عرفت مصر كون المصريين في الخارج، أنهم مصدر رئيس، ويعتمد عليه للعملات الأجنبية، وذلك مع تزايد حجم الهجرات إلى بلاد النفط عقب سياسة الانفتاح التي أعقبت حرب أكتوبر1973. ومنذئذ، والدولة لا تريد أن تغمض عينها أبدا على المصريين في الخارج. خلال تلك العهود، منذ السادات إلى السيسي، مرورا بمبارك ومرسي، ظلت مصر تكابد من أجل مغازلة هؤلاء. لكن يبدو أن الأمر خلال السنوات القليلة الماضية فاق كل اهتمام. ففي وزارة إبراهيم محلب الثانية في مايو 2015، نشأت أول وزارة، حملت هذا الاسم قصدا، وهي وزارة الهجرة والمصريين في الخارج، وكان ذلك بعد أن فصلت الهجرة عن القوى العاملة، (دون ذكر المصريين في الخارج)، وذلك بعد وزارة أحمد شفيق في فبراير 2011، ووزارة عصام شرف في مارس 2011. وكانت أول وزارة معنية بتلك الفئة المهمة- دون ذكر الاسم بهذا التفصيل- قد نشأت تحت اسم وزارة الهجرة عام 1982، في حكومة فؤاد محي الدين، قبل أن تلغى، وتعود مرة أخرى في حكومة عاطف صدقي الثالثة عام 1993.

سياسات وحوافز، مغريات وخطط، منظومات ومبادرات، كل ما سبق، كانت هي المفردات التي استخدمتها مؤسسات الدولة؛ لتتبع عائد أو تحويلات المصريين في الخارج خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديدًا منذ أن عرفت البلاد أزمة اقتصادية طاحنة، كان أهم مظاهرها الخلل في الميزان التجاري، وزيادة الدين الخارجي، وانخفاض قيمة العملة المحلية، وارتفاع معدلات التضخم، وكذلك افتقاد بوصلة أولويات التنمية بالتركيز على الاستثمار في الطرق، والنقل أو العاصمة الإدارية أو العالمين الجديدة، دون إلقاء أي بال على آراء جمهور المتخصصين.

لم يكن الاهتمام بتلك الفئة الكبيرة، قد ارتبط بالرغبة في تحويل المال فحسب، بل أيضا بالعطاء. فإلى جانب سرعة الاستجابة من قبل الوزارات المختصة ووزارة الخارجية بشكاوى تلك الفئة، والعمل على تيسير احتياجاتها، رغم أن كل تلك التحركات لا زالت في طورها الجنيني، مقارنة باهتمام عديد الدول المتمدينة برعاياها في الخارج، (إلى جانب تلك السرعة)، كانت هناك قرارات شكلية لهذا الاهتمام، منها تمثيل المصريين في الخارج في المجالس النيابية بحكم الدستور عبر كوتة خاصة، حددها قانون مجالس النواب، وقبل ذلك تم منح المصريين في الخارج حق التصويت في الانتخابات والاستفتاءات العامة.

أكثر أسباب الاهتمام بتلك الفئة، إن لم يكن أهمها قاطبة هو تحويلات المصريين في الخارج، هذه التحويلات مربت الاهتمام بها أنها تأتي في قمة مصادر النقد الأجنبي لمصر. هنا من المهم الإشارة إلى أن عدد المصريين في الخارج قد وصل إلى 14 مليون نسمة، حسب تقديرات وزيرة الهجرة والمقيمين بالخارج سهى الجندي. هنا أيضا من المهم الإشارة، إلى أن مصر تعد سادس دولة فى العالم، من حيث تحويلات عمالتها في الخارج، وتعتبر دول الخليج هي الأكبر في استقبال العمالة، وتقف السعودية على رأس البلدان العربية وبلدان العالم قاطبة، من حيث استقبال العمالة المصرية. وكانت تلك الأرقام قد تزايدت بفعل الأزمة الاقتصادية، وهروب المصريين إلى الخارج في السنوات الأخيرة. فوفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، كان عدد هؤلاء عام 2013 هو 4,2 ملايين نسمة، أصبح عام 2017 نحو 10,2 ملايين نسمة بنسبة زيادة 70.4%. وفي العام 2019 أصبح العدد 9 ملايين، وفق بيانات نفس المصدر في 5مايو2021، وكان 4,9 مليون من هؤلاء بنسبة 54,6% من المقيمين في البلدان العربية، ضمنهم 36,6 % بالعربية السعودية، لتشكل تلك النسبة انخفاضا عما كان عليه الحال عام 2017 حيث كان مقيم بالسعودية حسب نفس المصدر 49.9%. كل تلك الأمور ساهمت في زيادة تحويلات المصريين في الخارج، كما ونوعًا، بمعنى زيادة الأعداد، وتواجد الغالبية في بلدان الوفورات المالية، أي بلدان النفط العربي.

ورغم ما يمكن أن يعتبره البعض، أن التحويلات مصدرا من مصادر العملات الأجنبية؛ لأن هناك مصادر أخرى، إلا أن الواقع هو أن تحويلات المصريين في الخارج هي الأهم. فإلى جانب السياحة التي تأتي كثاني أكبر مصدر، هناك قناة السويس المصدر الثالث. أما الصادرات فالأرجح أنها خارج المنافسة؛ بسبب حال الخلل البين في الميزان التجاري؛ بسبب ضخامة الواردات، ما يجعل التجارة المصرية مصدرا؛ لتصدير العملة الأجنبية إلى الخارج، وليس العكس، إن جاز التعبير.

هنا من المهم الوقوف على بعض الأرقام بالمليار دولار- التي يرجع مصدرها إلى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والبنك المركزي المصري. ففي السنة المالية 13/ 2014 كانت السياحة 5,1، وقناة السويس 5,4 وتحويلات المصريين بالخارج 18,5. وفي العام 14 /2015، كانت على التوالي 7,4 و5,1 و19,3 مليار دولار. اختلف الوضع بعد حادث الطائرة الروسية ففي العام 15/2016، كانت العوائد على الترتيب كالتالي 3,8 و5,1 و17,1. وفي العام 16/ 2017، كانت البيانات على التوالي 4,4 و4,9 و21,8. وفي العام 17 /2018 كانت البيانات 9,8 و5,7 و26,4. وفي العام 18 /2019 كانت 12,6و5,7 و25,2. والعام المالي 19 /2020، كانت 9,9 و5,8 و27,8 ،وفي العام 20 /2021، كانت 4,9 و5,9 و31,4. وفي العام 21/2022، كانت 10,7 و7 و31,9 مليار دولار، وفي العام 22/ 2023، كانت 13,6 و9,4 و22,1 مليار دولار.

من تلك البيانات، يتبين أن تحويلات المصريين بالخارج كانت في كل الأعوام المالية السابقة تزيد عن مجموع عائد السياحة، وقناة السويس معا، بل أنها تجاوزت أحيانا، كما في العامين الماليين 17/2018، و20/2021 كل على حدة ضعف المصدرين معا.

وختاما، يثار سؤالان مهمان: ما هي أسباب انخفاض عوائد المصريين في الخارج مؤخرا، وكيف تسعى الدولة إلى استعادة تلك العوائد مرة أخرى؟

بداية يلاحظ من البيانات السابقة، أن تحويلات المصريين بالخارج في ازدياد مستمر، باستثناء العامين الماليين 15/ 2016، والعام المالي 22/2023، ففي العام الأول، كانت الحرب بين نظام 30 يونيو، وجماعة الإخوان المسلمين على أشدها، وقد اتهمت الأخيرة بشراء مدخرات المصريين بالخارج لحرمان نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، من الحصول على أية مكاسب، وهنا كان الانخفاض بنسبة 11.4 % مقارنة بالعام السابق له. أما العام المالي 22/ 2023، فكانت الخسائر أكبر بكثير، حيث كان هذا الانخفاض الضخم قد بلغ 30.8%. أما عن سبب الانخفاض هذه المرة؛ فكان تذبذب سعر صرف الجنيه هو العامل الأكبر، لأن وجود سوق موازية، ووجود فارق كبير بين السعر الذي حدده البنك المركزي، وذاك الذي حدده الشارع وفق قواعد العرض والطلب، جعل المقيم بالخارج يعزف عن الطرق القانونية في تغيير العملة الأجنبية التي يمتلكها. من ناحية ثانية، وارتباطا بما سبق قام الكثير من المصريين بالخارج، وغير المحتاجين لتحويل رواتبهم إلى العملة المحلية بشكل عاجل، بادخار ما يملكونه، تحسبا للمزيد من رفع أسعار العملات في السوق الموازية. إضافة لما تقدم، كان التضخم الكبير الذي ضرب البلاد ولا زال، خاصة في أسعار الغذاء ومواد البناء، وكذلك ضعف الرواتب، وفقا لما أشارت إليه وزيرة الهجرة والمصريين بالخارج سهى الجندي، أثره على ضعف تحويلات المصريين بالخارج. وأخيرا وليس آخرا، يعزو البعض انخفاض التحويلات إلى عدم ثقة بعض المصريين في الخارج بالنظام السياسي في الداخل، هنا يمكن الإشارة على سبيل المثال، لا الحصر إلى انتخابات الرئاسة السابقة، وما شهدته من مضايقات السفارات بالخارج، لمن أرادوا توكيل منافسين للرئيس السيسي. وقد لاحظ المراقبون، أن التوكيلات الـ 14 ألف التي جمعها المرشح المحتمل أحمد الطنطاوي رغم التضييق عليه، كان أكثر من ثلثيها من الخارج، وقد ألقى بها في سلة المهملات لعدم وصول جملة التوكيلات إلى 25 ألف توكيل، بسبب تلك المضايقات السخيفة التي قوبل بها الراغبين في عمل توكيلات للمرشح المنافس في الداخل قبل الخارج.

جراء ذلك سعت الدولة؛ لتوجيه عدة رسائل لحث المصريين في الخارج على تحويل مدخراتهم إلى الداخل، لذلك قامت في الأشهر الأخيرة- مستعينة بخبرة الهند، وهي الدولة الأولى في استقبال التحويلات من عمالتها في الخارج- بعدة أمور منها:-

1- تسوية الموقف التجنيدي للمصريين المقيمين بالخارج، وذلك مقابل دفع مبلغ 5 آلاف دولار، نظير عدم الملاحقة القانونية عند العودة للبلاد.

2- تخفيض الجمارك على السيارات القادمة من الخارج، مع إلغاء تصديقات الاستيراد والاعتمادات المطلوبة، وذلك بنسبة 70 %، مقابل دفع الـ 30 % الباقية في صورة وديعة بالعملة الأجنبية. مع مد فترة هذا العرض إلى 5 سنوات؛ للتسهيل على من حصل على سيارته بالتقسيط من أحد معارض السيارات بالخارج.

3- معاش بكرة بالدولار، وهي مبادرة لشركة مصر لتأمينات الحياة بالتعاون مع البنك الأهلي المصري، حيث أطلقت أول وثيقة رقمية بهذا الاسم للمصريين بالخارج، وذلك بتوفير الحماية التأمينية لهؤلاء، وهي تتيح 3 اختيارات للحصول على قيمة الوثيقة عند الوصول إلى سن الاستحقاق المتفق، عليه حسب رغبة حامل الوثيقة. وتتيح الشركة الوثيقة للأفراد من عمر 18عاماً، وحتى 59 عاماً، ويبلغ الحد الأدنى لقسط التأمين الوحيد هو 500 دولار، والحد الأقصى 10 آلاف دولار لكل وثيقة خلال العام، ويمكن إضافة أقساط بحد أدنى 50 دولارا لكل قسط بغرض زيادة المعاش.

4- مبادرات وحدات الإسكان المتوسط الذي تطرحه هيئة المجتمعات العمرانية عبر التمويل العقاري بالدولار، ضمن هذه المبادرة يفتح الباب أمام المقيمين بالخارج الراغبين في شراء هذه العقارات.

5- شهادة «القمة» بعائد 9 % سنويًا، هي شهادة اسمية تصدر للمصريين والأجانب، ويصرف العائد مقدمًا لـ 3 سنوات 27 % تراكمي بالجنيه، وشهادة «إيليت» بعائد 7 % سنويًا، وهي شهادة اسمية، تصدر للمصريين والأجانب، ويجري صرف العائد ربع سنوي بالدولار.