يعاني الاقتصاد التركي الذي كان نموذجًا يحتذى في السنوات الأخيرة من تراجع الليرة، وارتفاع مستويات التضخم بشكل عنيف، ما يؤثر على القطاع الأعظم من السكان، فضلاً عن تزايد المديونية الخارجية التي اضطرت البنك المركزي إلى رفع الفائدة؛ أملاً في جذب المزيد من الأموال الساخنة.

تبدو الكثير من مشكلات الاقتصاد التركي شبيهة بالمصري الذي لجأ هو الآخر لرفع الفائدة، وينتظر تحفيضًا وشيكا في العملة، ما يثير تساؤلات حول نقاط التماس، والاختلاف بين الاقتصادين، وهل يمكن للوضع الاقتصادي المصري المتراجع تجنب مثالب نظيره التركي؟

جوانب الأزمة التركية

البنك المركزي التركي الفائدة، أخيرًا، لمستوى 45% في سياسة، تتبعها أنقرة من أجل إعادة المستثمرين الأجانب المتخصصين في الأموال الساخنة، ومواجهة انفلات التضخم الذي جعل الأتراك، يكافحون لشراء الغذاء والسلع الأساسية الأخرى.

اتخذ البنك المركزي التركي قرارات غير مسبوقة برفع أسعار الفائدة ثماني مرات من 8.5% في مايو/أيار2023، إلى 42.5% في ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته، قبل أن ترتفع مجددًا إلى 45% قبل أيام.

لكن في ذات الوقت لا يزال معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في تركيا عند 61.98% خلال نوفمبر الماضي وفقا للبنك المركزي التركي، لكن مجموعة أبحاث التضخم المستقلة (ENAG)، قالت إن التضخم بلغ في الواقع 127.21٪.

أمام ارتفاع التضخم، قررت الحكومة زيادة الحد الأدنى للأجور، ما يؤثر على حوالي 7 ملايين عامل، من 17 ألف ليرة تركية (578.1 دولار) بزيادة قدرها 49%، وكذلك معاشات التقاعد بنسبة 37.57%، مع زيادة رواتب موظفي الخدمة المدنية 49.2%، لكن رغم ذلك، فإن العديد من الأتراك يعانون من دفع تكاليف الاحتياجات الغذائية الأساسية، والإيجار والنفقات والخدمات.

انخفاض الليرة رغم رفع الفائدة

لم تتفاعل العملة التركية مع الزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة العام الماضي، لكنها ساعدت فقط في إبطاء انهيارها، بينما لم تسيطر على ارتفاع التضخم، وواصلت الليرة ضعفها؛ لتصل إلى مستوى قياسي جديد، يبلغ 30.51 دولارًا أمريكيًا، مع توقعات بأنها ستصل إلى 40 دولارًا أمريكيًا.

انخفضت قيمة الليرة بأكثر من 50٪ مقابل الدولار الأمريكي في 2023، مما جعلها ثاني أسوأ عملة في الأسواق الناشئة أداءً، بعد البيزو الأرجنتيني، لكن توجد رهانات على سياسة التشديد النقدي “الفائدة”، في خفض العجز التجاري المزمن، واستنزاف احتياطيات النقد الأجنبي، وجذب المستثمرين الأجانب بعد نزوح جماعي دام سنوات.

بينما يقول عاصم أوغلو، أستاذ الاقتصاد التركي الأمريكي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إن زيادة أسعار الفائدة ببساطة لم تكن حلاً، فهناك حاجة إلى تغييرات كبيرة في السياسة بتركيا للتغلب على المشاكل الاقتصادية، بما في ذلك “مكافحة الفساد، وإنهاء الممارسات المناهضة للمنافسة، وتسهيل الاستثمارات”، ويؤكد أوزغور أوزيل، رئيس حزب الشعب الجمهوري، أن أزمة البلاد سببها السياسات الخاطئة التي اتبعتها الحكومة، وإدارة الاقتصاد من قبل أشخاص غير أكفاء.

استقالة محافظ المركزي التركي

وطلبت محافظة البنك المركزي التركي حفيظة غاية أركان، إعفائها من مهامها بعد اتهامات لعائلتها بتورطها في إدارة شؤون البنك، وذلك بعدما انخفضت قيمة العملة بنحو 23%، منذ تعيينها هي، ووزير الخزانة والمالية محمد شيمشك، لقيادة عملية إصلاح لجذب المستثمرين للسياسات الاقتصادية التركية.

وقالت وزارة الخزانة التركية، إن استقالة أركان، التي عملت سابقاً لدى “جولد مان ساكس”، و”فيرست ريبابليك بنك” بأمريكا، قرار شخصي، وأن الحكومة لديها ثقة ودعم كاملين في فريقها الاقتصادي، وبرنامجها الذي سيستمر دون توقف.

لكن على مستوى الشارع التركي، توجد شكوى أساسية من ارتفاع الأسعار، ففي استطلاع شمل 2000 شخص في جميع أنحاء البلاد، أوضح أن 64.4% من المشاركين يعتقدون، أن ارتفاع تكلفة المعيشة هو أكبر مشكلة في البلاد، تليها البطالة 6.3%.

وأظهرت البيانات الصادرة عن نقابة موظفي الخدمة العامة، أن خط الجوع، الذي يشير إلى المبلغ الذي يتعين على أسرة مكونة من أربعة أفراد، إنفاقها على نفقات الغذاء الأساسية، بلغ 17442 ليرة تركية (572 دولارًا) في يناير، متجاوزًا الرقم القياسي السابق.

يأتي ذلك، بينما سجل عجز الموازنة التركية قفزة بنحو 900% في 2023، والذي شهد انتخابات رئاسية وزلزالين مدمرين في البلاد، ووصل العجز إلى 1.4 تريليون ليرة (حوالي 46.5 مليار دولار)  العام الماضي مقابل 142.7 مليار ليرة في العام السابق.

مشكلات تركيا تتكرر في مصر

تواجه مصر العديد من المشكلات التي تشبه تركيا، منذ خروج أموال ساخنة بقيمة تعادل 22 مليار دولار (تزيد عن نصف الاحتياطي النقدي) في أعقاب الحرب الروسيةـ الأوكرانية، ورفع البنك المركزي الأمريكي الفائدة لمستويات غير مسبوقة، جذبت المستثمرين المولعين بذلك النمط من الاستثمار عالميًا.

تراجع سعر صرف الدولار، منذ خروج تلك الأموال الساخنة بوتيرة مضطردة، ويبلغ في السوق الرسمية مستوى قريب من الليرة التركية، لكنه في السوق غير الرسمية؛ يصل لمستوى 60 جنيهًا، مع ارتفاع بنسبة التضخم، وشح للعملة الصعبة اللازمة؛ لاستيراد مستلزمات الإنتاج، ما رفع مستوى الأسعار بالسوق.

وسجلت المعدلات السنوية للتضخم العام، والأساسي 33.7% و34.2% على الترتيب، في ديسمبر 2023، لكن البنك المركزي يتوقع استمرار الضغوط التضخمية في ضوء إجراءات ضبط المالية العامة، وكذا تواصل الضغوط من جانب العرض.

وقررت لجنة السياسة النقديـة للبنك المركــزي المصـري في اجتماعهـا الأخير، رفع سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة، وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي بواقع 200 نقطة أساس؛ ليصل إلى 21.25%، 22.25% و21.75%، على الترتيب، كما تم رفع سعر الائتمان، والخصم بواقع 200 نقطة أساس؛ ليصل إلى 21.75%.

ترجح بنوك الاستثمار الأجنبية، ووكالات التصنيف الائتماني خفضًا وشيكًا بالجنيه، وآخرها “ستاندرد آند بورز” التي رجحت خفض الجنيه إلى مستويات السوق الموازية (60 جنيهًا)، بينما قالت “مؤسسة كابيتال إيكونوميكس”، إن الجنيه ينزلق سريعا في السوق الموازية، إذ بلغ مستوى قياسيًا منخفضا عند 65.5 جنيها للدولار، قبل أن يتراجع.

ويمثل ارتفاع مستوى الأسعار، وإجراءات التقشف، المشكلة الأساسية للمصريين الذين يرون، أن يناير الماضي كان الشهر الأكثر صعوبة، منذ أن بدأت المشاكل الاقتصادية في البلاد في مارس الماضي مع ارتفاع اسعار الغذاء والخدمات والنقل.

كما ارتفع العجز الكلي في الموازنة إلى 383.1 مليار دولار (12.4 مليار دولار) خلال أول شهرين من العام المالي الحالي 2023/2024، ما يعادل نسبة 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقا لبيانات وزارة المالية الرسمية.

الاقتراض الداء المشترك

رغم أن الاقتصاد التركي متنوع، لكن السياحة تمثل ما يقرب من 12٪ من إيرادات الحساب الجاري، وتظل نقطة الضعف الرئيسية تتمثل في الاعتماد الكبير على الاقتراض الخارجي القصير الأجل، وتدفقات رأس المال.

أسست تركيا نهضتها الاقتصادية قبل 15 سنة بالاعتماد على قروض خارجية، تراكمت ووصلت إلى 482.6 مليار دولار أمريكي في سبتمبر 2023، مقارنة بـ 478.4 مليار دولار أمريكي في يوليو من العام ذاته.

مصر كان لديها نفس المشكلة مع سعي وزارة المالية وراء التمويل الخارجي الرخيص، ما ضاعف الديون ثلاث مرات في آخر عشر سنوات؛ لتصل إلى 164,5 مليار دولار، وفقاً للأرقام الرسمية.

يفترض أن يوفي البنك المركزي بالتزامات خارجية كبيرة خلال العام الحالي، بما في ذلك الأقساط وفوائد الديون، والتي تبلغ نحو 42.3 مليار دولار.

بالنسبة لمصر، يحتل قطاع السياحة أيضًا معادلة كبيرة في مكونات النقد الأجنبي، إذ يمثل ثالث أكبر مصدر للدخل الأجنبي بنسبة، تصل لنحو 13%.

تخفيض الجنيه لن يأتي بالاستثمار

يقول حسن الصادي، أستاذ التمويل والاستثمار بجامعة القاهرة، إن تخفيض سعر صرف الجنيه لن يأتي بالاستثمار الأجنبي، فمن المرجح أن يدفع المستثمرون بعيدًا، فتاريخ الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، يثبت أنه عادة ما يصل إلى ذروته، عندما تكون هناك ضوابط صارمة على العملة من قبل البنك المركزي.

يضيف الصادي، أن عدم سيطرة البنك المركزي على سوق الصرف، تعني أن المستثمرين لا يريدون نقل أموالهم إلى مكان، حيث يتم تداول الدولار في يوم من الأيام مقابل 30 جنيهًا، ثم يتضاعف إلى 60 جنيهًا في اليوم التالي.

تركيا مقومات أكبر للتعافي

لكن لدى تركيا مقومات أكبر للتعافي في ظل تحسن النظرة للتصنيف الائتماني في نهاية 2023، عدلت وكالة ستاندرد أند بورز النظرة المستقبلية للائتمان السيادي لتركيا إلى إيجابية من مستقرة مع انخفاض العجز المزدوج، وأكدت تصنيفها عند “بي”

في المقابل، خفضت “موديز” نظرتها المستقبلية لتصنيف الإصدارات الحكومية المصرية إلى “سلبية” من “مستقرة”، كما أكدت تصنيف الإصدارات بالعملات الأجنبية، والمحلية على المدى الطويل عند “Caa1”..

تستهدف مصر حاليًا، أن تضع نفسها على خريطة تصدير العقار بالخارج (بيعه للأجانب)، لكنها لم تحقق سوى نصف مليار دولار حصيلة مقابل نجاح كبير لتركيا التي تستهدف تحقيق 20 مليار دولار من الصادرات العقارية كل عام، واقتناص حصة تتراوح بين 5% و8% من سوق العقارات عالميًا.

يرى خبراء، أن تركيا ومصر عليهما تبني استراتيجيات مستدامة؛ لتمويل احتياجاتها المالية، وتحسين وضعهما الاقتصادي، دون الاعتماد على الديون الخارجية القصيرة الأجل التي تزيد من مخاطر التدهور المالي.