كان كل أهل القانون والحقوقيين متشوقين بالفعل حال مناقشة تعديلات قانون الإجراءات الجنائية، وبشكل خاص، ما هو متعلق بإعمال الالتزام الدستوري وفقا لنصوص الدستور المصري في نسخته الأخيرة، بأن تكون هناك محاكم استئنافية لأمور الجنايات، وهو الالتزام المرتبط بتحقيقه خلال عشر سنوات من إقرار الدستور الأخير، وإن كان قد تم ذلك في الرمق الأخير، وفي دور الانعقاد الأخير لمجلس النواب، إلا إنه على كل حال، قد تم، وتحقق ذلك الالتزام، ولكن هل جاء ذلك التحقق، بما يكفل ضمانات المحاكمة العادلة، وما يتوافق ما التزمت به مصر من اتفاقيات، وعهود ومواثيق حقوقية، أم أن الأمر تم قد على النحو الذي ترغبه السلطة وترضاه.

وجاء في المادة الأولى، لـ القانون رقم ١ لسنة ٢٠٢٤، الخاص بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية، “تستبدل عبارة محكمة جنايات أول: درجة بعبارة «محكمة الجنايات الواردة في المواد (۱۱، ۱۵۹، ۱۵۸، ۱۵۹، ١٦۷ فقرتان أولى وثانية، ۲۱۰، ۲۱۱، ٢١٤، ٢١٦، ٢٧٦ مكررا، ٣٨٤، ۳۹٤، ۳۹۷، ٥۲۹، ٥٣٦ )، وعبارة «محكمة الجنايات بدرجتيها بعبارة «محكمة الجنايات» الواردة في المواد (۱۳)، ١٦٧ فقرة خامسة، ٥٢٤ ). وعبارة «المحكمة الجنايات المستأنفة، وللدائرة الجنائية بمحكمة النقض» بعبارة «للدائرة الجنائية بمحكمة النقض» الواردة في المادة ۱۲، وعبارة محكمة الجنايات المستأنفة بعبارة «الدائرة المختصة الواردة في المادة ١٦٧ فقرة أولى، وعبارة محكمة جنايات أول درجة بدائرة محكمة استئناف القاهرة» بعبارة “محكمة جنايات القاهرة» الواردة في المادة ۲۱۹، من قانون الإجراءات الجنائية، كما يستبدل بنص الفقرة الثانية من المادة ۱۵۱ من قانون الإجراءات الجنائية.

وهذا هو الهدف المطلوب من الالتزام الدستوري، ولكن ما بداخل نصوص هذا القانون، ما يتعارض مع الهدف من تحقيق المحاكمة العادلة، والحق في الدفاع بشكل رئيسي، وهذا الأمر هو ما أوضحه تقرير لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية الصادر عن مشروع ذلك القانون المقدم من الحكومة، والذي جاء فيه، أن الهدف من وراء إصدار ذلك القانون، كان لتحقيق عدة أهداف أبرزها العدالة الناجزة، وتطبيق أفضل صورها، وكذا تخفيف العبء على محكمة النقض، ويهدف كذلك إلى وضع أفضل الضمانات للمتقاضين؛ نظرا لخطورة الجنايات، وآثارها على المتهم وذويه.

ولكن جاء نص المادتين 375 ، 419 مكررا/ 9، بما يتناقض بشكل أو بآخر مع ضمانات الحق في الدفاع، بحسبها أهم ضمانات المحاكمات العادل، حيث نصت المادة 357 المستحدثة، على أنه “فيما عدا حالة العذر أو المانع الذي يثبت صحته، يجب على المحامي سواء أكان موكلاً من قبل المتهم، أم كان منتدباً من قبل النيابة العامة، أو قاضي التحقيق، أو رئيس محكمة الجنايات بدرجتيها، أن يدافع عن المتهم في الجلسة، أو أن ينيب محامياً غيره، وإلا حكم عليه من محكمة الجنايات بدرجتيها بغرامة، لا تتجاوز ثلاثمائة جنيه، مع عدم الإخلال بالمحاكمة التأديبية، إذا كان ذلك مقتض”. ثم جاءت الفقرة الثانية من المادة 419 مكررً/ 9 من أنه ” عدا تخلف المحكوم عليه، أو وكيله بغير عذر عن الحضور في الجلسة المحددة لنظر الاستئناف، أو في أي جلسة تالية، تندب له المحكمة محامياً؛ للدفاع عنه وتفصل في الاستئناف”.

ويعد الحق في الدفاع من الحقوق الأساسية للإنسان التي لا يجوز، أن ينتقص منها أو يتم التضييق عليها، ولا يملك المشرع سوى إقرارها بشكل يحقق التوازن بين حقوق الأفراد، وحرياتهم وبين مصالح الدولة، وهذه المكنات تخول للخصم إثبات ادعاءاته القانونية أمام القضاء والرد على كل دفاع مضاد في ظل محاكمة عادلة يكفلها النظام القانوني، وقد تعرضت المحكمة الدستورية العليا في العديد من أحكامها لمضمون الحق في الدفاع، وقد قالت في ذلك المعنى في القضية رقم 6 لسنة 13 دستورية، وذلك في عصر المحكمة الذهبي، إبان تولي رئاستها المرحوم المستشار/ عوض المر بقولها، إن “ضمانة الدفاع هذه هي التي اعتبرها الدستور ركنا جوهريا في المحاكمة المنصفة التي تطلبها في المادة 67 منه كإطار للفصل في كل اتهام جنائي تقديرا، بأن صون النظام الاجتماعي، ينافيه أن تكون القواعد التي تقررها الدولة في مجال الفصل في هذا الاتهام مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، وانطلاقا من أن إنكار ضمانة الدفاع، أو فرض قيود، تحد منها، إنما يخل بالقواعد المبدئية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة، والتي تعكس نظاما متكامل الملامح، يتوخى صون كرامة الإنسان، وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته، دون إساءة استخدام العقوبة، بما يخرجها عن أهدافها. كما ينال الإخلال بضمانة الدفاع من أصل البراءة”.

ويمثل ذلك قيمة ومبدأ أساسياُ، وخصوصاً في ارتباطه بقرينة البراءة، وهو أحد المبادئ الأصولية التي ترتكز عليها حقوق الإنسان؛ فمجرّد توجيه الاتهام إلى شخص معيّن بارتكاب جريمة، لا يعني ثبوت إدانته، وصفته كمتّهم، لا يقوم إلا متى توفرت دلائل جديّة على ارتكاب الجريمة، وصدور حكم بات بالإدانة بعد توفّر الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه، ويتطلّب احترام هذا الأصل ضمانات لحماية الحريّة الشخصيّة للمتّهم، ويلتزم القاضي بضمان هذه الحريّة بعدم الخروج عن الإطار الذي حدّده قانون الإجراءات الجزائية؛ لتطبيق العقوبات والإطار الذي حدّدته الاتفاقيّات، والإعلانات الدولية التي تبناها المشرّع.

وإذ أن الحق في الدفاع كما أكدته العديد من المواثيق والاتفاقيات الحقوقية، يعد حقاً مطلقاً للمتهم، فلا يجب من الأساس، جبره على الاختيار، بل أن حقه يبدأ من نقطة تخير المحامي المدافع عنه، وبالتالي فإن أمر انتداب، أو ندب محام من قبل الهيئات القضائية أمراً في أساسه، قد جٌعل من أجل مساعدة غير القادرين على توكيل مدافع لهم، لكن أن يمتد الأمر في حالة تغيب المحامي، أن يكون الندب هو البديل، فإن ذلك يتنافى بشكل قاطع، ويقيني مع دلالة الحق في الدفاع، كما أنه يمثل جبراً على إرادة المتهم.

ومن ناحية ثانية، فإن ما جاء بالمادة 375، من أنه على المحامي، أن يدافع عن المتهم في الجلسة، فإن العدالة الناجزة، لا تعني فقط سرعة المحاكمات، بل الأكثر فيه ضمان تحقيق الحق في الدفاع بكل مقتضياته من اطلاع على ملف القضية، وأخذ الوقت اللازم، والكافي لتحقيق دفاعه، وكذلك مستنداته، أما فكرة الإجبار التي يوحي بها اللفظ الوارد بنص المادة، فهذا قد يؤدي إلى تفريغ التعديل التشريعي من هدفه المطلوب، وقد يكون جائراً في حقوق المتهمين في تخير دفاعاهم، بما يتناسب مع قناعتهم، وكذلك أمر الندب وحدوده، وحدود فكرة الدفاع ومعاقبة المحامين، يؤثر على حسن سير العدالة.