يمثل القانون أحد أبرز محاور الصراعات الاجتماعية والسياسية حول المصالح المتنازعة بين القوى الاجتماعية على اختلافها في المجتمعات المعاصرة‏، ومن ثم يشكل أحد ميادين حسم الصراع، وإقرار المصالح للقوى الغالبة بلا نزاع‏.‏ وإن الوصول إلى توازن ما في المصالح، هو تعبير أكثر تعقيدا، عن أن الدولة وسلطاتها، وأجهزتها تصل في بعض المراحل إلى مستوى يتجاوز حدود المصالح الضيقة للقوى الاجتماعية والسياسية المسيطرةـ وصفوتها الحاكمة وظهيرها الاجتماعي ـ إلى مصالح أكثر اتساعا، تتصل بقوى اجتماعيا أوسع نطاقا،‏ أو مصالح أكبر تتجاوز الصراعات الاجتماعية، والمصالح الضيقة للصفوة السياسية الحاكمة‏.‏

وهذا المعنى، ما مؤداه أنه يجب أن تتم الصناعات القانونية بطرق أكثر تقربا من المجتمعات المخاطبة بها، لا أن يتم تنحيتها جانبا، على الرغم من كونها هي الفئة المخاطبة، أو المعنية من صناعة هذا القانون، وهذا ما تتجلى صورته الكبرى في كثرة التعديلات التي تنال التشريعات، وهو الأمر الذي يصيب صناعة القانون نفسها بتخمة، تجعل من القوانين غابة لا تستطيع متابعة تطوراتها، حتى من معظم العاملين في مجال القانون نفسه، وهذا الأمر لا ينتج سوى من طريقة صناعة التشريع، وهي تلك الطريقة التي يُطلق عليها الفقهاء، والباحثون الطرق الفوقية لصناعة القانون، وهي ما تعني أن تتم صياغة القوانين من قبل المجالس المختصة بها، دونما أي ارتباط بين القوانين والاحتياجات المجتمعية، أو دونما عرض أمر القانون على الفئات المجتمعية المخاطبة به، وهذا ما يجعل المنتج القانوني في صورته النهائية، ليس مرضيا عنه بصورة مجتمعية ولو توافقية، قد توحي بطول عمر هذا التشريع، وعدم الحاجة إلى التطرق إلى تعديله عقب تغير النظام الحاكم، أو تغير مجموعة المشرعين أنفسهم، هذا بخلاف المشاكل التي تنتج عند تطبيق القانون نفسه، فكلما كان القانون أكثر توافقا مع الاحتياجات، أو الطموح المجتمعي، زاد عمره وصلاحيته داخل المجتمع، ولكن كلما كانت الصناعة بعيدة عن رغبات المجتمع، كان هناك المزيد من المشكلات العملية وقت أن يدخل القانون حيز النفاذ، إلى أن ينتهي الأمر، بأن تناله يد التعديل التشريعي مرة جديدة، سواء كان ذلك تحت ضغوط مجتمعية، أو بناء على عرض القانون على الرقابة الدستورية.

ولما كان النظام القضائي المصري يعمل بنظام الرقابة الدستورية اللاحقة على نفاذ القانون، وهو ما يعني، أن يتم تطبيق القانون مرات عديدة، حتى يتم عرضه على المحكمة الدستورية العليا، لتقول كلمتها النهائية بخصوص مدى صواب وصلاحية القانون، وهذا ما يعني أن يتحمل المجتمع ثمن أو قيمة تطبيق القانون في حالة الحكم الدستوري بعدم دستوريته، وهذه التكلفة المجتمعية، ليست من قبيل الترف الاجتماعي، وإنما هي تشكل بطريقة تراكمية مدى احترام المجتمع للقانون، ومدى تفاعله معه، أو بالمعنى المقابل مدى الارتباط بين القانون وبين الاحتياجات أو التطلعات المجتمعية.

لكن لم يأت قانون الإجراءات الجنائية الجديد رقم 1 لسنة 2024، بما هو مرجو منه، فقد كان ينتظر الشارع منه التعرض بيد التعديل لأحكام الحبس الاحتياطي، ولكن قد خيب الظن فيه بعدم الاتيان بجديد بشأنها، وكأننا ننتظر تعديلات جديدة لقانون الإجراءات الجنائية، كما هي عادة المشرع المصري في تناوله الجزئي لقضايا المجتمع ذات الأهمية.

وقد سبق، أن عرضنا في المقال السابق لمدى تعارض هذا التشريع مع متطلبات الحق في الدفاع، ولكن لم يقف الأمر عند مجاوزة حقوق الدفاع فقط، فقد جاء بهذا القانون كذلك، ما يجاوز حقوق الدفاع، وإن كان من بينها ما هو مرتبط بها، وهذا ما جاء عليه نص المادة 379 من ذلك القانون، والتي تجيز الاعتراض على سماع شهود، لم يتم الإعلان عن أسمائهم من قبل النيابة العامة، أو المتهم أو المدعي بالحقوق المدنية، أو المسئول عنها، لهو من الأمور التي تؤثر بشكل يقيني على سريان المحاكمة، بما يحقق ضمانات كافية لأطراف النزاع، كما وأنه يبعد ذلك عن وجهة نظر المحكمة صاحبة القول الفصل في المحاكمة ذاتها، وقد كان الأحرى، أن يكون أمر سماع الشهود من الأمور المتاحة، والمضمونة لتحقيق العدالة تحت رقابة المحكمة، كما أنه وبشكل رئيسي يتناقض مع ما جاء بنص المادة 14/ ه من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي؛ تنص على أن للمتهم “(هـ) أن يناقش شهود الاتهام، بنفسه أو من قبل غيره، وأن يحصل على الموافقة على استدعاء شهود النفي بذات الشروط المطبقة في حالة شهود الاتهام”.

كذلك، فإن ما جاء في نص المادة 419 مكرر/ 2 من أنه “يجوز للنيابة العامة، أن تستأنف الأحكام الغيابية في مواد الجنايات”، وورود ذلك النص على هذه الصيغة من الإجمال، يهدر قيمة المحاكمة على درجتين، إذ أنه غذا، ما استأنفت النيابة الحكم الغيابي، فإنها بذلك تكون قد فوتت الدرجة الأولى من المحاكمة على المتهم، وهو أمر يقوض الهدف الأجل من إصدار القانون، بما يضمن استئناف أحكام الجنايات.

كما أن ما جاء عليه نص المادة الرابعة من هذا القانون الجديد بنصها، على أنه ” لا تسري أحكام هذا القانون إلا على الدعاوى التي لم يفصل فيها من محاكم الجنايات، اعتباراً من تاريخ العمل بهذا القانون”. وهذا ما مؤداه، أن القضايا التي تنظرها محكمة النقض في أمور الجنايات، لا تخضع لتطبيق هذا القانون، وذلك على الرغم من كون هذه القضايا، لم يتم الفصل فيها بحكم نهائي بات، وهو ما يضر بمصالح المتهمين في هذه القضايا، وعدم مساواتهم مع غيرهم من المتهمين، كما أنه يتعارض مع قاعدة تطبيق القانون الأصلح للمتهم بنظرة شمولية للمعنى.

ومن خلال عرض هذه الملاحظات، فإن صدور هذا القانون بهذه الصيغة المجتزئة، والمبتورة لم يحقق الهدف الأساسي منه كتشريع في الإجراءات الجنائية، نسعى من خلاله على تحقيق مبدأ المحاكمات العادلة، والناجزة في آن واحد، فهل سعى المشرع بشكل عام في هذا التعديل البحث عن الشرعية الدستورية أو المشروعية الإجرائية، أم أن الحكومة بحسب كونها صاحبة هذا القانون، قد أملته على كتلتها التشريعية، وهو الأمر الذي جاء به على هذا النحو المشوه، وهل كانت العدالة الجنائية التي هي الهدف الأسمى من المحاكمات الجنائية في أفق صاحب ذلك القانون، والعدالة وفقا للمعنى العام لها، تعني الشعور بالإنصاف، وهو شعور كامن في النفس، يوحي به الضمير النقي، ويكشف عنه العقل السليم، وتستلهم منها مجموعة من القواعد، تعرف باسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا، تهدف إلى خير الإنسانية، بما توحي به من حلول منصفة، ومساواة واقعية، تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم، وتعد العدالة هي المبدأ الأساسي الذي يجب أن تستند إليه جميع القوانين.

ومع ذلك، لا يوجد تطبيق للعدالة في حد ذاتها، ولكن يمكن تطبيق، وإنفاذ القوانين والمعايير بطريقة عادلة، ومنصفة من قبل القضاة والحكومات. أم أن ذلك يقع في حومة الانحراف التشريعي، وعيب الانحراف التشريعي يتعلق أساساً بالغاية من التشريع، وهي المصلحة العامة دائما، ولا يتصور تحقق هذا العيب، إلا حينما يمنح الدستور سلطة تقديرية للمشرع في مجال معين من التشريع، ذلك أن السلطة التقديرية هي التي تتيح للمشرع الخيار بين عدة حلول ووسائل، وعلى هذه الحال من سلطة التقدير، ينبغي على المشرع أن يستهدف المصلحة العامة، دون سواها، فإن انحرف عنها واستهدف غيرها مثل، تحقيق مصلحة فردية أو مصلحة حزب من الأحزاب، فإن المشرع يكون قد انحرف بسلطته التشريعية.