الأسبوع الماضي، دعا منسق الحوار الوطني، ورئيس الهيئة العامة للاستعلامات ضياء رشوان، لبدء المرحلة الثانية للحوار الوطني، وذلك بناء على دعوة من رئيس الجمهورية. وقال “رشوان” في دعوته التي جاءت عقب نحو أربعة أشهر، من توقف الحوار؛ لإجراء انتخابات الرئاسة، إن الحوار سيتركز خلال بداية مرحلته الثانية على القضايا الاقتصادية التي تشغل الوطن. صحيح أن عديد القضايا الاقتصادية قد ناقشها الحوار في مرحلته الأولى، لكن ما قصده “رشوان” على ما يبدو، هو إكمال ما لم يناقش، وكذلك إجراء ما أسماه “تناول عميق، وشامل للأوضاع الراهنة للاقتصاد المصري، للتوصل إلى توصيات، وإجراءات محددة ومفصلة”.

وقد ردت القوى المدنية على تلك الدعوة، بوضع شروط محددة لقبولها. وكانت تلك القوى قد توافقت مع المؤسسات السيادية للدولة، على تسمية أعضاء مجلس أمناء الحوار الوطني، وحددت وبرضاء منها، ما يقرب من نصف عدد هؤلاء، وذلك من خلال ترشيحات مكوناتها من القوى السياسية، ومن هنا بدأ الحوار الذي دعا له الرئيس عبد الفتاح السيسي في 26 إبريل 2022، من الناحية الإجرائية في 5 يوليو من نفس العام؛ ليبدأ من حيث المضمون في 14مايو 2023.

وكان بيان القوى المدنية الذي أعلن عنه في 30 يناير 2024، قد تناولت أمرين: الأمر الأول هو، موقف القوى المدنية الراهن من الحوار، وهنا أشار البيان، إلى أن ذلك الموقف قد حكمه انتهاء مشاركة القوى المدنية فيه بانتهاء جلساته؛ تمهيدا لانتخابات الرئاسة. أما الأمر الثاني فهو، الرد على دعوة “رشوان” بشكل مباشر، من خلال التأكيد- وعبر أمانتها العامة- أن مشاركة القوى المدنية ستكون مرهونة بالموافقة على تنفيذ المطالب التي تقدمت بها مرارا، منذ انطلاق الحوار وانتهاء أعمال معظم لجانه قبل الانتخابات الرئاسية. وتلك المطالب، وعددها ستة، من دون الاستجابة لها، فإن الحوار برمته لن يتمتع بالمصداقية المطلوبة، ولن يمثل البداية المنتظرة لإصلاح سياسي حقيقي يتطلع إليه المصريون.

وكانت البيان قد ذكر، أن تلك المطالب هي إقرار تعديل قانون الانتخابات، واعتماد نظام القائمة النسبية، وتعديل قانون الحبس الاحتياطي بإبدال العامين بستة أشهر، والإفراج عن سجناء الرأي، بمن فيهم سجناء فترة الانتخابات الرئاسية، ومعارضي حرب إسرائيل على غزة، والتوقف عن القبض على المواطنين المعبرين عن آرائهم سلميا على مواقع التواصل الاجتماعي، وتخفيف القيود المفروضة على الإعلام، وتمثيل مختلف التوجهات، والآراء السياسية في المجتمع، ورفع الحجب عن مئات المواقع الإخبارية والحقوقية المحلية والعربية والدولية.

وواقع الأمر، أن تلك الدعوة والشروط الخاصة بالرد عليها- على أهميتهما- تتسم بعديد السمات الشكلية والمضمونية، لعل أهمها: –

أولا: أنها دعوة، رغم كونها تؤكد على مناقشة الأمور الاقتصادية، إلا أنها لم تغلق الباب أمام مناقشة الأمور السياسية، والاجتماعية المعلقة، والتي لم تناقش في الحوار؛ بسبب ضيق الوقت، أو أنها استجدت خلال الفترة السابقة. ما يجعل من الموافقة على الدعوة أمر محتمل، خاصة وأن قضايا البدء- ذات الطابع الاقتصادي- مبررة بسبب الأوضاع الصعبة التي يعاني منها الاقتصاد المصري في الوقت الراهن.

ثانيا: من واقع ما تم إحرازه بجولة الحوار الأولى، وموقف القوى المدنية من قضايا الحوار في المرحلة القادمة، كما ورد في بيانها الأخير. يتبين أن هناك قضايا بعضها قد تطرق له الحوار بالفعل، وأخذ فيه مواقف توافقية. فقانون الانتخابات لم يفلح الحوار في تبني موقف موحد بشأنه، ما جعل المنسق العام– وقتئذ- يتجه لموقف وسط، يعبر عن كافة الآراء التي طرحت، وكان هذا الموقف الوسطى ناتجا عن تشبث بعض القوى الحزبية بنظام القوائم المطلقة المعيب، لحاجتها للتمثيل بالبرلمان وفق القوائم المطلقة التي تعني في حقيقة الأمر التزكية أو التعيين عمليا، وهو نظام يزور إرادة الناخبين بنقل أصواتهم، لمن لم ينتخبهم الناخب. بعبارة أخرى، أن تلك القوى كانت ولا زالت ترفض أن تخوض انتخابات حرة نزيهة، تخشى معها لو قامت، ألا تفضي إلى تواجدها في البرلمان؛ بسبب شعبيتها الضحلة، وربما المنعدمة في الشارع؛ بسبب حال النظام الحزبي الرث في النظام السياسي المصري، والعائد لأسباب من داخل وخارج الأحزاب على السواء. وقد بدا أن قوى من خارج الأحزاب تعاضد تلك الأحزاب في موقفها، باعتبارها سندها الرئيس في وجود برلمان، يتسم ببقاء الخلل البين بين السلطات، ما يجعل الحاجة الماسة لبقاء برلمان تمريري أكثر من كونه برلمان حقيقي له سلطات حقيقية، كما في الدول المتمدينة.

ثالثا: أن وضع القوى المدنية لشروط للمشاركة يعني من وجه نظرها، أن الحوار القادم حال مشاركتها فيه لن يركز على القضايا الاقتصادية، كما أشار المنسق العام للحوار فقط، بل سيتعدى ذلك لقضايا سياسية عديدة، بعضها نوقش، وسيعاد فتحه (الانتخابات)، وبعضها لم يناقش (الحبس الاحتياطي). بعبارة أخرى، سيعاود الحوار– وفق تلك الرؤية- مناقشة جميع القضايا، والأولوية له هو السياسة وليس الاقتصاد.

رابعا: أن القضايا التي وضعتها القوى المدنية كشروط للعودة لمائدة الحوار بعضها محدد جدا، كالانتخابات والحبس الاحتياطي وأوضاع السجون، وبعضها الأخر يبدو عليه الطابع الهلامي غير المحدد، مثل الحديث عن التوقف عن سياسة القبض على المواطنين… إلخ، وهي عبارات، لا تتسم بالدقة والحسم والتحديد، ما يعني، أن المجال والأفق يبدو متسعًا؛ للوصول إلى حلول وسط بين الطرفين، أى أن هناك مواقف رمادية تحتمل التوافق على مساحات مشتركة بين مختلف الفرقاء، قبل بدء الجولة الثانية من الحوار.

خامسا: أن بعض الشروط التي وضعتها القوى المدنية للمشاركة في الحوار الوطني يعوذ بعضها الدقة، خذ مثلا الحديث عن الموقف من الحبس الاحتياطي، وكونه يحتاج إلى العودة إلى الإجراءات السابقة بالحبس ستة أشهر بدلا من العامين، هو تسطيح وتبسيط للأمور، لأن قضية الحبس الاحتياطي تبدو أعمق، وأكثر جدلا من هذا الوضع الساذج. فالأمور تبدو مرتبطة بوجود بدائل للحبس بداية، وكذلك معالجة الوضع بعد انتهاء الحبس، خاصة بشأن المنع من السفر أو تجميد الحسابات البنكية، ناهيك عن تدوير مسألة الحبس، أو ما يعرف بتصفير عداد المدة؛ للبدأ في مدد أخرى بقضايا جديدة…. إلخ. كل تلك الأمور لم يتطرق لها بيان القوى المدنية، مكتفيا بأمر واحد في الحبس الاحتياطي ورد على سبيل الحصر لا المثال.

سادسا: يرتبط بما سبق مباشرة بيان القوى المدنية عن تخفيف القيود المفروضة على وسائل الإعلام، والتوقف عن سياسة القبض على المواطنين؛ بسبب التعبير عن الرأي، وكل تلك المواقف يبدو عليها الهلامية وعدم الوضوح، وهي إما أنها وردت من غير من هو مدرك لهذا الموقف الغائم وغير المحدد بدقة، أو أنها– وهذا هو المرجح- صدرت؛ كي تكون محلا للتفاوض أو الحلول الوسط، بحيث يجرى الأخذ ببعضها. هنا كلنا يتذكر الموقف من الموقوفين في قضايا الرأي، والتي اشترطت الحركة المدنية الإفراج عنهم قبل بدء الحوار في جولته الأولى، فإذ بالحوار يبدأ قبل الإفراج عن العدد المطلوب، وتقوم السلطة تباعًا بالإفراج عن البعض، دون العدد المحدد كله، بعد عدة أسابيع– وليس أيام- من بدء الحوار.

سابعا: أن الطرف المقابل المتلقي للبيان المتضمن شروطًا، على ما يبدو أنه وكما جرت العادة، لن يرفضها كلها، ولن يقبلها كلها. هنا ومن واقع الخبرة السابقة، ومع التقدير لقدرات المنسق العام التفاوضية، وقدرة السيد كمال زايد عضو مجلس الأمناء الذي سبق، وأن خاض جولات تفاوضية للوصول إلى حلول وسط، كلما تعثر الحوار. هذا الأمر على الأرجح سيفضي إلى القبول الجزئي من كافة الأطراف بالحوار، فالقوى المدنية تريد المشاركة مع الحفاظ على تماسكها ووحدتها؛ بسبب المعارضة الكبيرة داخل بعض مكوناتها لطريقة سير الحوار، والسلطة على الطرف المقابل ترغب هي الأخرى في ظل الأزمة الاقتصادية حالكة السواد، أن تعزز من تواجدها الشعبي الذي وصل إلى حال انحسار غير مسبوق، فتبدى مرونة لبدء حوار، ثبت إعلاميا، أنه يرسم نوع من استعادة القبول لها في الشارع، كما ثبت لها أن القوى المدنية لا يماثلها، أو تضاهيها قوى على الساحة الآن؛ كي تكون شريكا وندا لها في آن.