تبدو تطورات الأوضاع في السودان مفتوحة كعادتها على سيناريوهات مفزعة، على مستوى المستقبل المنظور لملايين من السودانيين داخل وخارج السودان، وأيضا للجوار الإقليمي المباشر والمتاخم، من حيث تصاعد مستوى التهديدات الأمنية، كما أن هذه التطورات هي عنصر مضاف؛ لزعزعة أمن البحر الأحمر الذي يواجه تهديدات بالجملة، ولكن هذه المرة من الساحل السوداني الممتد لما يقارب من ٦٠٠ كليو.

وربما ما دفع الأحداث السودانية إلى واجهة الاهتمام في الآونة الأخيرة، ما رشح عن القبض على ثمانية عناصر عسكرية قيادية من القوات المسلحة السودانية في منطقة أم درمان، فيما وصف أنه انقلاب عسكري، وهي العملية التي تزامنت مع زيارة قيادي بارز في المجلس السيادي، ولم يتم توضيح رسمي بشأنها من جانب القوات المسلحة السودانية، على الرغم من أن المقبوض عليهم هم قيادات رفيعة المستوى عسكريا، منهم قائد المتحرك الاحتياطي في معسكر كبير، ومدير الإدارة الفنية بالدفاع الجوي، ومسؤول عن الرادارات وأجهزة التشويش المضاد للمسيرات، ومسؤول عمليات الدعم، والإسناد الاستراتيجي لمواقع المدرعات.

في هذا السياق، نلاحظ أن حالة تعدد صناعة القرار التي كنا قد رصدناها، منذ فترة في معسكري الفريقين المتحاربين، أي الدعم السريع والجيش السوداني، اقترب من أن يتحول إلى حالة فوضى، وتفكك حقيقي، بشواهد أن يصدر بيانان متناقضان من منصات قريبة من القوات المسلحة السودانية، أحدهما يؤكد عملية اعتقال الضباط، وآخر ينفيها، وبشواهد إضافية منها، تنفيذ عمليات محاكمات، وإعدامات غير رسمية لعناصر عسكرية في القوات المسلحة على أسس عرقية، خصوصا في غرب السودان .

وبطبيعة الحال، هذا الأداء يتسبب في حالة من التململ الكبير، وعدم الرضا في فضاء الجيش السوداني، وذلك لأسباب متعلقة بربط العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش بقيادات ميدانية مدانة من جانب المحكمة الجنائية الدولية، مثل أحمد هارون، وهي ما يجعل المسئولية السياسية عن أي تجاوزات، يتم ممارستها تقع على الجيش السوداني، وذلك فضلا عن  القفز على العناصر العسكرية الرسمية، من حيث إسناد قيادة عمليات عسكرية إلى مجموعات مدنية خارج الجيش في قطاعين، هما: القوات المستنفرة على أسس أيدولوجية أو قبلية، أما الثاني، فهو القوات التابعة للحركة الإسلامية التابعة لعلي كرتي وزير الخارجية الأسبق..

هذا الأداء العسكري، تسبب في وجود انعكاسات ميدانية مضرة بحالة تماسك الجيش، ووزنه في المعادلة الراهنة، كما تسبب في وجود شرخ على الصعيد السياسي في سياق المجلس السيادي الذي ينحاز رئيسه الفريق عبد الفتاح البرهان، إلى فكرة تجنيد المدنيين، ويمارس تفاعلات سياسية وعسكرية مع الجبهة القومية الإسلامية، وبين مالك عقار عضو المجلس السيادي الذي اعتذر عن قيادة القوات المستنفرة أولا، ثم حذر لاحقا، في تصريحات مسهبة عن خطورة تسليح المدنيين في الصراع السوداني القائم، والذي يفتح الباب أمام توسيع الصراع وتشعبه.

وإذا كان الجيش السوداني يملك حواضن شعبية حقيقية، ووزنا معنويا كبيرا؛ بسبب كونه الجيش الرسمي القومي، فإن حالة التفكك في صناعة القرار العسكري تضره، من حيث القدرة على توفير داعمين إقليميين له، على المستوى العسكري، ذلك أن الكثير من العواصم الإقليمية قد تجد مخاطر كبيرة في تقديم هذا الدعم، وقد تبدو هذه المحاذير الإقليمية  التقليدية بمستوى أقل لدى طهران بطبيعة الحال، و التي بالتأكيد ستحقق مكسبا كبيرا بضم السودان إلى ساحات المواجهة الحالية، مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن مشكل الساحة السودانية أنها سوف تنقل مستوى الصراع الراهن إلى مستو جديد، يمكن أن يوصف بحرب إقليمية، قد يكون فيها مستوى الخسائر الإيرانية أعلى من المكاسب.

في المقابل، فإن قوات الدعم السريع تعاني من تفكك مواز، حيث لا تسيطر القيادة على جميع القوات المنتمية إليها، طبقا لاعترافات محمد حمدان دقلو حميدتي، في كمبالا عقب ظهوره بعد فترة غياب طويلة، وإذا كان الرجل يحاول التنصل من المسئولية السياسية، والأخلاقية التي في رقبته، فإنها لا تنفي حالة فوضي في قواته، ولكن يقلل من تأثيرها أمرين: أن للدعم السريع حاضنة سياسية مبلورة لديها مشروع سياسي بغض النظر عن مدى الاتفاق، أو الاختلاف مع محتوى هذا المشروع، وآلياته وكذلك التمتع بوجود داعم إقليمي محدد وواضح، لا يقدم فقط دعما عسكريا ولوجستيا، ولكنه أيضا يقدم جهودا إعلامية، وتشاورية على المستوى السياسي .

حالة التفكك السياسي والعسكري في السودان، عرقلت حتى الآن جهودا دولية وإقليمية مشتركة، جرت في كل من القاهرة والمنامة خلال الفترة الأخيرة بتمثيل سياسي وعسكري متابين التمثيل من الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، وأيضا بعض حركات دارفور المسلحة، حيث تم ذلك برعاية من كل من الولايات المتحدة، وفرنسا والسعودية ومصر ودولة الإمارات.

في هذا السياق، تتحرك الولايات المتحدة نحو تعيين مبعوث جديد للسودان، هو “توم بيرييلو”، باعتباره خبيرا في حل الصراعات، ولكن من غير المعروف حجم الدعم الذي سوف يلقاه هذا الخبير من دعم من الإدارة الديمقراطية التي تعاني ضعفا داخليا في مرحلة التحضير للانتخابات، كما أنها مشغولة إلى حد كبير في تفاعلات حرب غزة.

أما على صعيد الاتحاد الأوروبي، فإن منهجه في ممارسة ضغوطات على طرفي الصراع؛ للوصول إلى آلية تفاوضية، هو إقرار عقوبات على شركات تابعة لكل من الجيش، والدعم السريع على نحو متساو، على أن آلية العقوبات التي تم طرقها قبل ذلك، لم تسفر عن تغيير كيفي في مواقف الأطراف المتسارعة، حيث يبدو أنهما قد تحسبا لمثل هذا النوع من العقوبات، ويجدان طريقا؛ للقفز عليها عبر علاقات مستترة بأطراف دولية لديها مصالح في السودان، وتريد أن تكون على تواصل مع طرفي الصراع العسكري؛ لضمان مقعد لها في أي معادلات قادمة.

في تقديرنا، أن التحركات والضغوط الدولية والإقليمية، رغم تضافرها في بعض المحطات، تبدو أضعف، وأقل من المطلوب؛  لتحقيق هدف اللحاق بالسودان قبل انهياره الكلي، وتفكيكه، حيث تركز حاليا كافة المجهودات السياسية العالمية، والإقليمية على حرب غزة، على اعتبار أنها باتت مهددة باتساع نطاق الحرب على مستوى إقليمي، وعلى اعتبار أنها مؤثرة على الاقتصادات الإقليمية والدولية، أما حرب السودان الأهلية، فإن تداعياتها السلبية باتت متحققة بالفعل، على الصعيد الجيوسياسي؛ بسبب عامل الحرب في غزة، من حيث تأثيرها على أمن البحر الأحمر.

أما الأثمان الإنسانية البشعة التي يدفعها يوميا أهل السودان، خصوصا النساء، فيبدو واقعيا، أنه لا أحد يلتفت إليها على الرغم من الحجم الكبير من تشريد للسكان، والذي وصل إلى سبعة ملايين نسمة، وفقدان مقدراتهم الاقتصادية من بيوت، وسيارات وغيره، وكذلك التداعيات المدمرة للقطاعات الشبابية، لمن هم في سن التكوين والتعليم، فإنه لا أحد يسمع بهؤلاء جميعا، وتبدو المجتمعات التي تستضيفهم تواجه تحديات حقيقة متعلقة بتلبية حاجاتهم الأساسية، والمتنوعة وكذلك محاولة إدماجهم الاجتماعي والثقافي.