يحكي المؤرخون، أن وصول السلطان الظاهر برقوق في سنة 1382 الميلادية للحكم، كان بمثابة التأسيس الأول لمبدأ جديد في تداول السلطة بدولة المماليك الثانية (الجراكسة البرجية) لمؤسسها السلطان قلاوون، على خلاف المبدأ الذي كان سائدًا آنذاك، وهو مبدأ توارث السلطة بين أبناء الأسرة الحاكمة. كان برقوق ذكيًا بالغ الدهاء، إذ أظهر قناعته بدور الرجل الثاني الداعم دومًا لأبناء السلطان المؤسس، لكنه حَرِص في نفس الوقت على تأكيد سطوته، بأن وضع رجاله في مراكز السلطة ووظائفها العليا. فما أن جاء الوقت المناسب، إلا وقد قام بتنصيب نفسه سلطانًا؛ للسيطرة على الفوضى والاضطرابات التي وقعت؛ بسبب صِغَر سن الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان، الذي كان يبلغ من العمر حينها أحد عشر عامًا فقط. كان مِن بين رجال برقوق المؤتَمَنين، رجل صالح مخلص هو الأمير “يونس النوروزي”، الذي كان يشغل منصب “الدَوَادار”، وهو منصب إداري، يشابه في عصرنا منصب رئيس الديوان. فالدَوَادار، هي كلمة من شقين: أحدهما عربي وهو “دواة” أي وعاء الحبر الذي تُكتَب به المُراسلات، والثاني فارسي، وهو “دار” أي المُمسك بالشيء أو حَامِلُه، فكانت “الدَوَادارية” هي وظيفة حامِل دواة السلطان أو المُمسك بها. وعلى الرغم من أن المؤرخ الكبير ابن تغري بردي وصف وظيفة الدَوَدارية في “النجوم الزاهرة”، بأنها كانت وظيفة سَافِلة (أي أنها تقع في “أسفل” السلم الوظيفي)، إلا أنه مع تطور دولة السلطان برقوق، ونظرًا لما لعبه الأمير يونس من أدوار هامة في ترسيخ دعائم تلك الدولة، عاد ابن تغري بردي فقال عنه، إنه كان “أحد أركان دولة الظاهر”، ثم قال عنه في “المنهل الصافي”: “له عدة مآثر من أحواض، وسُبل بالقاهرة، والبلاد الشامية، وله الخان بِقُبة بمدينة غزة”.
في 1387 ميلادية، شَيَّد الأمير يونس، الخان الذي يعني بالفارسية المتجر، لكنه تجاوز ذلك المعنى عمليًا على يديه، إلى ما يشبه الفندق وملحقاته. كان الخان الذي شُيد بمكانٍ، يبعد نحو 100 كيلومتر عن مدينة القدس، ويحده من الجنوب مدينة رفح، ومن الشمال مدينة دير البلح على طريق القوافل التجارية، والحجيج بين مصر والشام والحجاز، مؤلفًا من أماكن للمبيت ومسجد جامع وقلعة حصينة يحيطهم جميعًا سورٌ منيع. وهنا نصل إلى أصل الحكاية…خان يونس الذي حملت المدينة الباسلة اسمه. كان موقع المدينة الاستراتيجي هامًا لكل الغُزاة عبر التاريخ، حتى قبل إنشاء الخان، من حيث أنها تُمثل منطقة عازلة Buffer Zone بين مصر وبلاد الشام. شهدت هذه المنطقة في الماضي البعيد، نزاعات للسيطرة عليها بين الفراعنة والآشوريين، ثم بين البطالسة والسلوقيين، ثم بين الأيوبيين والصليبيين، ثم بين المماليك والتتار. تعززت أهمية المنطقة في العصر الحديث، ففي 1917، وصلت القوات البريطانية لمدينة خان يونس، ثم انطلقت منها لمهاجمة غزة شمالًا، وبئر السبع شرقًا، ودارت فيها معارك طاحنة بين البريطانيين والأتراك، انتهت بهزيمة الأتراك، وبدء احتلال بريطانيا لفلسطين، ثم كان وعد بلفور، فإعلان الانتداب البريطاني لفلسطين الذي أقرته عصبة الأمم في 1922. حاولت العصابات الصهيونية في 1948، عزل قطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية، بغرض احتلاله، إلا أن القوات المسلحة المصرية، بمساندةٍ عظيمة الشأن من أبناء خان يونس، أبلت في تلك المواجهة بلاء حسنًا، ونجحت في الدفاع عن غزة، والحفاظ عليها كمنطقة عازلة بين حدود الدولة الصهيونية والحدود المصرية.
في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر في 1956، استغلت العصابات الصهيونية قرار وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية المُباشِرة، لتقوم بغزو قطاع غزة. دَكَت المدفعية الصهيونية مدينة خان يونس التي رفضت الاستسلام، فاجتاحت آلياتها العسكرية شوارع المدينة مُطالِبَةً- عبر مكبرات الصوت والمنشورات الورقية- بخروج الرجال، ممن تتراوح أعمارهم ما بين 16 و50 سنة، بهدف القضاء على المقاومة، (كما هو الحال الآن) من خلال القبض على كل من يُشتبه في قُدرَتِه على حمل السلاح. ما أن اكتظت الساحات بالرجال، وكان أغلبهم من المدنيين، إلا وقد بدأت المقتلة العشوائية التي راح ضحيتها 250 فلسطينيًا بريئًا. فرضت العصابات الصهيونية حظر التجول، فَلَم يتمكن الأهالي من دفن ذويهم، وبقيت جثث الشهداء لأيامٍ في العراء؛ لتقوم بعد تلك المذبحة بتسع ليالٍ، بمذبحة أخرى راح ضحيتها 275 فلسطينيًا بنفس الطريقة. في 1957 وبعد انسحاب قوات العدوان الثلاثي من سيناء وغزة، تم اكتشاف مقبرة جماعية، كان بها جثث 40 شهيدًا، تم إعدامهم جميعًا رميًا بالرصاص في مؤخرات رؤوسهم، ثم في عام 2003- أي بعد تاريخ المذبحة بنحو 47 عامًا كاملة- تم اكتشاف رفات شهداء آخرين، كانت تحت أنقاض ما تهدم من منازل. راحت خان يونس، كما راحت غزة بأكملها في 1967؛ لأسباب تضيق مساحة هذا المقال عن الخوض فيها، ولم تفلح اتفاقية أوسلو 1993، ولا اتفاقية الحكم الذاتي 1994، أن تُؤَمِن لها استقلالًا حقيقيًا ضمن حدودِ دولةٍ كاملة السيادة.
لم يكن ما سبق، سوى سرد تاريخي مُقتَضَب لأصل حكاية خان الدَوادار يونس النوروزي الظاهري، ومدينته التي لا تُقهر، ولن تبيد، أما مُنتهاها، فبيد الشعب المنذور للمقاومة التي لا يمكن للكلمات، أن تحيط بوصفها خُبرًا.
-استند الكاتب، فيما أورده بهذا المقال لكتابي “المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي” و”النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” لابن تغري بردي، ودراسة “الداودار يونس النوروزي الظاهري” للدكتور أحمد هاشم بدرشيني، ومراجع أخرى معتمدة من مؤسسة الدراسات الفلسطينية.