قد تكون الصيغة الأدق للسؤال هي: هل ستكون دولة بلا جيش أم ستكون دولة بلا دولة؟ أو على حد صياغة مركز مالكوم كير/ كارنيجي الأمريكي للشرق الأوسط: هل ستكون دولة فلسطينية فوق الصفر أم تحت الصفر؟ علما بأن المركز يرجح أنها ستكون تحت الصفر، ويتنبأ للفكرة والمشروع بالفشل.

السبب في طرح هذا السؤال بقوة الآن، هو تواتر الحديث، وتعدد الاتصالات مؤخرا بكثافة حول لزوم الاتفاق على مسار يفضي إلى قيام دولة فلسطينية، وذلك في إطار جهود التوصل إلى هدنة طويلة في غزة، تتضمن تبادل إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس، وشركائها مع الأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل.

في مقال يوم السبت الماضي، تطرقنا باستفاضة إلى مشروع الهدنة المطولة هذه، و ما يمكن أن يترتب عليه من نتائج، قد تؤدي إلى تغيير جوهري في الوضع السياسي في إسرائيل، ورغم أن توقعنا الرئيسي، كان هو إجبار بنيامين نتنياهو على مغادرة الحياة السياسية بالكامل في نهاية المطاف، فإننا توقعنا أن يكون وقف إطلاق النار لمدة طويلة نسبيا، هو بداية انطلاق هذه العملية، ومن الطبيعي أن الرجل يدرك هذه الحقيقة، ولذا فإنه يضع العراقيل أمام الاتفاق على الصفقة المقترحة للهدنة، وتبادل المحتجزين والأسرى، بذريعة الخشية من سقوط حكومته بانسحاب التوأم السياسي المتطرف (بن جفير وسموترتش) منها، ومن هنا نفهم التعهد الذي قطعه على نفسه يائير لابيد زعيم المعارضة بتوفير شبكة أمان للحكومة (تمنع حجب الثقة عنها في الكنيست)، إذا نفذ الوزيران المتطرفان تهديدهما، في حالة قبول صفقة الهدنة، وتبادل الأسرى والمحتجزين.

ومع أننا نعود لنلفت نظر القارئ الكريم إلى أن توقعنا الأصلي- الذي يجمع عليه المراقبون- هو خروج نتنياهو من السياسة الإسرائيلية نهائيا، للأسباب المفصلة في مقال السبت الماضي، فإنه سواء بقي الرجل مؤقتا، دون شركائه الحاليين المتطرفين، أم اعتزل، وتشكلت حكومة جديدة، فإن الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة بقوة في مجريات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وجهود تسويته، ترى أن هذه الفرصة قد تكون مواتية الآن للاتفاق على ما تسميه بمسار نحو الدولة الفلسطينية المقترحة، منذ عشرات السنين، في الضفة الغربية وقطاع غزة،… هذه الأطراف هي تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية، والاتحاد الأوروبي، ثم مصر وقطر والأردن.

اللافت بشدة هنا، أن أول تصور شامل- يعول عليه- لليوم التالي لوقف القتال في غزة، كان هو الذي طرحه الأمير تركي الفيصل، رئيس المخابرات السعودية الأسبق، في مقال له في الأول من يناير الماضي، بصحيفة الشرق الأوسط السعودية، التي تصدر في لندن، بعنوان: الفشل الكبير.

في هذا التصور، توقع الأمير، أن تسفر هذه الحرب عن تغيير واسع في القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية، بل أنه طالب بهذا التغيير، بحيث يُبعد المتطرفين من الجانبين عن المسرح السياسي بالكامل، وفي مقدمة أولئك المبعدين بالطبع حركة حماس، بحيث التفرد بالقيادة والقرار في غزة، وتُضم لمنظمة التحرير الفلسطينية، وذلك لتذليل عقبة عدم اعترافها بحق إسرائيل في الوجود، مع إدخال تغييرات إصلاحية واسعة في المنظمة، وفي السلطة الفلسطينية، لضمان  تسليم دفة القيادة، والقرار إلى جيل جديد، من فلسطيني الداخل،… كل ذلك مع اتفاقات محددة؛ لإعادة إعمار غزة، والإعلان عن مسار محدد نحو قيام الدولة الفلسطينية، يصحبه إعلان تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية.

واللافت هنا أيضا بقوة، أن هذا التصور أصبح على الفور هو جدول الأعمال المعتمد لدى بقية الأطراف المذكورة آنفا، فهو الذي تدور حول الاتصالات، وهو الذي يُطلق كبالونات اختبار، وكمنشطات للتفاعلات، خاصة في إسرئيل، مما يقطع أنه ليس مشروع الأمير تركي الفيصل بصفته الشخصية غير الرسمية، ولكنه مشروع سعودي أمريكي مشترك وضع في الكواليس الرسمية، وفوض الأمير لطرحه على كل الأطراف الرسمية وغير الرسمية، بهذه الطريقة.

ليس الدور الأمريكي في ترتيب صفقة التطبيع السعودية الإسرائيلية سرا، ومن ثم فلا بد أن تنغمس واشنطن مباشرة في أية مقترحات سعودية؛ للخروج من الأزمة الراهنة، ولاستئناف خطوات التطبيع مع إسرائيل، والمعنى أن طبيعة الأمور تحتم دائما التنسيق بين الرياض، وبين واشنطن في كل خطوة، وكل اقتراح، وكل مبادرة حول التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، والجديد هذه المرة هو، أن واشنطن تجعل هذه الرؤية ركنا أساسيا من أركان ثلاثة، تشكل ما سنسمع عنه قريبا باسم مبدأ/ أو مذهب بايدن للشرق الأوسط، طبقا لما  طرحه توماس فريدمان الكاتب الصحفي الأمريكي، المطلع على بواطن الأمور، خاصة  في الشرق الأوسط، في مقاله الأخير، وقد كان ذلك هو الحال أيضا في مبادرة بيروت العربية التي طرحتها السعودية عام 2002، إذ كان أول من كتب عنها، أو تنبأ بها حرفيا، قبل أن يقدمها الملك عبد الله بن عبد العزيز، إلى القمة العربية الصحفي الأمريكي (توماس فريدمان نفسه).

أما الركنان الثاني والثالث لمذهب بايدن في الشرق الأوسط فهما: أولا: المواجهة المسلحة الفورية لكل عدوان من إيران، أو عملائها في المنطقة ضد الأهداف الأمريكية، وثانيا: التحالف الدفاعي مع المملكة العربية السعودية ضد إيران.

استطرادا مع هذا السيناريو، فقد تشكلت مجموعة اتصال من الولايات المتحدة والسعودية ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية؛ للاتفاق على خطوات إصلاح السلطة الفلسطينية، وعلى تفاصيل اليوم التالي لوقف القتال في غزة، وأهمها المسار المقترح نحو الدولة الفلسطينية، وحسب المصادر الإسرائيلية، فإذا تكللت هذه الجهود بالنجاح فقد يزور الرئيس الأمريكي المنطقة، بعد دعوة  هذه الأطراف جنبا إلى جنب مع إسرائيل إلى قمة في الرياض؛ لإعلان مبادرته الشاملة للمنطقة أو إعلان “مذهب بايدن للشرق الأوسط “ حسب تعبير فريدمان، أو قد يفضل البيت الأبيض دعوة الجميع؛ لعقد هذ المؤتمر في واشنطن، بحيث يدشن بداية ساحقة ماحقة لحملة إعادة انتخابه رئيسا لفترة ثانية.

بلغنا الآن النقطة التي يجب أن نتساءل فيها: هل حقا ستجد هذه الخطة السعودية الأمريكية شريكا إسرائيليا يقبلها، ويلتزم بتطبيقها؟

لنتذكر، أن بايدن سبق، أن قال، إن نتنياهو لا يرفض فكرة الدولة الفلسطينية بالمطلق، خاصة إذا كانت بلا جيش مثلها مثل دول أخرى أعضاء في الأمم المتحدة، ورغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفى موافقته على مبدأ الدولة الفلسطينية تماما في محادثته التلفونية مع الرئيس الأمريكي، فإنه عاد، واستعمل صياغات أقل؛ حسما في معنى الرفض، وفي الوقت نفسه، ينبئ تعهد زعيم المعارضة الإسرائيلية بتوفير شبكة أمان- كما سبقت الإشارة- من السقوط لحكومة نتنياهو،… أي لنتنياهو شخصيا في الحقيقة، بأن هناك صفقة يعد لها، بمشاركة أطراف كثيرة.

من جانبه توقع مركز  مالكوم كير/ كارنيجي للشرق الأوسط  في دراسة، نشرت يوم ٣١ يناير الماضي، أن مشروع بايدن حول صفقة الدولة الفلسطينية لا يكتفي بنزع سلاح الدولة الفلسطينية المقترحة، وحرمانها من امتلاك جيش، وإنما يضعها بالكامل تحت الوصاية الأمنية الإسرائيلية، بمعنى الإقرار بحق الجيش الإسرائيلي في التدخل في كل شبر منها، كلما أراد بدواع أمنية، ودون طلب أو إذن من حكومتها، وبذلك لن تكون هنالك دولة، وإنما منطقة حكم ذاتي، بمسمى دولة، وذلك بفرض، أنه أمكن تجنب القيود الإسرائيلية الأخرى، مثل ضم كل المساحات الاستيطانية، وتقطيع أواصر الاتصال بين ما سيتبقى من أجزاء الضفة، والإشراف الأمني على الاتصال بين الضفة وغزة، وكذلك الوصاية على المنافذ الخارجية برا وبحرا وجوا.

من المفهوم، أن ذلك التنازل الجوهري عن مقومات السيادة يستهدف ضمان قبول نتنياهو، وحزبه للمشروع، ولعلي أضيف، أن جميع من يوصفون بأحزاب الوسط، ويسار الوسط في إسرائيل، لا يختلفون في هذه النقطة إطلاقاً عن نتنياهو، إذا تركوا لشأنهم، وحصلوا على التطبيع السعودي، والمباركة الأمريكية، ولكنهم قد يوافقون على بعض ضمانات السيادة- وليس كلها- للدولة الفلسطينية، إذا ما ووجهوا بحسم سعودي، وحزم أمريكي، خاصة لابيد والقريبين منه، وربما بيبي “أي نتنياهو” أيضا، إذا كان ثمن رئاسته للحكومة هو الائتلاف مع حزب لابيد، وهذا هو الفرق بينهم وبين نتنياهو.