إذا حاولت، أن أجمل هذه التوقعات في هذا السطر الأول من المقال، تمهيدا لسرد التفاصيل والحيثيات، فهي أن البديل المطروح من اليمين الإسرائيلي؛ لتسوية القضية الفلسطينية أشهر إفلاسه نهائيا، وذلك بعد محاولة فرضه لمدة نصف قرن تقريبا، أي منذ تشكلت حكومة الليكود الأولى عام ١٩٧٧.

هذا البديل هو السلام مقابل السلام، على أنقاض مبدأ الأرض مقابل السلام، الذي بدأت على أساسه عملية السلام إثر حرب أكتوبر ١٩٧٣، والذي استثمر فيه العالم جهودا مضنية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وصولا إلى تحقيق الاعتراف المتبادل بين إسرائيل، وبين منظمة التحرير الفلسطينية، وإلى إقرار مبدأ حل الدولتين، ومرورا بالطبع بمحطة أوسلو.

لا يهمنا كثيرا استعراض وقائع وسياسات، بل ونجاحات هذا اليمين الإسرائيلي تحت قيادة زعمائه التاريخيين الثلاثة، بيجين، وشامير، ونتنياهو في تقويض معادلة الأرض مقابل السلام، فهذه أصلا أيديولوجية تلك الأحزاب، منذ بداية الحركة الصهيونية، بمعنى أنه في عقيدتهم فلا حق لغير اليهود في امتلاك الأرض بين نهر الأردن، والبحرالمتوسط، والسيادة عليها، فإذا وجد فيها غير اليهود، فهم سكان مؤقتون، ينبغي تهجيرهم طوعا أو قسرا، وهو ما يسمونه الترانسفير، أما أبرز نجاحات هذه الأحزاب الحاكمة مؤخرا، فكانت تطبيع العلاقات مع دول الخليج والمغرب والسودان، والاقتراب بصورة حاسمة من التطبيع مع السعودية نفسها، وذلك دون تنازل عن شبر واحد من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودون أدنى التزام بحل الدولتين، بل على العكس، كان نتنياهو، لا يكف عن التباهي، بأنه هو وحده القادر على أن يحتفظ بالأرض، ويجلب السلام للإسرائيليين.

ليست عملية طوفان الأقصى- التي فاجأت بها حركة حماس كل إسرائيل مفاجأة كارثية وفاضحة، وهي في ذاتها إنجاز هائل- هي ما قوض معادلة السلام مقابل السلام كرؤية قابلة للتنفيذ، والاستمرار، ولكن أجهزت عليها تطورات، ومجريات حرب الانتقام  المجنونة التي أعلنتها حكومة تل أبيب على قطاع عزة، بل والأهم نكسات هذه الحرب  العسكرية، والاستراتيجية المدوية، وعواقبها الوخيمة على الحياة السياسية، والاجتماعية في الدولة اليهودية، وكذلك آثارها اليقينية شديدة السلبية على صورة وسمعة ومكانة إسرائيل، وحلفائها في العالم ، بما فيه الشعوب الأوروبية والشباب الأمريكي.

من المتفق عليه، أن كل ذلك ما كان يمكن أن يتحقق، لولا أن مفاجأة صمود، وتصدي المقاومة في غزة طوال أكثر من مائة يوم، وقدرتها على تكبيد الجيش الاسرائيلي خسائر موجعة، لم تقل في وقعها، وإرباكها للقيادتين السياسية والعسكرية، الإسرائيليتين عن مفاجأة طوفان الأقصى الأصلية، ولن نكرر هنا، ما سبق وقيل على ألسنة وزراء في حكومة الطوارئ الحالية، وأيضا في تصريحات ونقاشات برلمانية لسياسيين، وبأقلام كتاب ومعلقين، ولكن ما ظهر من مؤشرات في اليومين الأخيرين قبل كتابة هذا المقال يوم الخميس الماضي، ينبئ بقوة، أن العد التنازلي؛ لتغيير المسرح السياسي في إسرائيل قد بدأ، وإن هي إلا مسألة وقت، وبالأحرى ماهي إلا أن تسكت المدافع،  حتى تندلع حروب الجنرالات، وحروب الساسة، حتى داخل حزب نتنياهو نفسه (أي الليكود) بمشاركة واسعة، وقد تكون حاسمة من اليهود الأمريكيين، ومن الإدارة  الأمريكية نفسها، كما حدث من قبل في عدة سوابق، سنشير اليها فيما بعد.

أهم تلك المؤشرات، وبعد يوم واحد من تكرار رئيس الوزراء، ووزرائه المتشددين رفض الدخول في اتفاق هدنة جديد، ومؤقت، يتضمن تبادل أسرى فلسطينيين مع محتجزين إسرائيليين في غزة، كان الجيش الإسرائيلي هو نفسه الذي ضغط من أجل الاتفاق على هذه الهدنة؛ لتحرير المحتجزين، وبحيث تستمر هذه الهدنة شهرين كاملين، وهي مدة تكفي للاستنتاج، أن الوسيط الأمريكي الناشط في الشرق الأوسط حاليا، يحاول الاقتراب من شروط حركة حماس، التي لا تزال ترفض مبدأ الهدنة قصيرة، أو طويلة، وتصر على وقف كامل لإطلاق النار إلى أجل غير مسمى.

بالطبع، فإن الأصول الدبلوماسية، خاصة في عمليات الوساطة، تقتضي ألا يُعطي كل طرف كل ما يريده، وأن تترك لسياسات الغموض البناء بعض المساحات، بمعنى أنه خلال هدنة الشهرين سوف تطرأ، حتما متغيرات تتيح مد هذه الهدنة، وإطلاق مسارات جديدة، يشارك في تمهيدها حاليا وسطاء فاعلون كثر، منهم- بالإضافة إلى مصر وقطر وأمريكا- السعودية والاتحاد الأوروبي.

غير أنه يسبق هذا كله إطلاق التفاعلات السياسية داخل إسرائيل، والتي ذكرنا، منذ قليل، أنه ستشارك فيها واشنطن واليهود الأمريكيون، بحيث تنتهي بسقوط حكومة نتنياهو، وسقوطه هو نفسه على خلفية التقصير، الذي تسبب في كارثة السابع من أكتوبر، وسوء إدارة الحرب سياسيا وعملياتيا، على نحو ما رأينا، وما يرى غيرنا، فضلا عن تسميمه للحياة السياسية في البلاد طيلة العام السابق على هجوم حماس؛ جراء خطته لتدجين السلطة القضائية، وتحصين وظيفته، وشخصه ضد المساءلة القانونية، وحيث أنه ليس من المرجح، أن يحل الكنيسيت نفسه، ويدعو الي انتخابات جديدة- كما تدعو المعارضة- بالسرعة الكافية لإدارة الأزمة الحالية مع الفلسطينيين، وبقية الإقليم والإدارة الأمريكية، فالأرجح إما أن يقال نتنياهو من زعامة الليكود، وبالتالي من رئاسة الحكومة، وإما أن ينشق عليه ليكوديون ونواب تابعون لأحزاب أخرى مشاركة في حكومته، لتسقط هذه الحكومة في اقتراع بسحب الثقة، مخلية مكانها لائتلاف آخر، يدير الأزمة، ويمهد للانتخابات الجديدة.

هذه هي حيثيات، وتفاصيل إشهار إفلاس مذهب السلام مقابل السلام، الذي حاول اليمين الإسرائيلي فرضه على الفلسطينيين، والدول العربية، ورغم ما قد يبدو في هذا التقدير من نبرة تفاؤل، فمن المهم أن نتذكر أن كثيرا ما يتردد الزعماء الإسرائيليون في اللحظة الأخيرة في إبرام الصفقة؛ خوفا من مصير إسحق رابين، الذي اغتاله المتطرفون بتحريض نتنياهو شخصيا بدعوى، أنه يتنازل عن أرض إسرائيل للفلسطينيين من خلال اتفاق أوسلو المتواضع!!! .

لن يكتمل هذا العرض للتوقعات الكبرى في الأزمة الحالية في إسرائيل، دون ذكر سابقة الإطاحة بنتنياهو؛ لصالح حكومة إيهود باراك العمالية في أواخر القرن الماضي، وذلك في انقلاب انتخابي، تعاونت فيه واشنطن واليهود الأمريكيون، والدولة العميقة في إسرائيل، ولكن باراك خذل الجميع؛ فأسقط حكومته؛ لكيلا يبرم الصفقة التاريخية في طابا مع الفلسطينيين، كذلك كان ترتيبا مماثلا، هو ما أسقط إسحاق شامير، وجاء برابين عام ١٩٩٥، وكان شامير نفسه هو من أعلن ذلك بنفسه عشية ظهر النتائج.

ولن يكتمل هذا العرض أيضا، دون أن أعيد ما سبق أن قلته هنا في مقال، نشر في نوفمبر الماضي من أن إسرائيل لم تحقق في جميع الحروب التي خاضتها بعد حرب ١٩٦٧ نصرا عسكريا، واستراتيجيا حقيقيا، وقد تسمحون لي، بأن أرجوكم إعادة قراءة ذلك المقال، وكان بعنوان:”في إسرائيل أيضا: السياسة تخذل السلاح“، فقد تتفقون معي، على أن إسرائيل في أزمة وجودية، لا حل لها سوى التفاهم مع الفلسطينيين أصحاب الحق، والقضية الأصليين، وليس أمامها سوى ذلك مهما يطل الوقت.