكن من الرؤية، وصار منجزها الآن جزءًا من الوعي الماثل والوعد الآتي.. وكما يُقال في المثل: كلُّ وعي آتٍ لا محالة..!