كثيرة هي المناكفات التي كانت تثار أحيانا كثيرة بين أنصار الدولة العميقة في بعض البلدان العربية، ومنها مصر وبين منظمات حقوق الإنسان، وغيرها من المؤسسات، التي كانت تعتمد في ممارسة عملها على الدعم الخارجي، ونخص هنا بالذكر المنظمات الدفاعية، المعنية بحقوق الإنسان، والحريات العامة في الوطن العربي. ولأن تلك المنظمات كانت دوما تنتقد الممارسات الحكومية التي كانت تقود عمليات انتهاك الحق في الحياة، والعيش بشكل كريم، ولأن تلك المنظمات كانت لا تترك شاردة وواردة في المعاملات الحاطة بالكرامة، وسلب الناس حقوقهم في سجون غير إنسانية، وتنتقد الملاحقات، وعمليات الاعتقال والحبس الاحتياطي، والاحتجاز والاختفاء القسري وانتهاك حقوق المرأة، (لذلك) كثيرا ما وجِه لتلك المنظمات اتهامات، بأنها تدار من خلال عمليات التمويل الأجنبي من قبل النظم السياسية في الغرب بشكل مباشر، أو من خلال منظمات حقوقية أوروبية، وأمريكية ليست بعيدة عن تلك النظم، وقد وصل الأمر لحد اتهامها بالعمالة للخارج، وأنها ذراع أجنبي في تلك البلدان.

لكن ما شهدناه اليوم، ولا زال، من رد فعل لعديد البلدان التي تنتمي للغرب حضاريا، وليس جغرافيا، ما يعني ضم اليابان وأستراليا إلى بلدان غرب أوروبا، والولايات المتحدة وكندا، غريب، إزاء العدوان الهمجي البربري على قطاع غزة من قبل المحتل الأجنبي الصهيوني، هو بلا شك يعبر عن انحياز غير مبرر للكيان الصهيوني الغاصب في مواجهة أصحاب الأرض.

هنا يحضر القارئ دوما سجل تلك البلدان، والمنظمات الغربية للبلدان النامية عامة والعربية، خاصة لنقد حالة حقوق الإنسان في تلك البلدان. صحيح أن تلك الحالة ليست مرضية إلى حد كبير، لكن الأهم هنا رصد أن ما تقوم به إسرائيل اليوم، وأمس من أعمال القتل والتهجير وتعذيب وتشريد السكان وسجن المقاومين، دون توفير أدنى حقوق لهؤلاء السجناء، ونهب الثروات، وتدنيس المقدسات عامة والحرم الشريف، خاصة، وكلها ذلك يتم جهارا نهارا، دون خجل أو إنكار عكس ما يفعل المتسلط العربي في انتهاكاته للحقوق والحريات، كل هذه الأمور إنما تعبر عن حالة انفصام غريب، خاصة بعد ما شهدناه من صمت مريع لضرب، وقصف آلاف المنازل بغزة، وتدمير المستشفيات والمدارس والحصار والتجويع العمدي المُطبِق على قطاع غزة، ضمن سياسة عقاب جماعي منظم، كل ذلك يجعل كل أصحاب الضمائر الحية في الغرب، يتوارون خجلا من سياسات حكوماتهم وبرلماناتهم والعديد من نخبهم الصحفية والإعلامية. وقد وصل أمر التفرقة بين رد الفعل إزاء الطرفين المتنازعين في الصراع العربي الإسرائيلي، إلى الحد الذي قامت بعض تلك البلدان الغربية (الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا)، ليس فقط بمد المعتدي الأجنبي الاستيطاني بالسلاح والعتاد، بل وأيضا قيام بعضهم بتقليب حركات المعارضة، في الداخل العربي، خاصة وعديد بلدان العالم الثالث عامة، على النظم الحاكمة (وبعضها نظم تسلطية بالفعل) بمدها بالمعونات اللازمة لهز الاستقرار والأمن، وتركها للخراب، ولعل بعض صنيعتها من الجماعات الإرهابية التي باتت تمخر في أمنها، كما يمخر السوس في العظام (حالات العراق وسوريا وليبيا نماذج واضحة) خير دليل على ذلك. وهو ما ساهم في بعض مناطق المعمورة في تأسيس نظم سياسية عميلة، والإطاحة بنظم شعبوية (حالة شيلي وفنزويلا ونيكاراجوا وبعض الدول الإفريقية).

لم يكن هذا الانحياز معبرا عنه في رفض عديد من تلك البلدان وقف إطلاق النار في الحرب في غزة، رغم قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التالية. وحتى بعد أن طلبت بعض تلك الدول على مضض تهدئة الأوضاع، إضافة كلمة “إنساني” لجملة وقف إطلاق النار، أو ذكرت كلمة “هدنة” بدلا من الوقف الشامل لإطلاق النار. بل تجاوز ذلك الأمر في سياسات على الأرض داخل تلك البلدان، من خلال السعي لقهر المظاهرات التي كانت تجوب شوارع وميادين دول أوروبية عديدة، وتعزل وتجبر مديري جامعات على الاستقالة، وتحجر على عديد المقالات في الصحف، وتحجب آراء واردة في المواقع الإلكترونية عبر شبكات التواصل الاجتماعي…إلخ.

على أن ما أثار الاستغراب أكثر وأكثر، هو ذلك الذي عبرت عنه مؤخرا عديد المواقف المنبثقة عن جهات التمويل الغربية لمنظمات المجتمع المدني العربية، والتي هالها مساندة منظمات حقوق الإنسان العربية للشعب الفلسطيني الغارق في أوحال النازية الصهيونية. فبمجرد أن قامت بعض من تلك المنظمات بالتنديد بالعدوان الصهيوني، ودعم المقاطعة الاقتصادية للكيانات والمؤسسات، وسلاسل الإمداد والتوريد الداعمة لإسرائيل، حتى كشرت تلك المنظمات والبلدان الممولة للمنظمات العربية عن أنيابها، وهددت بقطع المعونات عنها، مشيرة بأن هذه المسالك غير متفق عليها، وخروج عن السياق المرسوم لتلك المنظمات، وكأن تلك المنظمات، والعديد منها منظمات وطنية، تعمل كوكلاء للاستعمار الجديد في تلك البلدان.

خذ على سبيل المثال لا الحصر، ما ذكر على لسان الباحث المغربي إدريس الكنبوري، فيما نشرته اللوموند الفرنسية، أنه وفقا لتصريحات مسئولي المجتمع المدني في مصر ولبنان وفلسطين والأردن، فإن بلدانا أوروبية تضغط على جمعيات المجتمع المدني في الدول العربية عن طريق المال؛ لكيلا تبدي مواقف ضد العدوان الصهيوني على غزة. وقد أشارت اللوموند، أن ألمانيا أوقفت الدعم المالي لمركز الدعم القانوني للمرأة المصرية في نوفمبر الماضي إثر توقيع المركز على بيان ضم 200 جمعية عربية، تندد بالإجرام الصهيوني، مشيرة إلى أن وزيرا ألمانيا قال بالحرف، “أن ذلك البيان مخالف للخط الذي تسير عليه برلين، وخاصة الدعوة إلى المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل”. أما السويد فقد خاطبت المنظمات المدنية الفلسطينية مباشرة، بأن عليها إدانة حماس، أما سويسرا فأوقفت تعاقداتها مع ثلاث منظمات فلسطينية، لأنها لم تقم بإدانة المقاومة. أما الاتحاد الأوروبي فقد أضاف إلى جميع العقود الموقعة مع الجمعيات العربية بندا جديدا، ينص على أن تلك المنظمات يجب ألا تدعو إلى العنف أو الكراهية. والمقصود بذلك (حسب الكنبوري) حق مقاومة المحتل الأجنبي. على هذا الأساس، فإن جمعيات حقوق الإنسان في العالم العربي مهددة بفقدان الدعم المالي، إذا لم تساير الخط السياسي للممولين في الصراع العربي الإسرائيلي.

هكذا وصل الحال بعديد الداعمين في الغرب من الدول، والمنظمات الذين يوجهون أموالهم لمنظمات بعينها في المنطقة العربية من حالة تفرقة وتمييز، وهو ما يستدعي أن تتخذ المنظمات العربية (دفاعية وغير دفاعية) سياسات أخرى، وتتحرك وفق بدائل مغايرة على رأسها: –

1- الاعتماد قدر المستطاع على البدائل الذاتية للتمويل، من خلال الممولين المحليين من دافعي اشتراكات العضوية في تلك المنظمات، وكذلك تشجيع المانحين المحليين؛ لجلب أموال الوقف لتلك الجمعيات، وتجميع التبرعات، وتلقي الوصايا والعطايا من رجال الأعمال وغيرهم.

2- الضغط على الدولة الأم؛ للتخفيف من أعباء عمل تلك المنظمات، ومن ذلك رفع الأعباء الضريبية عنها، وكذا الإعفاءات الجمركية، وتسهيل قيام الجمعيات بمشروعات تلك المنظمات الخاصة بالخلاص من العوز والفقر، وهي أمور على أي حال تساهم في دعم الجهود الرسمية لتلك الدول.

3- في علاقاتها بالخارج يتحتم أن تتجه تلك المنظمات إلى عدة سبل، سواء في التعامل مع دول ومنظمات بعينها دون غيرها، أو في خطابها وشعاراتها (انظر توصيات مؤسسة نساء من أجل العدالة في مقال هشام جعفر “حان الوقت لإعادة ميلاد حركة حقوق الإنسان العربية بموقع الجزيرة نت”:

أ -التركيز في التعامل بشأن المِنح مع البلدان التي لم تتلون سياساتها بعد العدوان الصهيوني الهمجي على غزة، ويُخص بالذكر هنا أسبانيا والنرويج وبلجيكا.

ب- تركيز التعاون بين المنظمات العربية والمنظمات الموازية لذات التوجهات التحررية في الغرب كحركات الطلبة اليسارية، وجماعات السود في الولايات المتحدة، وغيرهم.

ج- استدامة رفع شعارات القانون الدولي الإنساني والاستعانة دوما بنصوصه، ومواده وفقراته خلال التحدث عن حقوق الإنسان وحرب غزة، لما في ذلك من سند مهم، يذكر المنافقين الغربيين بسياستهم التفريقية. أيضا من المهم التركيز على التفرقة بين معاداة الصهيونية والموقف من السامية، وكذلك التفرقة بين اليهودية كديانة سماوية، والجماعات الصهيونية الاستعمارية، وذلك كله حتى لا تتهم تلك المنظمات بالعشوائية، والتخبط في تحديد المعتدي الحقيقي على الحق العربي.