خرج المنتخب الوطني لكرة القدم من دور الـ 16 في بطولة إفريقيا لكرة القدم المقامة حاليا في ساحل العاج بعد أداء باهت، وفشل في تحقيق اللقب مرة أخرى، بعد ثلاثية حسن شحاتة، وأمجاد محمود الجوهري، وهما مدربان وطنيان مسئولان عن تربع مصر على عرش الكرة الإفريقية، وحصولها على اللقب 7 مرات.

والمؤكد أن مقولة حال المنتخب من حال البلد فيها كثير من الوجاهة، وتفسر جانبا رئيسيا من تدهور مستوانا في الكرة، فكما يقال، حال الكرة هو حال الصحة والتعليم وسوء الإدارة والفساد، وقبلهم غياب الديمقراطية، وتراجع دولة القانون، ولكنه لا يفسر كل الصورة، حتى لو رأينا كثير من التعليقات الجادة التي اعتبرت أن ما جرى في بطولة إفريقيا هو انعكاس لأحوالنا المأزومة في باقي المجالات.

والمؤكد أن أحد العوامل التي تساعد على التقدم في المجال الرياضي هو تقدم البلد، ولكنه ليس العامل الوحيد؛ لأنه لا يفسر تقدم كثير من دول أمريكا الجنوبية كرويا، رغم أن كثيرا منها يعاني من ظروف اقتصادية صعبة، وتعاني من مشكلات فقر، ولا تصنف ضمن الدول المتقدمة أو دول العالم الأول، حتى لو أصبحت معظمها تنتمي للعالم الثاني، وليس عالمنا الثالث.

يقينا إن بلدا مثل اليابان أكثر تقدما وثراء، بما لا يقارن من البرازيل والأرجنتين وأرجواي، ولكنهم جميعا متفوقون عليها، بما لا يقارن في كرة القدم. كما أن التنافس الأوربي اللاتيني على بطولة كأس العالم، منذ انطلاقها في عام 1930، يدحض بدرجة كبيرة هذه التصور، فلماذا فازت أرجواي النامية، ومعها البرازيل، والأرجنتين بكأس العالم في ظل نظم سياسية استبدادية (سابقة)، وفي أوقات كانت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية شديدة الصعوبة.

إن علاقة كرة القدم بالتقدم والتخلف ليست شرطية ولا عكسية، إنما هي أحد العوامل المساعدة على تحقيق النجاح والفوز، وليست بالضرورة الأساسية، وأن مشكلتنا في مصر أكثر عمقا من مشكلة دولة نامية؛ لأنها تصل إلى عدم القدرة على خلق أي بؤر تقدم مضيئة، يمكن أن تبهت على الصورة القاتمة في كثير من المجالات الأخرى، فباستثناء منظومة الأهلي الرياضية التي تتسم بالتخطيط والاحترافية، فإن باقي منظومة الرياضة بعيده عن تلك المفاهيم.

الفارق بين دول أمريكا الجنوبية النامية وبين مصر النامية، إن الأولى وضعت منظومة احتراف عالمية في كرة القدم: إدارة حديثة ومحترفة، تخطيط علمي، مدربون محترفون، لاعبون عالميون، احترفوا في أكبر الأندية العالمية، و”بهتوا” على واقعهم المحلي، في حين اعتبر بعضنا، أن منظومة الرياضة في مصر محصنة وفوق النقد، وأداروها بصورة أكثر عشوائية من باقي المجالات.

أمريكا الجنوبية فيها فساد، ولديها معدلات جريمة مرتفعة، ومشاكل اجتماعية واقتصادية كثيرة، وكانت من نصف قرن في وضع أسوأ من مصر، ولكنها الآن بنت نظما ديمقراطية، وتؤسس لدولة قانون، مما ساعدها أن تؤسس منظومه احتراف كروية حديثة، حتى لو كانت لديها مشاكل أكبر من أوروبا والدول المتقدمة.

في دول أمريكا الجنوبية المتقدمة كرويا، لا يوجد تحصين لسوء الأداء والعشوائية والفوضى بشعارات وطنية، ولا يعتبرون انتقاد سوء الأداء استهدافا للبلد، وفضح حالات فساد جزءا من مؤامرات الأشرار.

في كثير من البلدان الإفريقية واللاتينية هناك فساد، وهناك مزاج لاتيني، يشبهنا في أشياء كثيرة، فهم عاطفيون وانفعاليون، ويعتمدون على المهارة الفردية ولديهم قدر من عدم الانضباط، وهناك اتحادات كرة، اتهمت بالفساد وأدينت، لكنهم جميعا غير محصنين أمام الرأي العام، ولا أمام الصحافة، وأنه لولا النقد الجاد لأداء الأرجنتين في البطولات السابقة، لما حسنت من أدائها، وحصلت على كأس العالم في قطر.

هذا النمط من التفكير الذي يعتبر النقد “معطل للمسيرة”، ساعد على انتشار حملات الاستباحة والشتائم على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لأنك أغلقت باب النقد والحملات الصحفية المهنية، واعتبرت كثير من المؤسسات، والهيئات الكروية وغير الكروية نفسها فوق المسائلة والنقد.

النقد لا يعني تصفية الحسابات مع بعض اللاعبين تبعا للهوي والمزاج، مثلما جرى مع محمد صلاح، فيقينا الهجوم الذي يتعرض له نجوم كرة القدم معتاد في عالم الرياضة والصحافة، إلا أن ما تعرض له صلاح تجاوز في الحقيقة حدود النقد أو الاعتراض على أدائه، وأدخل اعتبارات لا علاقة لها بقدراته الكروية الفذة.

بديهيا كل نجوم العالم الكبار، سواء كانوا أفارقة أو من أمريكا الجنوبية، يحتاجون لمنظومة نجاح رياضية؛ ليقودوها كما فعل ميسي مؤخرا مع الأرجنتين في كأس العالم، وليس منظومة فشل تعرقل قدراتهم وأدائهم، مثلما حدث مع محمد صلاح، فالرجل صقلت موهبته الملاعب العالمية، وليس الملاعب المصرية، وهو نتاج واقع رياضي، لا نعرفه في بلادنا؛ لأن منظومتنا الرياضية لم تنجح عبر تاريخنا الطويل، أن تقدم لاعبا محليا بمستواه.

إن محمد صلاح أسطورة حقيقية نسفت كل العقد الطبقية في مجتمعنا، والتي تفرض مائة قيد على أي شاب من أسرة محدودة الإمكانات المادية؛ لكي يصعد في السلم التعليمي والوظيفي، ويكفي أن ترى كيف علم صلاح نفسه بنفسه، وكيف تعلم اللغة الإيطالية، حين كان في نادي روما، واتقن الإنجليزية، بعد أن ذهب إلى بريطانيا، وقبله المجتمع الغربي بلحيته وشكله “غير الخواجة”؛ لأن موهبته أصيلة وحقيقية وليس مدعيا.

ومن هنا يبدو صادما، إنه منذ أن وصل المنتخب بقيادة محمد صلاح إلى ساحل العاج، ونحن نتعامل مع الأمر بدعاية مبالغ فيها، وبتوظيف سياسي لا مبرر له، ونسينا المهمة الرياضية الاحترافية، ولم نستفد من فرصة وجود لاعبين مصريين محترفين عالميا كصلاح، وغيره من أجل خلق منظومة احتراف حديثة داخل المنتخب الوطني، إنما حاول بعضنا، أن يفعل العكس، أي أن تبهت منظومة الفشل على النجاح.

نعم واقعنا النامي مليء بسلبيات سياسية واقتصادية وثقافية، ستؤثر في الرياضة وعلى الكرة، ولكن خبرة بلاد كثيرة نامية تقول، إنها صنعت استثناءات في كرة القدم بعيدا عن مشاكلها الكثيرة، وأصبح نجاحها الكروي والرياضي، عنوانا لتقدمها في مجالات أخرى؛ لأنه دليل على احترام العلم والتخطيط في السياسة والاقتصاد والكرة.