اقتبستُ هذا العنوان من ص 26 من مقدمة المجلد الأول من كتاب “شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان”، حيث يدير الدكتور جمال حمدان مراجعات فكرية حول اللحظة التي وصفها في ص 20 كما يلي:

1- مصر تدخل منعطفاً خطيراً، وتتردى إلى منزلق تاريخي مُهلِك قومياً، ويتقلص حجمها ووزنها النسبي بين العرب، وينحسر ظلها، في مثل هذا الوقت، تجد مصر نفسها في حاجة إلى إعادة التفكير في كيانها، ووجودها ومصيرها بأسره: من هي، ما هي، ماذا تفعل بنفسها، بل ماذا- بحق السماء- يُفعَلُ بها، وبالعلم وحده فقط، يكون الرد.

2 – إن مصر تجتاز اليوم أخطر عنق زجاجة، وتدلف أو تُساق إلى أخطر عنق زجاجة في تاريخها الحديث، وربما القديم كله، إن هناك انقلاباً تاريخياً في مكان مصر ومكانتها، انقلاب إلى أسفل، انقلاب إلى الوراء، نراه جميعاً رأي العين، لكننا نتعامى عنه، ونتحاشى أن نواجهه، ونفضل أن ندفن رؤوسنا في الرمال.

3 – هذا الانقلاب هو عصر البترول العربي الخرافي، نخدع أنفسنا- وحدنا- إذا فشلنا في أن نرى أن وزن مصر وثقلها، حجمها ومكانتها، قامتها وقيمتها، قوتها وقدرتها، بين العرب وفي العالم ككل، قد أخذت تتغير وتهتز في اتجاه سلبي، لم تعد مصر هي الأولى ذات المكانة العالية التي يصعب اللحاق بها، أو منافستها من غيرها من العرب، كذلك لَمَّا يعد العرب مجرد أصفار على الشمال.

4 – من هنا، فإن مصر في حاجة ماسة إلى إعادة نظر حادة في ذاتها، وإلى مراجعة للنفس أمينة وصريحة، بلا تزييف أو تزويق، بلا غرور أو ادعاء، بلا زهو أو خُيَلاء، لكن كذلك بلا تهرب أو استخذاء ، وبلا تطامن أو استجداء ، إننا نكره أن نسمع عن عيوبنا ، ونرفض أن نواجهها أو نُواجَه بها ، وكلما زاد جهلنا بمصر كلما زاد تعصبنا لها، وكلما ازدادت أحوالنا سوءاً، زاد تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا.

5 – ابن مصر- البار الغيور عليها- هو الذي لصالحها ينقدها بقوة وبقسوة إذا لزم الأمر، فمصر لن تتغير، ولن تتطور، ولن تخرج من حمأتها التاريخية الراهنة، إلا حين يأتيها المفكر الصادق، والحاكم الصادق، كلاهما يكون صادقاً مع نفسه، وصادقاً مع جمهوره؛ فيواجهه علناً بعيوبه، دون دجل ولا وجل.

6 – على رأس أعداء مصر- بالجهل والجهالة وضيق الأفق- يأتي الحكم والحاكم. فالحاكم الذي يبيع الوطنية للمواطن، لا يملك إلا أن يقدم الوطنية، والمخدرات التاريخية للجماهير، مثل: مصر أم الدنيا، أم الحضارة، فوق الجميع. والحاكم في الوقت الذي قد يكون أكثر من يسوم الشعب العسف، والخسف والهوان والذِلة والقهر الجسدي أو المعنوي أو كليهما، لا يتورع أن ينافق الشعب، ويتزلف إليه ويتملق غرائزه الوطنية وتضخيم ذاته.

7 – القاعدة تقريباً عند كل حاكم أننا- في زعمه- نعيش في عصره أروع وأمجد فترة في تاريخنا وحياتنا بلا استثناء، كل عصر عند حاكمه، هو وحده عصر مصر الذهبي، تلك نغمة أزلية، يكررها كل حاكم، منذ الفراعنة في نقوشهم وسجلاتهم الهيروغليفية على جدران الآثار، وهي متواصلة حتى اليوم، في أبواق الدعاية ووسائل الإعلام العميلة التي لا تتحرج ولا تخجل.

8 – الحاكم دائماً يتوهم مصر ملكاً له، مصر هي ضيعته أو قريته الكبرى، الحاكم هو الدولة، الحاكم هو الوطن، والولاء للوطن هو وحده الولاء للنظام، ويعتبر الحاكم، أن كل نقد موجه لشخصه هو نقد لمصر، وكل نقد لمصر هو نقد موجه لشخصه، وبالتالي فالنقد خيانة وطنية أو خيانة عظمى. وباختصار: النظام أو الحاكم هو العدو الطبيعي لكل فكر نقدي موضوعي وجاد.

9 – الغريب المؤسف، أن الشعب المخدوع الساذج، نصف الجاهل، قد يستأسد ويبطش بابنه، المفكر الناقد الوطني، ويسلمه تسليماً لسوط الحكم، وذلك بالقدر الذي يخنع فيه الشعب، ويخضع ويستكين تحت سوط الحاكم. فالشعب المسكين المُضلل، يتبادل مع قيادته العاجزة، الفاشلة، الباطشة، وجلاده الغاشم الخائن أحياناً، أنخاب خداع النفس وعبادة الذات، الشعب يتغابى عن عيوبه الجسيمة، ويتغنى بها، والحاكم يلهيه عن الاستبداد، والقهر والخيانة والغدر بأحاديث المجد والوطنية والأصالة.

10 – ولقد يشارك بعض زواحف الكتاب الانتهازيين، والمأجورين والعلماء العملاء في تمجيد كل سلبياتنا، ومثالبنا بأي منطق، بل وقد تزين لنا العبودية في الداخل أو في الخارج، أي للحكم الغاشم أو للعدو الغاصب على وجه الترتيب. إذا كان منطق عملاء الطغاة من المثقفين منطقاً زائفاً أو منطق عبيد، فإن المثقف المفكر الناقد الوطني يجد نفسه تحت حصار نوعين من الإرهاب: إرهاب الحكام الطغاة، إرهاب المثقفين والعلماء والمفكرين عملاء الطغاة.

…………………………………………………………………..

كل ما سبق كان تحولاً كبيراً في فكر دكتور جمال حمدان، وهو تحول يمكن فهم واستيعاب ضخامته بأكثر من مؤشر، مؤشر بسيط مثل، إعادة كتابة كتاب شخصية مصر مرة ثانية، من كتيب جيب من ثلاثمائة صفحة في حجم كف اليد إلى كتاب ضخم من أربعة مجلدات، تقترب من خمسة آلاف صفحة من القطع الكبير. ثم مؤشر معقد، وهو كم القوة والاحتجاج والعصف والغضب والثورة في روح وثنايا وسطور الكتاب الأكبر، عواصف في كل ناحية، وثورة في كل اتجاه وغضب مبين من فاتحة الكتاب الضخم حتى خاتمته.

خمسون عاماً- على وجه التقريب- تفصل بين المناخ الزمني الذي كتب فيه دكتور جمال حمدان، وبين المناخ الزمني الذي نقرأ فيه ما قد كتب، من منتصف سبعينيات القرن العشرين، حتى لحظتنا الراهنة، هذه الخمسون عاماً، كانت هي مسرح الحركة الذي قادت خطى مصر من موقع القيادة والنفوذ والتأثير- بالتدريج البطيء- حتى وصلت إلى النقيض تماماً، وصلت إلى اضمحلال دورها ونفوذها وتأثيرها، ثم زادت مشاكلها الداخلية، ثم اكتملت الحلقة المغلقة من حولها.

يمكن اعتبار ما كتبه دكتور جمال حمدان، قبل خمسين عاماً مجرد تنبؤ صادق، ونذير أمين وتحذير جاد، مما رأى بوادره وطلائعه في فترة السنوات العشر العصيبة من 1967 إلى 1977، وما ترتب عليهما من تداعيات هيكلية، حددت وزن مصر، وقيدت دورها، وغلت انطلاقتها ووضعتها في قفص مصطنع، لم تغادره حتى وهنت قواها، وقلت خياراتها وكثرت وجوه اعتلالها واختلالها.

عندما نعيد قراءة دكتور حمدان- بعد خمسين عاماً- يتبين لنا على وجه اليقين، أن النبوءة قد صدقت، وأن رحلة الاضمحلال قد وصلت إلى نهايتها، وأن الأمانة تستدعي إعادة طرح الأسئلة الكبرى، وأولها سؤال: لماذا وصلنا إلى هنا؟ لماذا نحن في هذا المأزق المذل المهين المشين الذي نحن فيه الآن؟ لماذا نحن عاجزون عن تغيير مسار الهبوط والاضمحلال؟ لماذا نحن في حالة استسلام جبري للقدر المكتوب؟

السؤال: من أي نقطة كان الدكتور حمدان، يطرح ويقترح ايقاف الاضمحلال عند محطاته الأولى قبل خمسين عاماً؟ وهل تصلح للخروج من الاضمحلال، وقد وقع بالفعل بعد خمسين عاما؟

الجواب عند دكتور حمدان، هو مواجهة عيوبنا القومية كشعب في عمومه، وليس كحكام فقط، يقول في ص 32: “عيوب الشخصية المصرية خطيرة، وليست بالهينة أو الشكلية، فهي التي أوردتنا موارد التهلكة في الماضي، ووسمت، ووصمت، وسودت تاريخنا بالعبودية للطغيان في الداخل، والعبودية للاستعمار في الخارج غالباً، وهي التي تهدد حاضرنا بنفس الشكل بالخضوع للديكتاتورية الغاشمة في الداخل، وبالركوع للعدو الأجنبي الغاصب في الخارج”.

السؤال: هل بالفعل جوهر محنتنا، يكمن في عيوب الشخصية المصرية؟

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.