بتوقيت واحد، طرح السؤال المصري نفسه بطريقتين مختلفتين على صفحات مطبوعتين غربيتين نافذتين.
مرة بتجهيل حضورها في حسابات الشرق الأوسط، كأنها حذفت من فوق خرائطه وتفاعلاته، أو باتت مواقفها مضمونة مسبقا.. ومرة أخرى بتأكيد أهميتها الجيوسياسية، وأن العالم لا يحتمل انهيارها تحت وطأة أزمتها الاقتصادية المتفاقمة.
النظرة الأولى، تبنتها “النيويورك تايمز”، أكثر الصحف الأمريكية نفوذا وتأثيرا، بمقال صادم لكاتبها المثير للجدل “توماس فريدمان”.
بتشبيهات أفرطت في عنصريتها، أطل على صراعات الشرق الأوسط، كاشفا ترتيبات سياسية واستراتيجية، يخطط لها الآن في إدارة “جو بايدن”، لم يأت فيها على ذكر مصر.
والنظرة الثانية، تبنتها “الإيكونوميست” الاقتصادية البريطانية في تقرير لافت عن الوضع الاقتصادي المصري الحرج، يحمل النظام الحالي مسئوليته، لكنه يحذر بالوقت نفسه من تداعياته على مستقبل الإقليم كله داعيا إلى دفعة إنقاذ مالية عاجلة.
في النظرتين تتناقض حسابات المستقبل بصورة فادحة بين التجهيل بالموقع الجيوسياسي المصري، ولفت الانتباه إليه، حتى لا تخطئ الاستراتيجيات الغربية في تقدير مواضع أقدامها، فمصر بحكم موقعها وتعداد سكانها، وما يمكن أن تضطلع به من أدوار، يصعب تجاهل احتمالات انهيار اقتصادها العليل.
بدا مقال “فريدمان”: “كيف نفهم الشرق الأوسط من خلال مملكة الحيوانات” مثالا عنصريا؛ لتسطيح الصراع بأكثر أقاليم العالم اشتعالا بالنيران، ولطبيعة وجذور الحرب على غزة.
“أحيانا أفكر في الشرق الأوسط من خلال مشاهدة محطة الـ C.N.N، وفي أوقات أخرى أفضل محطة كوكب الحيوانات”.
“إيران بالنسبة للجغرافيا السياسية نوع من الدبابير الطفيلية”، هكذا بالحرف.
“الحوثيون وحزب الله وكتائب حزب الله، هم البيض الذي يفقس داخل المضيف في اليمن، ولبنان والعراق وسوريا”.
هكذا مرة أخرى.
“حماس مثل العنكبوت، تقفز بسرعة كبيرة من مخبأها؛ لتمسك بفريستها، وتعيدها إلى المخبأ؛ لالتهامها خلال جزء من الثانية”.
هكذا مرة ثالثة.
قاصدا بالمخابئ، أنفاق غزة، كأنه يضفي صفة الضحية على الجيش الإسرائيلي، رغم جرائم الإبادة الجماعية، التي يرتكبها في القطاع المحاصر.
“الولايات المتحدة، مثل الأسد العجوز، لكنه ما زال ملك غابة الشرق الأوسط”.
“لم تعد الحيوانات المفترسة الأخرى، تخشى اختبار قوتنا”.. كان ذلك تحريضا مباشرا على استهداف إيران وحلفائها بالسلاح.
إنها نفس نظرة رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، رغم خلاف الرؤى بينهما في مواضع عديدة باستثناء إنكار عدالة القضية الفلسطينية.
من ناحية موضوعية، فإن الولايات المتحدة فقدت جانبا كبيرا من هيبة القوة، ومكانة الدولة العظمى الوحيدة.
وقد تلقت هزيمتين استراتيجيتين في أوكرانيا وغزة.
لم يستطع “فريدمان” إخفاء انحيازاته المطلقة لإسرائيل، وآلة الحرب والتخريب فيها، رغم تحولات الرأي العام الأمريكي، التي تميل الآن أغلبية ظاهرة فيه إلى دعوات وقف إطلاق النار فورا، وبينهم قطاعات واسعة من اليهود الأمريكيين الشبان.
“وأخيرا، فإن نتنياهو يشبه نوعا من القرود، التي تتقدم عن طريق التحرك جانبيا، والتلويح بأذرعها لأعلى ولأسفل، مما يجعلهم يبدون، وكأنهم يتحركون أكثر مما هم عليه بالفعل”.
“هذا هو نتنياهو الذي يتنقل دائما من جانب إلى آخر؛ للبقاء في السلطة، وتجنب التراجع بشكل حاسم إلى الوراء، أو إلى الأمام”.
رغم نقده الحاد لـ “نتنياهو”، فإنهما يقفان في نفس المعسكر الصهيوني.
تكاد تشبيهاته، أن تتماهى في وصف إيران، وحلفائها مع ما صرح به وزير دفاعه “يوآف جالانت”، من أن الفلسطينيين “حيوانات بشرية”.
أسوأ ما قد يحدث، أن تفضي هذه اللغة العنصرية إلى استخدام لغة مماثلة في الرد عليه.
كان جوهر ما أراد أن يصل إليه: “ليس لدينا استراتيجية مضادة، تقتل الدبور بأمان، دون إشعال الغابة بأكملها”.
بصياغة أخرى، التخلص من إيران بأقل كلفة ممكنة.
بنص كلامه، فإننا “أمام لحظة فارقة بالشرق الأوسط”، حيث تجد الولايات المتحدة نفسها أمام اشتباكات مع الحوثيين في البحر الأحمر، واحتمالات توسيع نطاق الحرب على الجبهة اللبنانية، وقرب اتفاق تسوية مع “حماس”، يعود بمقتضاه الأسرى الإسرائيليون في غزة، دون أن يبدو مستعدا، أن ينظر في أسباب الصراع وجذوره، فهو ينكر على الفلسطينيين حقهم في مقاومة الاحتلال الجاثم وفق المواثيق والقوانين الدولية، التي تنزع عن المحتل أية أحقية باسم الدفاع عن النفس.
بدا واضحا في مقالاته المتتالية تبنيه الكامل للاستراتيجية التي يتأهب “بايدن” لإطلاقها، والعمل وفق مقتضياتها في الشرق الأوسط من ثلاثة محاور.
الأول، اتخاذ موقف قوي وحازم ضد إيران.
الثاني، إطلاق مبادرة دبلوماسية؛ لإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح في أقرب وقت ممكن بالضفة الغربية وغزة.
ليس من مصلحة مصر الترويج لأقل مما يطلبه الفلسطينيون، مثل أن تكون الدولة الفلسطينية المقترحة منزوعة السلاح.
الثالث، تشكيل تحالف أمني واسع النطاق، يضم الفلسطينيين وإسرائيل والولايات المتحدة والسعودية.
التطبيع مع السعودية على جدول الأولويات الأمريكية كحافز جوهري؛ لاعتراف ما بدولة فلسطينية منزوعة السلاح تحت قيادة سلطة فلسطينية متجددة.
التطبيع الآن، والدولة على مراحل أخرى.
قد يطلب من مصر الانضمام إلى التحالف الأمني المقترح واسع النطاق.
في مواجهة من؟
الإجابة التي يمكن استنتاجها، دون عناء: إيران وجماعات المقاومة كلها.
إيران ولا دولة أخرى غيرها.
إنه “أكبر إعادة اصطفاف استراتيجي في الشرق الأوسط، منذ كامب ديفيد”، كما وصفه بالضبط.
هذه دعوة للحرب توريطا لمصر والسعودية ودول عربية أخرى في حرب لصالح إسرائيل وأهدافها.
أين مصر في كلام “فريدمان”؟.. لا إشارة واحدة إليها سلبا أو إيجابا.
وأين تركيا؟.. نفس درجة التجهيل بموقعها الجيوسياسي، وعضويتها في حلف “الناتو”.
إنها الحسابات والمصالح الإسرائيلية، حتى يمكن إضعاف أية أدوار مفترضة للاعبين الإقليميين المصري، والتركي مقابل انفرادها بقيادة المنطقة.
بأية مصارحة بالحقائق، فإن إيران نجحت بفضل استراتيجيتها في دعم، وتسليح وتدريب المقاومة، أن تكتسب صفة الدولة الإقليمية العظمى.
تجاهل الدور المصري، ينطوي على إنكار صريح للحقائق الجيوسياسية في الإقليم المشتعل بالنيران، وهو ما التفت إليه “الإيكونوميست”، التي دأبت على نشر تقاريرها، دون توقيع كاتبيها، فكل ما ينشر فيها باسم هيئة تحريرها.
بعبارات ذات دلالات عميقة لأهمية الموقع الجيوسياسي المصري قالت: “إن احتمالات الحرب أو السلام في الشرق الأوسط تعتمد على العديد من الأطراف مثل، الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل والفلسطينيين والحوثيين في اليمن والسعودية وغيرهم، غير أن هناك دولة واحدة أكثر أهمية، مما يدركه غالبية الناس هي مصر”.
في مصر نفسها هناك من لا يدرك قيمة موقعها.
“الانهيار احتمال قائم بدرجة مخيفة بالتزامن مع أزمة مالية متصاعدة”.
لم تبد المجلة أدنى تفهم، أو تعاطف مع نظام الحكم الحالي.
بلغة خشنة قالت: “إنه لا يستحق صفقة إنقاذ مالية جديدة”.
“على الرغم من ذلك فلا مفر من صفقة إنقاذ عاجلة”.
“تستطيع مصر، أن تلعب دورا حيويا في المساعدة على تأمين قيام دولة للفلسطينيين، وتوفير الأمن داخل قطاع غزة.. أما في حالة انهيارها، فقد يزيد ذلك من زعزعة استقرار الشرق الأوسط”.
تكاد نفس المعاني والرسائل، أن تكون من المسلمات في المرايا الغربية للأوضاع الحرجة في مصر.
كان ذلك تحذيرا واضحا وصريحا للغرب كله.
“إذا ما انفجرت الأوضاع الاجتماعية بمصر في ظل الحريق المشتعل في الشرق الأوسط، فإن المنطقة لن تستطيع تحمل اشتعال مصر أيضا”.
قوة مصر أساسا وقبل أي شيء في موقعها الجيوسياسي الذي لا غنى عنه.
هذه حقيقة أولى.
الغرب ليس جمعية خيرية تتطوع بإنقاذ اقتصاد الدول الأخرى.
الإسناد الاقتصادي العاجل له مقابل سياسي باهظ.
هذه حقيقة ثانية، لا بد أن ندركها، ونتحسب لأخطارها التي قد تأخذ من البلد قدرته على صنع مصيره بنفسه.