في مفهومي، الاستثمار في الصحة، والرعاية الصحية، تلتبس الأمور على كثيرين، ممن يروجون لوجود فجوة تمويلية في القطاع الصحي، والخدمات العامة؛ بسبب ضعف التمويل الحكومي في هذا القطاع الحيوي المرتبط بالتنمية البشرية، وحالة السكان الصحية، والعبء المالي للمرض الواقع عليهم، وبين جودة هذه الخدمة، ورضاء مقدميها عن عوائدهم منها.
قد يدفع هذا اللبس المواطنين لفقدان الثقة في هذا القطاع من ناحية، ويدفع مقدمي الخدمة؛ للهجرة إلى الخارج، أو إلى القطاع الخاص الذي يحقق لهم ربحية عالية.
وفي العشرية الأخيرة، ومع تصاعد التحديات المختلفة للوضع الصحي العام، وصعوبات تطبيق قانون التأمين الصحي الشامل الجديد، وتبني كثير من متخذي القرار الصحي، بشكل متكرر ومتصاعد مقولة، ألا حل لغلق فجوة التمويل تلك، سوى تشجيع القطاع الخاص الأجنبي/ الخليجي على الاستثمار في الخدمات الصحية، ما أعطى انطباعاً خاطئاً، أن أصحاب الأموال والمستثمرين من غير المصريين “أجانب وخليجيين”، سيسارعون للاستفادة من هذا القطاع الذي يخدم أغلبية من السكان، يقبعون بالفعل تحت خط الفقر الدولي والمحلي؛ ليقوموا بإنشاء مستشفيات ومراكز ومعامل وخلافه، توفر خدمات صحية جيدة للسكان الفقراء وغير القادرين، خاصة في الريف وجنوب البلاد والمناطق النائية.
هذه الفكرة أحد الأوهام الكبرى؛ لحل المشكلة الصحية؛ لأن هذا المستثمر الخاص بطبيعة الحال، سيقدم خدمة بأجر محمل بكل نسب الأرباح الممكنة، والمبالغ فيها، التي تعظم بطبيعة الحال من استثمار هذه الأموال، مقارنة بوضعها مثلا في بنك من البنوك كودائع، أو في البورصة في أحسن الأحوال، وبهذا يصبح مفهوم الاستثمار في الصحةــ وصحتنا خاصةــ كهدف للربح المادي المباشر على حساب، من يستطيع من المواطنين دفع فاتورة هذه الخدمات، وهم لا يزيدون عن 10 % من الشريحة العليا في الهرم الاجتماعي في أفضل الأحوال.
وبهذا، فإنهم في واقع الحال لا يغلقون الفجوة التمويلية، أو فجوة إتاحة الخدمة الصحية لغالبية السكان غير القادرين، وإنما يساهمون في تعميق هذه الفجوة من ناحية، الإنصاف والعدالة الاجتماعية والتميز الطبقي.
لا يمكن لمستثمر خاص خليجي مثلا، الذهاب إلى حلايب وشلاتين أو سيوة مثلا، أو قنا وريفها الفقير، أو بني سويف؛ لإنشاء مستشفى عالي التقنية، أو أن يتوجه لقرى سوهاج الفقيرة؛ لإنشاء وحدة طب أسرة؛ للتعامل مع مرضى في أغلبهم، يحتاجون إلى الدعم؛ لمواصلة سبل الحياة الأساسية؛ وليس العلاج الخاص عالي الكلفة.
وهنا يبرز تناقض مفهوم الاستثمار في الخدمات الصحية من هذه الزاوية، في المقابل هناك مفهوم آخر اجتماعي، واقتصادي أدق للاستثمار في الصحة، يمثله إنشاء نظامنا الجديد الشامل للتأمين الصحي، والذي يؤسس بصندوق مالي ضخم؛ لتجميع وتوزيع مخاطر المرضى المالية، وتوفير موارد مالية مدروسة، وفق دراسات اقتصادية اكتوارية مدققة عن اشتراكات القادرين والأعلى دخلاً كنسبة من إجمالي دخولهم، إضافة إلى نصيب مقدم من الخزانة العامة (الدولة)، لغير القادرين كدعم، ثم نصيب ثالث من مصادر أخرى مجتمعية، تسمى رسوم مخصصة للصحة ” ear marked taxes” على التبغ ومشتقاته وعلى الصناعات الملوثة، ورخص السيارات والطرق وخلافه.
هنا يتشكل طرف ثالث قوي للحماية الصحية، أو صندوق قومي مالي” risk pool”، مملوك للنظام الصحي، قد يصل حجمه في ملائته المالية القصوى في بعض التقديرات إلى أكثر من 600 مليار جنيه مصري سنويا، من مصادره الثلاثة المذكورة، بحيث يحمي المواطنين من عبء المرض المالي، خاصة الأفقر، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة في 2030، التي تسعى إلى زيادة متوسط نصيب الفرد من الإنفاق الصحي العام، وإلى خفض نسبة ما ينفقه من الجيب على الخدمة الصحية، إلى أقل من 10 % قياسا للوضع الحالي المختل غير المنصف الذي يصل إلى قرابة 70 % من الإنفاق الكلي الصحي “oops”.
ما يعد استثمارا عادلا، يستطيع تمويل الخدمات الصحية لمستوياتها الثلاثة لجميع المصريين، دون تمييز أو وصم أو صعوبات مالية، تؤدي إلى مزيد من إفقار الفقراء.
وهذا المسار يستطيع انعاش وتنظيم الخدمات الصحية الطبية؛ لأنه سيقوم بدور طرف ثالث بين متلقي الخدمة ومقدمها، وشراء الخدمة من القطاعات والخدمات الطبية المختلفة، سواء كانت مملوكة للقطا ع الخاص والأهلي أو القطاع العام الحكومي، في شراكة بينهما بنفس معايير الجودة، وفق تسعير مقنن مدروس بحسابات تكلفة واقعية، وتدخلات مدروسة؛ بناء على الفرص البديلة للخدمة الأكفأ والأرخص، دون صناعة ما يسمى بـ “الطلب المزيف” على الخدمة؛ لتحقيق أرباح مبالغ فيها، وخاصة في الخدمات المكملة، كالتحاليل والأشعات والأدوية، وخلافه من التكنولوجيا الطبية عالية التكلفة.
هذا هو مفهوم الاستثمار الصحيح التنموي، إلى جانب توفير الأساسيات الصحية، كمياه الشرب النقية والصرف الصحي، وخلافه من محددات التغذية والتعليم والسكن الأمن.
وهي مجالات تخرج من التسليع في المدى الطويل والتنموي، ويظل هناك جانب آخر، يستحق التحذير منه، وهو مفهوم الاحتكار في مجالات الخدمة.
هذا الاحتكار، يعرف علميا بسعي الجهات الخدمية؛ لتملك حصص سوقية في مؤسسات عامة، تمكنها من التحكم في السعر، وفرضه على المواطن، ولا تؤثر فيها المنافسة التي تخفض من السعر، عندما تمتلك نسبة أعلى من 50 % غالبا، من حجم هذه الخدمات الطبية العامة.
كما أن الاستثمارات الاحتكارية هذه تشهد مضاربة مالية في البورصة، دون قيمة مضافة حقيقية، ما يؤثر على حركة السوق، وأسعار الخدمات، وإمكانية إتاحتها للمواطنين في ظل نظام صحي يخطو بصعوبة نحو محاولات إصلاح تأمينية شاملة وعادلة.
كما يهدد النظام الجديد بالفشل المالي، وذلك ما يجعلنا، نحذر من تصاعد هذا النزوع بحجة، أنه استثمار في الرعاية الصحية، فالواقع أنه مجرد استحواذ، ومضاربة مالية على الأسهم في البورصة، تساهم في تزايد التضخم المالي في القطاعات الصحية، دون أن تترك قيمة مضافة إليها، وتساهم في اتساع فجوة العدالة الاجتماعية، الموجودة بالفعل، وفي عدم إتاحة الخدمات لغالبية السكان جغرافيا وماليا، بل تفرغ قانون التأمين الصحي من مضمونه وفلسفته الأساسية.
شاهد الفيديو التالي: