أفلتت الأزمة الاقتصادية عن كل قيد، وباتت مصر تحت الخطر الداهم.
انهيار قيمة الجنيه بصورة قياسية غير مسبوقة، ولا كانت متخيلة في أسوأ السيناريوهات لا يلخص وحده الأزمة الاقتصادية، لكنه يؤشر على عمقها، ومخاطر تفاقمها؛ منذرا بإفلاس محتمل، أو رهن البلد، مصيره ومستقبله، لمصالح وإرادات إقليمية ودولية.
المشهد الاقتصادي الماثل، يكاد يشبه من نواح عديدة، ما تعرضت له مصر سابقا تحت وطأة الديون الأجنبية على عهد الخديو “إسماعيل” من تداعيات، أفضت إلى وضع البلد تحت الوصاية المالية قبل احتلاله من القوات البريطانية عام (1882) في عهد الخديو “توفيق”.
حسب توصيف المؤرخ الكبير “عبد الرحمن الرافعي”، فإن “مسألة الديون هي الجانب المظلم من عهد إسماعيل؛ لأنها هدمت تجربته كلها”.
وحسب توصيف آخر للأستاذ “محمد حسنين هيكل” بمحاضرة، ألقاها في باريس منتصف تسعينيات القرن الماضي فإن: “عصر إسماعيل مشى بقدميه إلى الحافة الخطرة، حين غاب عنه أن الحضارة، لا تجئ بالاستعارة، وأن التجديد لا يتأتى بالتقليد، كما أن الرقي لا تدل عليه باقة ورد محكوم عليها بالذبول صباح اليوم التالي، وإنما دورة الرقي تربة وبذرة وري”.
كل شيء يختلف بين التجربتين التاريخية والحالية، لكنهما تتشاركان في نقطة واحدة جوهرية.
إنها “الوقوع في فخ الديون الخارجية”.
نحن نتحدث الآن عن ديون تتجاوز الـ (165) مليار دولار، واقتصاد عليل، يفتقد مقومات الإنتاج وجهاز مصرفي، فقد ثقة مواطنيه بالخارج؛ فانخفضت تحويلاتهم بصورة فاقمت أزمة العملة الوطنية.
استدعاء سيناريوهات مقاربة، لما جرى في تجربة “إسماعيل” غير مستبعدة.
أخطرها.. فرض الوصاية المالية، وبعدها أخذ البلد كله رهينة، دون حاجة هذه المرة إلى الاحتلال المباشر.
لم يكن الاقتراح، الذي جرى تسريبه عبر إحدى المحطات الفضائية، لإنشاء صندوق تحت اسم “أصدقاء مصر”؛ لإنقاذ اقتصادها من الإفلاس مجردا عن الهوى السياسي.
قيل بصراحة كاملة، إنه لا أمل في حلحلة الأزمة، ولا أفق لأية حلول من الداخل، ولا سبيل؛ لمواجهتها سوى باضطلاع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ودول الخليج في إنشاء ذلك الصندوق.
المعنى بكل وضوح، سواء أنشئ ذلك الصندوق أو لم ينشئ، أن يكون هناك ثمن سياسي باهظ؛ لتخفيف وطأة الأزمة، يتلخص في وضع الاقتصاد المصري، مقدراته وموارده، تحت الوصاية الأجنبية و”الحجر” بنفس الوقت على القرار السياسي.
إنه الاستثمار السياسي والاستراتيجي في الأزمة الاقتصادية، التي ترتبت على سياسات وأولويات، ثبت باليقين، أنها خاطئة تماما.
لم يكن أحد في مركز القرار مستعدا، أن يسمع، أو أن يتفاعل، مع الاعتراضات الجوهرية على مشروعات، قد تكون لها فائدة مستقبلية، لكنها بلا عائد مناسب في أي مدى منظور، أو متوسط كالعاصمة الإدارية ومدينة العلمين الجديدة.
تغييب مبدأ “وحدة الموازنة العامة”، والتوسع في إنشاء الصناديق الخاصة، جعل ممكنا، ألا نعرف ما جرى حقا، أو أين ذهبت أموال البلد؟
ثم كان بيع المقدرات الإنتاجية والتوسع في برامج الطروحات؛ إجهازا لقدرة البلد على تسديد أي أصل ديون.
لا كانت هناك أدوار لها قيمة، أو تأثير للمجلس النيابي في الرقابة المالية، والمحاسبة على الإنفاق العام.
لا أخضعت الحكومة لأية محاسبة، ولا أجريت أية انتخابات محلية على مدى عشر سنوات.
كان ذلك تعطيلا لالتزام دستوري أفضى ضمن أسباب أخرى إلى تراجع مركز مصر على مؤشر الشفافية الدولية لمرتبة متأخرة للغاية.
إنه الفساد مستشريا.
قيل ذات يوم قريب على لسان وزير المالية الحالي، أن معالجة أزمة الديون بمزيد من الديون!
كانت تلك وصفة مدمرة لأي اقتصاد.
وقد أفضى التعويل على وصفات، وقروض صندوق النقد الدولي إلى الوضع الكارثي الذي نحن فيه الآن.
إذا ما تصور أحد، أن الأزمة الاقتصادية الحالية تتلخص في أزمة السيولة الدولارية، فهو مخطئ تماما، ولا يريد أن يعرف كيف وصلنا إلى هنا.
الاعتراف بالأزمة، أسبابها ومسئوليتها، أول خطوة ضرورية؛ لتجاوز أخطارها المحدقة.
لا يصح انتحال الأعذار؛ لتفسير الأزمة الاقتصادية، كنسبة مسئوليتها إلى أسباب خارجية كجائحة “كوفيد 19″، والحرب الأوكرانية والحرب على غزة وإعفاء السياسات، والأولويات الداخلية من أية مسئولية.
ذلك لا يساعد على أية مواجهة لها صفة الجدية.
باليقين هناك آثار سلبية، ترتبت على بعض المتغيرات الدولية، عانينا منها مثل أغلب دول العالم.
إنها نصف الحقيقة.
النصف الآخر: ضعف البنية الاقتصادية الداخلية، وخلل السياسات المتبعة، والتفريط في المقدرات الإنتاجية.
دون مواجهة الحقائق فإن الأخطار الماثلة سوف تتجاوز أية قدرة على حلحلتها، ونصبح أمامها عاجزين تماما.
في جميع الأحوال لا يصح، أن يقال لشعب يئن تحت وطأة ارتفاعات الأسعار بصورة جنونية من يوم لآخر، “إننا أفضل من غيرنا” في إشارة صريحة، وكلام في غير محله، لما يتعرض له أهالي غزة من حرب تجويع وإبادة.
بذات القدر، لا يصح أو يجوز تحميل الحكومة الحالية وحدها مسئولية الأزمة الاقتصادية، فهي “حكومة موظفين” لا شركاء في صناعة السياسات العامة، على ما ينص عليه الدستور في المادة (150).
الكلام الجاد والمباشر في صلب الأزمة، وطرق وخطط المواجهة المدخل الوحيد؛ لتجنب كوارثها من أن تتفاقم، وتأخذ البلد كله إلى المجهول.
آخر ما يحتاجه البلد استهلاك الوقت، فيما لا يجدي أو يفيد بتصريحات وزارية، لا تقول شيئا جديدا مصدقا.
بدا مستلفتا إسناد مهمة إعداد وثيقة مستقبل الاقتصاد المصري في الست سنوات المقبلة، حتى نهاية الدورة الرئاسية الجديدة عام (2030) إلى نفس الحكومة التي تحملها وسائل الإعلام الرسمية مسؤولية الفشل!
لم تكن هناك أدنى مراجعة حسب ما هو منشور، ومعلن للسياسات الاقتصادية في صلب الوثيقة، التي وضعها خبراء، ومختصون في مركز صناعة القرار التابع لمجلس الوزراء.
إنها المراوحة في نفس المكان، دون إرادة تغيير تستلزمها الأحوال الاقتصادية الحرجة.
قيل إن الوثيقة سوف يستطلع الرأي بشأنها من الخبراء الاقتصاديين في البلد على تنوع توجهاتهم، غير أن السوابق لا تضفي أية جدية على مثل تلك الوعود.
ثم بدا مستلفتا إحالة الوثيقة، التي وصفت بالاستراتيجية، للحوار الوطني.
هنا يستلزم السؤال: أين مخرجات جلساته السياسية والاقتصادية التي استغرقت نحو عامين؟
فكرة الحوار رغم أهميتها البالغة تقوضت تماما.
المعنى في ذلك كله، إنه لا إصلاح اقتصادي بلا إصلاح سياسي.
ولا حوار له صفة الجدية ما لم يقترن بمخرجات، تعطي أملا في مستقبل أفضل.