نقطة الضعف في مصر الحديثة من محمد علي باشا، حتى يومنا هذا، تتلخص في عقيدة من كلمات معدودة، وهي أن قوة الحكم تعني إضعاف حيوية المجتمع، والتحكم فيه والتسلط عليه، وكبت روح المبادرة وسحق أي بادرة للاختلاف، أو التنوع أو التعدد.

هذه العقيدة لم تكن وليدة رغبة شخصية للحكام، سواء من سلالة محمد علي باشا، أو من ورثتهم من ضباط الجيش في العهد الجمهوري، لكن كانت وما زالت رد فعل مباشر من السلطة، على ما يمتاز به المجتمع المصري من حيوية عبقرية، تفوق ذكاء الحكم وقدرته على تنظيم هذه الحيوية، وترشيدها وخلق مسارات عقلانية تجري فيها، وتعبر عن نفسها من خلالها، رد فعل السلطة، هو ابن الواقع الموضوعي أكثر منه نتاج لرغبات طغيانية دفينة لدى الحكام، هذا الواقع الموضوعي يقول، إن حيوية هذا الشعب تحتاج حكماً مرناً مثقفاً حكيماً صبوراً رشيداً، ينظر إلى حيوية الشعب، على أنها إمكانات ومعطيات وقدرات وموارد للتقدم، وليست تحديات ومخاطر وتهديدات لأمن الحكام ومصالحهم ومطامحهم ومطامعهم. غياب الفهم الصحيح من طرف الحكام لإمكانات المصريين، تجعلهم يخافون هذا الشعب، ومن ثم تجعلهم يفكرون في كيف يسيطرون عليه، ويضعونه تحت التصرف المطلق، سواء بالكرباج في حقبة الباشا وذريته أو بسوط الوطنية، وسجونها وأغانيها وإعلامها وطوارئها وبيروقراطيتها السيادية والأمنية والإدارية المتضخمة، والنافذة إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية للمصريين في عهود الرؤساء من ضباط الجيش.

تاريخ الدولة الحديثة، لأكثر من مائتي عام، هو كيف يسيطر الحاكم الفرد على مؤسسات الدولة، ثم كيف تسيطر مؤسسات الدولة على المجتمع، ثم كيف يتم وضع المجتمع في حالة صفر حراك، وصفر همة، وصفر مبادرة، وصفر صوت، وصفر همس وصفر اعتراض أو احتجاج، هذه هي صورة الحكم المثالي الناجح في تقاليد وأعراف وأفكار وممارسات الدولة الحديثة، صورة بسيطة تتكون من عنصرين: دولة غالبة، ومجتمع مغلوب، حاكم قاهر ومحكوم مقهور، آلة حكم صارمة وبنية اجتماعية هشة ضعيفة، لا تقوى على رفع رأسها أو نصب قامتها أو النظر في وجه حاكمها الذي هو- بحكم الواقع- سيد ساداتها.

هذا التاريخ- على مدى قرنين من الزمن- هو المسئول عما وصلنا إليه، هو المسئول عن لحظة الاضمحلال الحضاري التي تعيشها مصر، اضمحلال يحول بينها، وبين أن تُلهم نفسها أو تلهم جوارها الإقليمي، أو تلمع منها بارقة نجاح أو نبوغ أو تفوق، يراها العالم المعاصر أو يسمع بها أو يقف عندها. فقدان الإلهام للذات وللغير نابع من الإحباط التاريخي المتواصل لطموحات المصريين، والهدر المستمر لإمكاناتهم، وشل قدرتهم وصرف حيويتهم عن الفعل إلى الكبت، ثم إلى العجز، ثم إلى اليأس، ثم إلى فقدان الثقة بالنفس، ثم الوقوف العاجز أمام الحوادث لا حراك ولا همة ولا إرادة.

حتى كبار حكام الدولة الحديثة مثل محمد علي باشا، والخديوي إسماعيل والرئيس جمال عبد الناصر، صحيح كانت لهم مطامح كبيرة لنهضة عظيمة، لكن الثلاثة اعتمدوا على آلة الدولة لا على روح الشعب، اعتمدوا على قهر البيروقراطية، على العسف من أعلى لا على مبادرات المصريين، وانطلاق هممهم وعزائمهم، لهذا انتهت مشاريعهم كما بدأت، نجحت في البداية، ثم أخفقت في نهاية الأمر، فلم تكمل طريقها، ولم تصل إلى غايتها، ولدت مبتورة، ولدت من دولة في حالة قهر للمجتمع، لا من دولة تتضافر جهودها مع جهود المجتمع الطبيعية غير المصطنعة بقرارات رسمية، وتحكمات إدارية وتوجيهات بيروقراطية.

القوى الحيوية الكامنة لدى المصريين هي من حافظت على مسيرة مصر في أشد لحظات الإخفاق، هي التي مكنت المصريين وما زالت تمكنهم من سد ثغرات الدولة، وعلاج نقاط ضعفها ودفع فواتير فشلها، وتحمُل تخبط سياساتها والعبور بالبلد إلى بر الأمان، القوى الحيوية الكامنة لدى المصريين، هي من حركتهم لقيادة المشهد العام بعد إفلاس، ثم عزل إسماعيل، وهي من دفعتهم لأعلى مستويات التضحية والفداء بعد هزيمة عبد الناصر، وهي قبل ذلك من دفعتهم للثورة على نابليون، ومن حافظت على هويتهم طوال سبعة عقود من الاحتلال البريطاني المباشر.

…………………………………………………………………………

لكن تبقى الملاحظة هي أن حيوية المصريين تظهر في ثلاث لحظات تاريخية:

1 – لحظة يزداد فيها عنف السلطة بصورة زائدة عن الحد، مثل عنف سلطة الاحتلال البريطاني في السنوات من 1914- 1918م ، عنف كان من الشدة والحدة، بحيث فجر ثورة من أعظم ثورات الشرق، ضد أعتى امبراطوريات التاريخ، وهي ثورة 1919 م .

2 – لحظة تشيخ فيها السلطة، وتنقسم من داخلها، وتفقد مصداقيتها لدى حلفائها الدوليين، كما تفقد هيبتها لدى عموم الناس، مثلما حدث في أواخر زمن الخديوي إسماعيل؛ فتفجرت الثورة العرابية، ثم في أواخر زمن الملك فاروق؛ فتفجرت ثورة 23 يوليو 1952م، ثم في أواخر زمن الرئيس مبارك؛ فتفجرت ثورة 25 يناير 2011 م. الثورة العرابية كانت نصف مدنية نصف عسكرية. ثورة 23 يوليو 1952م عسكرية، بترحيب مدني. ثورة 25 يناير 2011 م ثلث مدني، وثلث عسكري، وثلث ضغط أجنبي.

3 – لحظة تنهار فيها السلطة، وتتعدد مراكزها، وتتصارع ولا تملك أي منها القدرة على حسم القرار، ولا فرض القانون ولا الحفاظ على مركزية الدولة، حدث ذلك بعد رحيل الحملة الفرنسية، تفتت السلطة بين المماليك والعثمانيين والإنجليز، انسحب الإنجليز بضعوط دولية، بقي المماليك والعثمانيون، وكلاهما خارت قواه، وبات أضعف من أن يحكم، وأهون من أن يفرض كلمته، بينهما ظهر الشعب، ظهرت قوة الشعب في أوضح ما تكون، رفض الشعب سلطة هؤلاء وأولئك، وفرض محمد علي باشا على رأس السلطة.

من هنا بدأت فكرة الدولة الحديثة، أو السلطة الواحدة الموحدة المركزية، قضى الباشا على تعدد مراكز السلطة، احتفظ بسلطة اسمية للسلطان العثماني، استأصل سلطة المماليك بكافة الأشكال من عنف المذابح، حتى الاحتواء، استأصل السلطة الشعبية بالمناورات وبالقرارات وبالترغيب والترهيب، وضع العنف ركيزة كامنة في بنية الدولة الحديثة، عنف منهجي منظم، يستهدف إخضاع المجتمع بالكلية، وتطويعه تماماً لإرادة الحكم، إخلاء المجتمع من روح المبادرة، نزع روح القيادة، تحريم وتجريم أي كيان له صفة سياسية أو سلطة شعبية أو حظوة جماهيرية، فقط المسموح به هو سلطة الدولة، وأجهزتها البيروقراطية. ثم تعمقت جذور العنف الكامن في بنية الدولة، وفي تسلطها على المجتمع- بصورة أقوى- مع دولة 23 يوليو 1952م التي تحكم حتى اليوم والغد، مع فارق أنه عنف يمارسه نوع جديد، وغير مسبوق من الحكام، فهم حكام مصريون من أبوين مصريين، ومن عمق الطين المصري ومن بيوت متوسطة الحال مثل بيوت الأغلبية الكاسحة من المصريين، العنف الكامن في دولة الباشا، وذريته كان عنف التأسيس، العنف الكامن في دولة الضباط هو عنف النضج والاكتمال، عنف ذاتي، عنف ملفوف في أغلفة الوطنية، عنف مقدس.

مشكلة هذا المنهج، منهج تقوية الدولة بإضعاف المجتمع، هو دورات الاضمحلال المتعاقبة كل فترة من الزمن، فلا تكاد تنهض الدولة، حتى تتعثر، ثم تتنكب طريقها، ثم تصطدم بحائط مسدود، وفي كل مرة، يخرج المجتمع المرهق المنهك المكدود؛ لإنقاذها وإقامة جدارها، بعدما انقض واقعاً على الأرض، حتى في الفترات التي انهزم أو انحل فيها الجيش، كان المصريون هم الجيش، حدث ذلك عندما انهزم العرابيون، ثم بعد أن صدر قرار بحل رسمي بحل الجيش ذاته، ثم لما وضع الإنجليز سيطرتهم على الجيش، فلم يكن أكثر من شرطة عسكرية تعمل في خدمتهم، ثم لما وقعت الهزيمة في 1976م، في كل هذه المرات كان المصريون هم الجيش. كذلك عندما اغتصب الاحتلال صلاحيات الحاكم المصري، ونزعوا منه مقومات السيادة، كان المصريون هم التجسيد الوطني لفكرة السيادة، والاستقلال والكرامة الوطنية.

…………………………………..

السؤال: كيف نجمع بين قوة الدولة وحيوية المجتمع؟

هذا يستدعي الاقتناع، بأن قوة الدولة الحديثة تقوم على أمرين: ترشيد السلطة، وعدم إطلاقها وإخضاعها للمساءلة والمحاسبة، وإطلاق العنان لطاقات المجتمع وقدراته ومبادرات أفراده.

كما يستدعي لفت الانتباه، إلى أن الحضارة الغربية المنتصرة التي نعيش تحت ظلالها، نهضت على روح المبادرات الفردية، فهذه المبادرات الفردية- وليست الدولة- كانت وراء تأسيس الأركان الأربعة للحضارة الغربية، وهي: الرأسمالية، ثم الكشوف الجغرافية، ثم الاستعمار، ثم الثورة الصناعية، هذه الأركان الأربعة التي قام عليها التفوق الغربي الذي يطوي الكرة الأرضية تحت قبضته، كان منشؤه مبادرات أفراد متحررين غير مكبلين، ولم تكن وليدة سياسات مرسومة من الدولة.

كيف نفعل ذلك عندنا في مصر؟

ذلك مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.