أهمية زيارة أردوغان لمصر أمس بعد قطيعة، دامت 11 عاما، أنها تفتح الباب لنمط متحضر لإدارة الخلافات بين الدول، وترسل بعض الدروس والعبر، عما جرى بين البلدين على مدار أكثر من عقد من الزمان.
وقد تبادل البلدان الاتهامات السياسية طوال السنوات الماضية، واختلفا على الأرض في أكثر من بلد أبرزها ليبيا، ودخلا في مناكفات على غاز المتوسط وقضايا ترسيم الحدود، ثم قررا استعادة العلاقات الطبيعية بينهما بعد مصافحة رئيسي البلدين الشهيرة في افتتاح بطولة كأس العالم في قطر، ثم جاءت زيارة أردوغان لمصر؛ لتؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين.
والحقيقة أن هذه الزيارة لا يمكن وصفها بالزيارة العادية، لأنها تجاوزت مجرد عودة العلاقات بين بلدين، اختلفا في السياسية؛ لتصل إلى مراجعة المعيار الأيديولوجي الذي على أساسه، تعمقت الخلافات، ثبت مع الوقت، إنه ليس هو المعيار الأساسي في تحديد العلاقات بين الدول.
المؤكد أن الخيار التركي باختزال مصر، والعالم العربي في تيارات الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، واعتبارها هي فقط التي على صواب، كان خطأ كبيرا، كما أن تجاهل مصر لقوة تركيا، وحضورها الإقليمي والدولي، وتجاوز البعض في الهجوم؛ ليصل إلى الإساءة للشعوب، كان أيضا خطأ.
إن تصور أي بلد، أنها يمكن أن تختار حلفاءها تبعا للتوجهات السياسية للنظام القائم، كما فعلت تركيا مع مصر ثبت خطأه، فلا أحد يتخيل أن معيار إقامة علاقة مع أي دولة، هو أن تشاركها توجهاتها السياسية، كما كان يحدث أثناء الحرب الباردة، ويصبح مطلوب أن تقطع الدول التي تحكمها أحزاب يسارية علاقاتها مع الدول التي تحكمها أحزاب يمينية، أو تقطع النظم الملكية علاقتها بالنظم الجمهورية وهكذا.
فيقينا، من حق تركيا أن تبني نموذجها السياسي وفق تاريخها، وسياقها الاجتماعي والسياسي وكذلك مصر، حتى لو كان كلا النموذجين مختلفين؛ فالمطلوب هو البحث عن المصالح المشتركة وبناء شراكات اقتصادية وسياسية، تعود بالنفع على الشعبين، وحتى لو كان التقارب في التوجه السياسي يعزز من عمق العلاقات بين الدول، إلا أن الخلاف في التوجهات السياسية لا يعني قطعها.
إن أحد الدروس الأخرى المستفادة من زيارة الرئيس التركي لمصر، تتعلق بأهمية احترام الشعوب وعدم الإساءة لها، حتى في ظل الخلافات السياسية، وهي تجربة مريرة؛ بسبب إساءة بعض الإعلاميين في مصر لشعوب، اختلفت مع نظمها السياسية، مثلما جرى مع قطر وتركيا، ثم عادت العلاقات معهما إلى وضعها الطبيعي، وبقيت الإساءات في الذاكرة.
من المهم أيضا الإشارة، إلى أن دلالة أن يبدأ أردوغان بزيارة مصر، تكمن في عملية الرجل، وهو أمر لم تعتبره تركيا انتقاصا منها؛ لأنها ركزت على المضمون والهدف الاستراتيجي من عودة العلاقات، بعيدا عن أي شكليات خاصة، أنها تنوي أن تضخ مزيدا من الاستثمارات في مصر، وأن تبيع مزيدا من الطائرات المسيرة، بما يعود بالنفع على كلا البلدين.
لا يمكن فصل عملية أو برجماتية أردوغان عن طبيعة نموذجه السياسي الذي أسس لخبرة سياسية، تطورت مع الزمن، دون قطيعة، وأن بدايته الأولى كانت إقصائية، وفرضت نموذجا حداثيا علمانيا، يستبعد الدين من المجال العام، وليس فقط المجال السياسي، فمنعت ارتداء الحجاب، وجعلت الأذان باللغة التركية، وأممت المؤسسات الدينية، ولكنها في نفس الوقت فصلت الدين عن السياسة، وهي قيمة ظلت باقية على مدار 100 عام، هي عمر الجمهورية التركية رغم تغير نظمها الحاكمة.
فأردوغان الذي بدأ حياته السياسية في حزب السلامة الوطني الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان في اكتوبر 1972، وظل يعمل بشكل شرعي لمده 8 سنوات، حتى أغلقه الجيش عقب انقلاب 1980؛ ليعود في عام 1983 تحت مسمى جديد، وهو حزب الرفاه الذي حصد أكثر من 400 بلدية، واستطاع تشكيل حكومة جديدة في منتصف التسعينيات، انتهت بحظره في 1998.
وانشق أردوغان بعملية شديدة عن حزب الرفاه، وأسس حزب العدالة والتنمية، واعتبره حزبا محافظا ديمقراطيا، وليس إسلامي أو ديني، وأسس لنظام علماني متصالح مع القيم الدينية، ودعم عودة المظاهر الدينية في المجال العام (رفع الحظر عن الحجاب في المؤسسات الحكومية والبرلمان، الاحتفالات الدينية وغيرها) وليس المجال السياسي كأيديولوجية دينية، كما لم تعد مسوغات وجود الأحزاب الدينية هي العداء للجمهورية العلمانية، إنما اصبحت صور ومبادئ أتاتورك محل قبول من أردوغان، ولم يحاول أن يقوض إرث أتاتورك، إنما تقبل جوانب كثيرة منه، حتى لو كانت بداياته الأولى رافضة لهذا الإرث.
لقد انتقل أردوغان من مرحلة العداء للجمهورية العلمانية، أثناء عضويته في حزب السلامة الوطني، أو حزب الرفاه إلى التطبيع مع جوهر مبادئها، ورفع الخصومة ببين المتدينين وبين الجمهورية العلمانية، وهو إنجار كبير، أن تؤمن الأحزاب المحافظة بقيمة مدنية الدولة، وبنسبية الأفكار التي تطرحها وقبولها بتداول السلطة، وربما اعتبارها هي التي حمت تركيا من مصائر سوداء، شهدتها بلدان إسلامية أخرى، حين تحول الدين إلى أيدلوجية سياسية إقصائية.
إن “برجماتية” أردوغان التي أوصلته للسلطة، وأبقته فيها ما يقرب من ربع قرن، هي التي دفعته، أن يعيد علاقاته مع مصر بعد 11 سنة من القطيعة، وأن يكتشف أن موقفه منها كان موقفا عقائديا مناقضا لجوهر مشروعة الفكري، وخبرته السياسية القائمة على العملية الشديدة، وعلى قدرة فائقة على التحول وتحقيق مكاسب لوطنه ولحزبه السياسي.
ستبقى هناك أهمية في البناء على هذه الزيارة، في أخذ عبر ودروس، أهمها عدم انجرار الإعلام نحو اتهامات فيها إهانة، وإساءة للشعوب، وأن يظل الخلاف والاتفاق في إطار القضايا السياسية، وحول مواقف وتوجهات محددة، تحل أو تناقش بالحوار والتواصل، وليس بالشتائم والاتهامات المسيئة.