من يعرف دور وأهمية مجلة الإيكونوميست البريطانية، لا بد له من التعامل بجدية بالغة مع دعوتها الأخيرة؛ لتقديم ما يلزم من المساعدات المالية؛ لإنقاذ مصر من أزمة المديونية والأزمة المعيشية لمواطنيها، وذلك على الرغم من تحفظ المجلة نفسها على ضعف أداء الحكومة المصرية عموما، وفي الجانب الاقتصادي على وجه الخصوص.

هذه المجلة التي تأسست عام ١٨٤٣، تشكل رأس مثلث صحف الاقتصاد السياسي الكلاسيكية في الغرب الرأسمالي، جنبا إلى جنب كل من صحيفة فايننشال تايمز البريطانية أيضا، وصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، وهذا المثلث هو جزء عضوي من القيادة الاقتصادية، والسياسية للنظام العالمي للرأسمالية، تتحدث باسمه، وتعبر عن اتجاهاته، وتمهد لقراراته الكبيرة ذات التأثير العالمي، في السياسة وفي الاقتصاد.

بناء على ذلك، فحينما تدعو الإيكونوميست؛ لإنقاذ مصر، رغم عدم كفاءة نظامها الحاكم، وحين تعدد المجلة حيثياتها (المقنعة) لهذه الدعوة، فهي إذن تتحدث عن علم عن قرار اتخذ، أو سيتخذ قريبا، لدى المؤسسات المالية الدولية، ونظيرتها الأمريكية والأوروبية.

أما الحيثيات التي أوردتها المجلة العريقة لحتمية مساعدة مصر، مهما يكن الرأي في نظامها السياسي، فهي أن مصر دولة ضخمة، يعيش فيها ١١٠ ملايين من الأشخاص، وهي تدير قناة السويس، وتشترك مع قطاع غزة في الحدود، وتحافظ على اتفاقية السلام مع إسرائيل، ويمكن أن تلعب دورا حيويا في صياغة، وإخراج مشروع الدولة الفلسطينية، وأن تساهم في توفير الأمن في ذلك القطاع الفلسطيني، الذي تحكمه حماس، وتدور فيه رحى الحرب الحالية، وأن انهيارها سيؤدي إلى زعزعة المنطقة كلها.

اللافت في هذه الحيثيات المقنعة، أنها كلها ليست اكتشافات جديدة لا من الإيكونوميست، ولا من غيرها، فقاعدة أنه  لا يمكن ترك مصر تغرق، كما لا يمكن السماح لها بالنهوض الكبير، هي قانون استراتيجي غربي، اكتشف منذ دولة محمد علي، وأعيدت صياغته بواسطة سير رالف ستيفنسون آخر سفير بريطاني في القاهرة، قبل استيلاء ضباط يوليو على السلطة عام ١٩٥٢، ولكن ما يمكن اعتباره جديدا في سردية الإيكونوميست، هو ظرفيتها الدقيقة جدا والحساسة جدا، والمهمة جدا جدا، بمعنى أن إعادة اكتشافها وإبرازها، وإقناع قراء الإيكونوميست بها، سواء كانوا من متخذي، أو صناع أو ومؤيدي  السياسات الغربية الرأسمالية… كل ذلك مرتبط بخطة موسعة، تم إقرارها على أعلى مستوى، لإعادة ترتيب الشرق الأوسط، بعد توقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وهذه الخطة تعرف الآن، باسم مذهب بايدن للشرق الأوسط، الذي كتبنا عنه في مقال السبت الماضي هنا، والذي يتكون من ثلاثة أركان هي: الدولة الفلسطينية، والتحالف الدفاعي الأمريكي السعودي الإسرائيلي، مع تطبيع العلاقات بين الرياض وبين تل أبيب، ثم المواجهة الساخنة مع إيران، و الميليشيات المتحالفة معها في عموم المنطقة.

إن هذه العناصر الثلاثة في مذهب بايدن تترابط جدليا فيما بينها، أي تعتمد على بعضها البعض في علاقة تفاعل تبادلية، فلا تطبيع سعودي إسرائيلي، دون دولة فلسطينية، أو على الأقل، دون مسار واضح نحو تأسيسها، ولا تحالف سعودي أمريكي إسرائيلي ضد إيران، دون ذلك التطبيع، ولا مواجهة ساخنة عسكريا، تكفي لنزع مبررات الدور الإيراني في المشرق العربي، على الأقل، دون تحالفات سياسية، ترتكز على التحالف الثلاثي بين الرياض وواشنطن وتل أبيب،  فماذا في هذا التصور، يجعل لمصر دورا ظرفيا استثنائيا في إنجاحه، و يدفع الغرب، والإقليم أيضا إلى إنقاذ مصر اقتصاديا؟

الإجابة هي الدور الأساسي المتوقع من مصر في اليوم التالي؛ لتوقف القتال في غزة، ثم في تأسيس الدولة الفلسطينية، التي هي ركن رئيسي في مذهب بايدن، كما رأينا، وذلك بشروط مقبولة لإسرائيل، من حيث الأمن والديموجرافيا، وشروط مقبولة للفلسطينيين، من حيث السيادة، وقابلية تلك الدولة للحياة، ولا يماثل دور مصر في هذه النقطة بالذات، إلا دور الأردن. أما في الحد الأدنى المطلوب من مصر، فهو المساهمة في إدارة انتقالية لقطاع عزة أمنيا، واجتماعيا واقتصاديا، حتى قيام سلطة فلسطينية مؤهلة، تصلح بداية لمشروع الدولة، أو إلى أجل غير مسمى، إذا تخلف شرط من تلك الشروط.

تدرك الحكومة الأمريكية، والحكومات الأوروبية، أن مصر ترفض بصفة قاطعة، أن تتحول إلى شرطي، يضبط الفلسطينيين في غزة لحساب إسرائيل، مثلما تدرك أن مصر ترفض كذلك بلا لبس استقبال نزوح فلسطيني جماعي عبر حدودها، سواء كان بغرض العبور أو اللجوء المؤقت، أو الإقامة بين عموم المصريين، فضلا عن الرفض القاطع والنهائي أيضا، من حيث المبدأ لتوطين كثيف للفلسطينيين في أي مكان في سيناء، وذلك عل نحو ما أوضحه الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصيا في مؤتمره الصحفي المشترك، مع المستشار الألماني أولاف شولتس. وللأسباب التي أسهب الرئيس في شرحها في تلك المناسبة، والتي تتلخص في أن هذه وصفة؛ لإفساد العلاقات السلمية بين مصر وإسرائيل، إذ ستعتبر القاهرة مسئولة عن أي فعل مقاوم تجاه إسرائيل ينفذه أي فلسطيني من سيناء.

إذن ما المقابل تحديدا لمعونات الإنقاذ التي تتحدث عنها الإيكونوميست؟

لقد راجت تقارير داخل مصر وخارجها، بأن العرض الذي رد عليه الرئيس السيسي في مؤتمره الصحفي المشار إليه، مع المستشار الألماني، لا يزال ساريا، وهو مقدم باسم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ويبلغ فيما يقال مائة مليار دولار، لكن الذي ليس واضحا، هو هل المطلوب من مصر هو الحد الأقصى، أي توطين أعداد كبيرة من الفلسطينيين داخلها، لإنقاذ إسرائيل، مما يسمى بالقنبلة الديموجرافية، أي من تزايد أعداد الفلسطينيين، الذي ينذر على المدى الطويل بتحول اليهود إلى أقلية في فلسطين التاريخية؟ أم هو الحد الأدنى أي المشاركة في جهد جماعي عربي، ودولي لإدارة مرحلة انتقالية في غزة بالذات، ثم في إصلاح وتأهيل السلطة الفلسطينية، تحت مظلة الأمم المتحدة، وفي هذه الحالة ستكون المعونات المقترحة عدة عشرات من مليارات الدولارات.

أتوقع أن يكون السيناريو الثاني هو الأرجح، لتلبيته لتحفظات مصر، و من أسباب هذا الترجيح أيضا ذلك المشروع المفاجئ لأفيجدور ليبرمان، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، والمرشح الدائم لدخول الحكومة الحالية كبديل مفضل لدى رئيس الوزراء نتنياهو لكل من وزراء التطرف اليميني، ووزراء الوسط، ويمين الوسط، ففي ذلك المشروع، يقترح ليبرمان إعادة غزة للإدارة المصرية! وتقاسم السيادة على الضفة الغربية بين إسرائيل والأردن، وبذلك تضمن إسرائيل الأمن، وتحبط مشروع الدولة الفلسطينية، وهو بالقطع ما يحبذه نتنياهو وحزبه.

بالطبع ليس هذا بالضبط ما يمكن، أن تقبله مصر ولا الأردن، ولكنه يشير إلى محاولة إسرائيلية؛ لتلبية متطلبات مذهب بايدن وشروط السعودية، كما يشير إلى التسليم الإسرائيلي بحقيقة رفض كل من مصر والأردن مبدأ ترحيل أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى كل منهما، وتوطينهم في البلدين، وهذه هي الإيجابية الوحيدة في تطور الموقف الإسرائيلي.

في اعتقادي، أن تجاوب مصر مطلوب مع أي مشروع دولي، تحت غطاء الأمم المتحدة والجامعة العربية، وبتعضيد أمريكي سعودي للمشاركة في إدارة مرحلة انتقالية في غزة والضفة، بالشروط السابق إيضاحها، أي بما لا يجعل القاهرة شرطيا إسرائيليا ضد الفلسطينيين، فهذا سيكون في مصلحة الجميع، ومصلحة السلام نفسه، فضلا عن أنه ليس مقابلا سياسيا، يسيء لمصر، للمعونات التي تدعو الإيكونوميست لتقديمها لنا، رغم تحفظاتها سابقة الذكر.

نقطة أخرى هي، أن المشاركة في هذا المشروع ستدفع العلاقات المصرية الأمريكية نحو التحسن الشامل، بما قد يكرر سابقة إسقاط الديون المصرية مكافأة؛ للمشاركة في حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي، وإن كان معظم الدين المصري الحالي ليس للحكومات، باستثناء المديونية الصينية، وبما يجنب تلك العلاقات المصرية الأمريكية، الأزمة الصامتة الخطيرة التي اندلعت بين الرئيس السابق حسني مبارك، وبين الرئيس الأمريكي بوش الابن؛ بسبب رفض مبارك (المحق ) طلبا من بوش الصغير لإرسال قوات مصرية إلى العراق، عقب الغزو الأمريكي ضمن قوة حفظ سلام من دول إسلامية سنية.!!